«ما يجري اليوم في الضفة الغربية ليس بناءً عابرًا لمستوطنات جديدة، بل إعادة هندسة شاملة للأرض الفلسطينية». هكذا عبر أمير داوود، مدير عام دائرة الخرائط في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، عن رؤيته للتجمع الاستيطاني الذي وافقت الحكومة الإسرائيلية على بنائه في مستوطنة غوش عتصيون بين مدينتي القدس والخليل، جنوبي الضفة الغربية.
داوود يقول، في تصريح لـ«عُمان»، إن المخطط يمثل جزءًا من استراتيجية إسرائيل لتكريس وجودها في الضفة الغربية من خلال ربط المستوطنات الصغيرة وابتلاع الأراضي الفاصلة. مضيفًا أنّ الهدف الأساسي من هذه التكتلات هو السيطرة التامة على الأراضي الفلسطينية وتحويلها تدريجيًا إلى مناطق مغلقة يصعب الوصول إليها.
تكتلات استيطانية متمددة
وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلية قد صادقت على بناء 1300 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة غوش عتصيون، جنوبي الضفة، تشمل مدارس ومرافق عامة وحدائق ومنطقة تجارية واسعة لخدمة المستوطنات المجاورة، في خطوة تعكس إرادة ربط جنوب الضفة بوسطها ضمن شبكة متصلة من المستوطنات، بما يعزز ما يُسمى بالضم الصامت. وتتزامن هذه المصادقة مع دراسات إسرائيلية لبناء أكثر من ألفي وحدة إضافية في ثماني مستوطنات أخرى، مما يعني مصادرة نحو ألف ومئة دونم من الأراضي الفلسطينية.
ويرى داوود أنّ هذا التوسع ليس عشوائيًا، بل جزء من خطة مدروسة لتفتيت النسيج الجغرافي الفلسطيني وربط المستوطنات بشبكة طرق خاصة وآمنة، ما يتيح السيطرة الكاملة على المحاور الحيوية. وبالرغم من وعود إسرائيل للإدارة الأمريكية بعدم المضي في الضم الرسمي، إلا أن الواقع على الأرض يبين أن مشاريع البناء تتسارع يومًا بعد يوم، فيما تتضاءل فرص أي ردع دولي فعّال.
ويشير داوود إلى أنّ المخطط لا يقتصر على البناء السكني، بل يشمل شق طرق التفافية، إقامة الجدران العازلة، وإنشاء مناطق صناعية ومرافق عامة، بهدف تحويل القرى الفلسطينية إلى «جزر معزولة» تفقد العمق الجغرافي وقدرتها على التوسع، وهو ما يصفه بالمخطط الأكثر خطورة في مراحل الضم الصامت.
أراضٍ مسلوبة
في قرية بيت أمر شمال الخليل، يقف المزارع محمود الزعبي على حافة أرضه التي باتت اليوم على مرمى حجر من الجرافات الإسرائيلية. يقول بحزن إنّ الأشجار التي زرعها والده قبل خمسين عامًا لم تعد محمية كما كانت، إذ تمت مصادرة أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية بحجة توسيع «المنطقة الخضراء» الخاصة بالمستوطنات. ويضيف: «في كل مرة نزرع فيها، يأتون ليقولوا إن الأرض ضمن حدود التنظيم الجديد، ثم يمنعوننا من الاقتراب».
يصف الزعبي خلال حديثه لـ«عُمان» هذا التمدد بأنه «ضم بدون إعلان»، فالأرض التي كانت تحت سيطرته أصبحت محاطة بأسوار وأسلاك شائكة، بينما أُقيمت في الجهة المقابلة مدرسة إسرائيلية جديدة.
بصوت مرتجف: «هم لا يريدون فقط مصادرة الأرض، بل يريدون محو الذاكرة التي تربطنا بها»، مشيرًا إلى أنّ الخطر الأكبر يكمن في «تقطيع القرى» بحيث يصعب التنقل بينها.
ويرى أنّ المشكلة لا تتعلق بالمساحة وحدها، بل بالمعنى، إذ يشعر الفلسطينيون في تلك المناطق بأنهم «يُخنقون تدريجيًا»، وأنّ كل بيت جديد في لمستوطنات يعني بيتًا فلسطينيًا مهددًا بالإزالة أو العزلة. ويضيف: «حتى إن بقيت الأرض ملكًا لنا على الورق، فإن الوصول إليها أصبح مستحيلًا عمليًا».
ويختم قائلاً: «الضم ليس قانونًا يُعلن، بل طريقًا يُشق، ومستوطنة تُبنى، وقرية تُحاصر. هذه حياتنا منذ سنوات، ولا أحد يسمع».
قرى معزولة
من جهة أخرى، ترى نورا عواد، وهي معلمة من بلدة بيت لحم، أنّ مشروع غوش عتصيون سيزيد من عزلة بلدتها التي تقع على الطريق بين القدس والخليل. تقول إنّ الطرق الجديدة التي تُشق لخدمة المستوطنين «تقطع أوصال القرى الفلسطينية وتجعل التنقل بينها يستغرق أضعاف الوقت».
تضيف خلال حديثها لـ«عُمان» أنّها كانت تحتاج عشرين دقيقة للوصول إلى مدرستها في قرية مجاورة، لكنها الآن تستغرق أكثر من ساعة بسبب الحواجز الجديدة والتحويلات الأمنية. «لم يعد المكان واحدًا كما كان، فهناك شوارع للمستوطنين فقط، وأخرى للفلسطينيين، وكل شيء صار منفصلًا حتى الهواء الذي نتنفسه»، تقول بأسى.
وترى عواد أنّ هذه السياسات لا تقتصر على البنية الجغرافية، بل تمتد إلى الحياة اليومية، إذ تقلص فرص العمل وتحدّ من الحركة التعليمية والاجتماعية. «حين يُغلق الطريق، يُغلق الأفق»، تضيف. وتشير إلى أنّ طلابها بدأوا يفقدون الأمل في مستقبل واضح، لأنهم «يشعرون بأن الأرض تضيق من حولهم».
وتقول: «حين يتحدثون عن بناء وحدات جديدة، لا نراها مجرد أبنية، بل نراها جدرانًا جديدة تُقام بيننا وبين أحلامنا».
حلم يتلاشى
أما كريم ناصر من بلدة الخضر، فيرى أن ما يجري هو «تدمير ممنهج لفكرة الدولة الفلسطينية» عبر خطوات ميدانية صغيرة لكنها متراكمة. ويقول إنّ الاحتلال يحوّل الضفة الغربية إلى «خريطة ثقوب»، إذ لا يبقي للفلسطينيين سوى بقع متناثرة بلا تواصل أو حدود طبيعية.
يضيف ناصر أنّ الفلسطينيين باتوا يشعرون أنّ كل مشروع بناء استيطاني جديد «يمحو جزءًا من حلمهم الوطني»، وأنّ الحديث عن مفاوضات أو سلام أصبح «ترفًا سياسيًا» أمام واقع يُفرض بالقوة. ويقول لـ«عُمان»: «الضم ليس مسألة قرار حكومي فقط، بل هو سلوك يومي يُمارس على الأرض».
ويروي كيف أُجبر على ترك قطعة أرض كان يزرعها قرب الجدار الفاصل، بعد أن تم إعلانها «منطقة عسكرية مغلقة». ومنذ ذلك الحين، باتت تلك الأرض جزءًا من المخطط الجديد لتوسيع المستوطنة القريبة. ويقول: «كلما أُقيمت وحدة جديدة، تقترب النهاية أكثر. كأننا نُسحب ببطء من أرضنا».
ويختم قائلاً: «هم يبنون لتثبيت وجودهم، ونحن نحاول البقاء فقط. المعركة اليوم ليست سياسية، بل وجودية».
استيطان ما بعد 7 أكتوبر
وبعد السابع من أكتوبر 2023، تسارعت وتيرة المخططات الاستيطانية الإسرائيلية بوتيرة غير مسبوقة. فقد وضعت إسرائيل على الطاولة 355 مخططًا هيكليًا لبناء نحو 37 ألفًا و415 وحدة استيطانية جديدة في مختلف مناطق الضفة الغربية. وقد تمت المصادقة بالفعل على أكثر من 18 ألفًا و800 وحدة، وهو ما يعني توسعًا استيطانيًا كثيفًا وصل إلى قلب مدينة الخليل.
في سوق الخضار القديم وسط الخليل، تمت المصادقة على بناء 63 وحدة استيطانية موزعة على عمارتين، في خطوة اعتبرها الفلسطينيون «تحديًا صارخًا» لكل النداءات الدولية. هذه المشاريع، بحسب مسؤولين فلسطينيين، تمثل «مرحلة جديدة من الضم الفعلي»، إذ لم تعد مقتصرة على المناطق المحيطة بالمستوطنات القائمة، بل باتت تمتد إلى داخل المدن الفلسطينية نفسها.
تحذير من الضم المؤجل
ويحذر خبراء من أنّ استمرار هذا النهج سيجعل أي حديث عن حل الدولتين «غير ذي معنى»، لأنّ الأرض التي يُفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية تتقلص يومًا بعد آخر. كما يرون أنّ المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية صمته تجاه هذه الانتهاكات المتواصلة، التي باتت تتم تحت غطاء قانوني داخلي تضعه إسرائيل لتبرير سياساتها.
في تعليقه على هذه التطورات، قال أحمد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إنّ ما يجري هو «ضم تدريجي صامت للضفة الغربية تحت نظر وبصر وسمع العالم». وأوضح أنّ إسرائيل تمارس سياسة «الضم الزاحف»، التي تقوم على فرض السيطرة الميدانية أولًا، ثم تحويلها لاحقًا إلى واقع قانوني.
وأكد مجدلاني أنّ الموقف الدولي مطالب اليوم باتخاذ خطوة عملية، وليس الاكتفاء ببيانات الإدانة، مشيرًا إلى أنّ «قرارًا من مجلس الأمن تحت الفصل السابع بات ضرورة لوقف كل الإجراءات الاستيطانية في الضفة الغربية وحماية حل الدولتين». لكنه أبدى شكوكه في أن يحدث ذلك قريبًا، في ظل استمرار الانحياز الأمريكي لإسرائيل.
وأضاف أنّ حل الدولتين بات يغيب تدريجيًا خلف غبار الجرافات، وأنّ مجلس التخطيط الأعلى في إسرائيل يستعد للمصادقة في جلسته المقبلة على بناء نحو 1973 وحدة استيطانية جديدة، الأمر الذي يعني أنّ الحكومة الإسرائيلية لا تنوي التراجع عن سياستها رغم كل الضغوط.
ويتابع قائلاً: «قد تكون إسرائيل تراجعت تحت ضغط الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن إعلانها الضم وفرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية، لكنها لم تتراجع على الأرض. فالاستيطان المتسارع، وما يرافقه من شق وتوسيع للطرق وربطها بالجدار الفاصل، هو شكل من أشكال الضم الفعلي». ويختم مجدلاني بأنّ «الضم المؤجل لا يقل خطرًا عن الضم المعلن، لأنّ نتائجه على الأرض واحدة: أرض فلسطينية تُمحى وحدود تتلاشى».