**media[3206644]**

منذ فترة تمتد للسنوات العشر الماضية تقريبا وأنا أشعر بأن ثمة حائل يحول بيني وبين اللغة الإنجليزية. لعله نوع من الرفض الباطني لتناقضات الثقافة الأنجلوفونية، أو هذه الفجوة الكبيرة بين الشعارات الإنسانية وبين الممارسات اللاإنسانية على الأرض التي تجلت على مدى العقد الماضي بشكل لافت.
وبالتالي يبدو لي أن اللغة قد وقفت حائلًا بيني وبين بعض الكتاب والكاتبات من أبناء الثقافة العربية الذين يفضلون الكتابة باللغة الإنجليزية؛ اللغة الأكثر انتشارًا وقراءة في ربوع العالم. مع التأكيد على أن هذه اللغة هي اللغة التي يتاح فيها كذلك الكثير من المعرفة التي لا تتوفر في ثقافتنا العربية.
لهذا سعدت كثيرًا بصدور كتاب "جسد خارج الجسد" للدكتورة شهد الشمَّري، أستاذ الأدب الإنجليزي في الكويت، مترجمًا للعربية، بترجمة هبى العكام، عن دار عرب للنشر والترجمة العمانية.
تمنح المؤلفة كتابها عنوانًا فرعيًّا يقدم توضيحًا لطبيعة ما يتناوله كتابها بوصفه "نبش في الإعاقة والتمثيل الثقافي". أي مناقشة الكيفية التي تتعامل بها ثقافتنا العربية مع الإعاقة الجسدية وما فرضته هذه المعاملة من سلوكيات وانطباعات ذهنية تتعارض في جوهرها مع مفاهيم المساواة والحقوق الطبيعية للإنسان.
إعاقة مستترة
وهي لا تتوقف عند نماذج الإعاقة الواضحة مثل فقدان البصر أو ألوان الإعاقات الجسدية المتباينة، أو بعض أعراض أمراض لها أصل نفسي مثل داء الصرع مثلا، بل تمتد إلى أصحاب الإعاقات المستترة. الذين يعانون من إعاقات تؤثر على حركتهم وتصيب أجسادهم بالألم من دون أن تكون جلية للآخرين. مثل حالات التصلب العضلي المختلفة، على سبيل المثال.
ولتوضيح طبيعة اهتمامها بالموضوع أقتطف من الكتاب هذه الفقرة التي تقول فيها:
"لا يزال الأساتذة والطلاب يسألونني: «ماذا تقصدين بأنك باحثة في دراسات الإعاقة؟ ألستِ أستاذةً في الأدب؟». بصفتي أستاذة في الأدب، أدرس كيف تُقدَّم الإعاقة والمرض في القصص ووسائل الإعلام، وكيف يمكننا استخدام الأدب لفهم تصوّرات المجتمع تجاه المرض والإعاقة".
وهذه فقرة كاشفة لما سيتناوله الكتاب من أمثلة أدبية بما في ذلك الدراما والأفلام، باعتبارها تقدم أمثلة توضح طبيعة التناول السلبي لمن يعانون من الإعاقات المختلفة، لتأكيد فكرة رئيسة تتبناها في الكتاب حول قدرة المجتمعات العربية على فهم الإعاقة.
تقول: "إننا لا نملك فهما كافيًا للإعاقة في جوهرها، وما زلنا نختلف حول ما يُعدّ «إعاقة». في حقيقة الأمر، أو بقدر ما يمكننا أن ندعي معرفة أي «حقيقة»، فإن دراسات الإعاقة مجال شامل ومتعدّد التخصصات. إذ كل ما يتعلق بدراسات الإعاقة نقديّ. فهي حيّز جديد، يزعزع الحدود بين التخصصات ويتخطاها. ودراسات الإعاقة تتقاطع دائما مع العرق، والنوع الاجتماعي، والجنس، والطبقة".
إعاقتي التي لا مفر منها
ثم تحيل الدكتورة الشمري القارئ إلى المنهج النقدي الذي وجدت فيه بغيتها لكي تتمكن من دراسة سرديات الإعاقة والمرض:
"تكون تدريبي في الأساس من النظرية الأدبية والسرد، وبحكم خلفيتي الأدبية غامرت بالتخصص في دراسات الإعاقة وسرديات المرض. وجدت أن الجزء «النقدي» من دراسات الإعاقة بالنسبة إلي على الأقل، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تكويني كناقدة أدبية".
ثم توضح للقراء الجانب الذاتي الذي كان بين دوافع اهتمامها بهذا النوع من الدراسات ممثلا فيما تصفه بـ"إعاقتي"، تقول:
"فدراسات الإعاقة تشكّل جزءًا لا يتجزأ من جميع التخصصات. وبقدر ما قد نرغب في التهرّب منها أو التقليل من شأنها، فإن المرض والإعاقة يشكلان جزءًا لا مفرّ منه في حياتنا. فنحن جميعا كائنات هشة. اسمحوا لي أن أعترف بأن شغفي بسرديات المرض، كما هي الحال مع أي علاقة حبّ أدبية، بدأ حين كنتُ أعاني من إعاقتي".
ولعل فكرة استخدام المؤلفة لمفردة "إعاقتي" قد تحتاج إلى شرح، طالما أنها تفضلت به على صفحات الكتاب، على الرغم من أنها إعاقة غير ظاهرة للناس أو لمن يتعاملون معها، ولعل هذا هو مفتاح مفصلي لفكرة الكتاب لأنه يتناول الإعاقة وأيضا يقدم تجربة شديدة الحيوية في التعامل معه بمنتهي الإيجابية.
ففي أحد فصول الكتاب الذي عنونته باسم "الأدب أنقذ حياتي" تشرح أنها تعلمت القراءة في عمر السادسة، وأن الجملة التي ساعدتها أمها في صياغتها هي «أستطيع القراءة!». شعرتُ حينها بالثقة والتمكن. ولكن:
"وبعد عشر سنوات، استيقظتُ ذات صباح وقد فقدت النظر بإحدى عيني. لم أستطع الرؤية لمدة أسبوع، وكانوا في المدرسة ينادونني الفتاة العمياء». أدركتُ حينها كيف يصم الناس بعضهم بعضا بالألقاب، ويُصنفون بعضهم بعضا، ويرفضون كل ما يبدو مختلفًا. ولما بلغت الثامنة عشرة، شخصتُ بالإصابة بالتصلب المتعدّد (التصلب اللويحي) وهو مرض عصبي يمكن أن يؤثر في أي جزء من الجسم؛ قد تستيقظ يومًا وقد فقدت بصرك، وفي اليوم التالي تجد أنك قد أصبت بالشلل، ومع ذلك فليس كل المصابين بالتصلب المتعدد يستخدمون الكراسي المتحركة. قال طبيبي لوالدي إنه سينتهي بي المطاف على كرسي متحرك، وإنه لا جدوى من متابعة تعليمي العالي. لكن لأنّي شعرتُ بقنبلة موقوتة تتربص بي، وبظل خسارة يلوح من ورائي، قرّرتُ أن أضاعف خُطاي: انطلقت بأقصى سرعتي، وأدركتُ أني أريد تدريس الأدب. بقدر ما يبدو هذا مبتذلا، فإننا أحيانا نتخلى عن أحلامنا أو نضعها جانبًا، لكن حين تُهدَّد الأحلام، وحين تشعر أن الخسارة حتميّة، يكون أمامك خياران: إما أن تستسلم، وإما أن تكافح أكثر من أي وقت مضى. مرّت بي أيام كنتُ أعاني فيها وأنا أكتب مقالاتي، وكما تعلمون، يحتاج طلاب الأدب إلى أيديهم للكتابة؛ نحن نكتب ونكتب. كان علي أن أتعلم طرائق مختلفة للإمساك بالقلم، وإدارة امتحاناتي، مع محاولة الحفاظ على رباطة جأشي. لم تكن مهمة سهلة".
أن تكون مريضًا
ولكن الكتاب الذي تبدو أن الخبرة الذاتية بين دوافع كتابته، يمتد لتأمل سرديات المرض بشكل عام في تاريخ الأدب، حيث تتأمل المؤلفة النصوص التي تناولت فكرة المرض سرديًا على ندرتها، من مثل فيرجينيا وولف مثلا، فقد كان مقال فرجينيا وولف (Virginia Woolf) "أن تكون مريضًا" في العام ١٩٢٦ أوّل مقال منشور يُكرّس لتمثيل المرض في الأدب الإنجليزي. وتقتبس منه:
"إذا فكرنا في مدى شيوع المرض، ومدى التغيير الروحي الهائل الذي يجلبه، ومدى الدهشة حين تحبو أضواء الصحة وتنكشف لنا بلدان لم تكن مكتشفة.. يصبح غريباً فعلا أن المرض لم يجد مكانه بين الموضوعات الرئيسة للأدب، مثل الحب والحرب والغيرة..فالإنجليزية، التي تستطيع التعبير عن أفكار هاملت ومأساة لير، لا تملك كلمات تعبر عن القشعريرة والصداع".
وعلى امتداد صفحات الكتاب تمزج المؤلفة خبراتها الشخصية كباحثة، ثم كأستاذة جامعة، "تتعلم من طلابها" كما تشير في أكثر من موضع، كما تتأمل علاقتها بأمها ودورها المؤثر في حبها للقراءة، كما سلفت الإشارة، على طبيعة علاقتها بجدتها؛ الفلسطينية الأصل، حيث تستدعي ذكرياتها عنها كامرأة ترى أن الحروب، تؤثر على الجسد، وتتبع مراحل من حياتها حتى وفاتها متأثرة بمرض السرطان.
تخصص الكاتبة فصلا عن تناول الدراما الكويتية لفكرة الإعاقة المرضية أو النفسية مثل خالتي قماشة، رقية وسبيكة، وعلى الدنيا السلام. وتسلط الضوء على التناول المجتمعي السلبي للمرض النفسي، وترى أنه رغم مرور ما يزيد عن 50 عاما على عرض المسلسل لم يتم مراجعة الظواهر الاجتماعية التي تتمثل في الكيفية التي يتعامل بها المجتمع مع أصحاب الإعاقات.
وتلفت الانتباه إلى معاناة أصحاب الإعاقة وتتحدث عنهم بضمير المتكلم:
فنحن ننكر الألم : ومَن نكون. وخجلنا يدعم كل أشكال القمع ويشجعنا على البقاء مختبئين وصامتين. ونحن أيضًا نخشى إزعاج الآخرين والتسبب فى إقلاق راحتهم (في أى شكل من الأشكال). وهكذا يصبح المرض محرجًا ومخجلا ومزعجًا ليس فقط لنا بل أيضًا للمحيطين بنا - كما لو أننا لم نكن نعاني في التعامل مع ذواتنا، فانتهى بنا الأمر إلى محاولة إرضاء الآخرين للتعويض عن النقص الوهمي الذي نشعر به. وهذا لا ينطبق فقط على التصلب العصبي اللويحى بل على أي نقص جسدي أو عاطفي، حقيقيا كان أم متخيلا، نشعر أننا في حاجة إلى إنكاره لنشعر بأننا مقبولون ومحبوبون لا أكثر.
وعبر صفحات كتابها المهم تقدم الدكتورة شهد الشمري الدعوة لدور النشر لأن تقدّم الدعم للكتاب من ذوي الإعاقة، وأن تمنحهم مساحة للتعبير عن أنفسهم.
وتوسع دائرة الدعوة على هذا الاهتمام ليشمل كُتّاب الأعمال المتلفزة والمسرحيات ومخرجي الأفلام وكتاب السيناريو لكي يخصصوا مساحة أكبر لسرديات المرض والقصص التي تتحدث عن الجسد وتجاربنا مع الجسد. مؤكدة على أننا في حاجة إلى نهج أكثر واقعية في سرد هذه القصص، ولسنا في حاجة إلى الاستمرار في تخويف الناس، وإبقاء نظرتهم إلى الإعاقة والمرض بأنهما عقاب أو اختبار من الله. لا يمكننا الاستمرار في عدهما درسًا أو عقابًا أو نعمة كبرى يجب على المرء أن يتقبلها. إذ يوجد طرفان متناقضان هنا من ناحية، لا يمكننا أن ننظر إلى الشخص ذي الإعاقة بأنه شخص مثالي ولا نسمح له بالتعبير عن المشاعر الإنسانية كالسلبية والحزن، ونطالبه بأن يكون دائما شاكرا وممتنا. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا الاستمرار في رؤية الإعاقة كمأساة وعقاب.
كتاب مهم وإضافة لجانب مسكوت عنه في الدراسات النقدية والأعمال الأدبية يمكن أن يكون سببا لإلهام المهتمين في إتاحة الفرصة لمنح الجسد صوتا أدبيا يمكنه أن يعبر عن المسكوت عنه، وبالتالي عن الهشاشة المشتركة بين صاحب الألم وبين المجتمع الذي لا ينصت لألم الآخر.

منذ فترة تمتد للسنوات العشر الماضية تقريبا وأنا أشعر بأن ثمة حائلا يحول بيني وبين اللغة الإنجليزية. لعله نوع من الرفض الباطني لتناقضات الثقافة الأنجلوفونية، أو هذه الفجوة الكبيرة بين الشعارات الإنسانية وبين الممارسات اللاإنسانية على الأرض التي تجلت على مدى العقد الماضي بشكل لافت. 

وبالتالي يبدو لي أن اللغة قد وقفت حائلًا بيني وبين بعض الكتاب والكاتبات من أبناء الثقافة العربية الذين يفضلون الكتابة باللغة الإنجليزية؛ اللغة الأكثر انتشارًا وقراءة في ربوع العالم. مع التأكيد على أن هذه اللغة هي اللغة التي يتاح فيها كذلك الكثير من المعرفة التي لا تتوفر في ثقافتنا العربية. 

لهذا سعدت كثيرًا بصدور كتاب «جسد خارج الجسد» للدكتورة شهد الشمري، أستاذ الأدب الإنجليزي في الكويت، مترجمًا للعربية، بترجمة هبى العكام، عن دار عرب للنشر والترجمة العُمانية. 

تمنح المؤلفة كتابها عنوانًا فرعيًّا يقدم توضيحًا لطبيعة ما يتناوله كتابها بوصفه «نبش في الإعاقة والتمثيل الثقافي». أي مناقشة الكيفية التي تتعامل بها ثقافتنا العربية مع الإعاقة الجسدية وما فرضته هذه المعاملة من سلوكيات وانطباعات ذهنية تتعارض في جوهرها مع مفاهيم المساواة والحقوق الطبيعية للإنسان. 

إعاقة مستترة 

وهي لا تتوقف عند نماذج الإعاقة الواضحة مثل فقدان البصر أو ألوان الإعاقات الجسدية المتباينة، أو بعض أعراض أمراض لها أصل نفسي مثل داء الصرع مثلا، بل تمتد إلى أصحاب الإعاقات المستترة. الذين يعانون من إعاقات تؤثر على حركتهم وتصيب أجسادهم بالألم من دون أن تكون جلية للآخرين. مثل حالات التصلب العضلي المختلفة، على سبيل المثال. 

ولتوضيح طبيعة اهتمامها بالموضوع أقتطف من الكتاب هذه الفقرة التي تقول فيها: 

«لا يزال الأساتذة والطلاب يسألونني: «ماذا تقصدين بأنك باحثة في دراسات الإعاقة؟ ألستِ أستاذةً في الأدب؟». بصفتي أستاذة في الأدب، أدرس كيف تُقدَّم الإعاقة والمرض في القصص ووسائل الإعلام، وكيف يمكننا استخدام الأدب لفهم تصوّرات المجتمع تجاه المرض والإعاقة». 

وهذه فقرة كاشفة لما سيتناوله الكتاب من أمثلة أدبية بما في ذلك الدراما والأفلام، باعتبارها تقدم أمثلة توضح طبيعة التناول السلبي لمن يعانون من الإعاقات المختلفة، لتأكيد فكرة رئيسة تتبناها في الكتاب حول قدرة المجتمعات العربية على فهم الإعاقة. 

تقول: «إننا لا نملك فهما كافيًا للإعاقة في جوهرها، وما زلنا نختلف حول ما يُعدّ «إعاقة». في حقيقة الأمر، أو بقدر ما يمكننا أن ندعي معرفة أي «حقيقة»، فإن دراسات الإعاقة مجال شامل ومتعدّد التخصصات. إذ كل ما يتعلق بدراسات الإعاقة نقديّ. فهي حيّز جديد، يزعزع الحدود بين التخصصات ويتخطاها. ودراسات الإعاقة تتقاطع دائما مع العرق، والنوع الاجتماعي، والجنس، والطبقة». 

إعاقتي التي لا مفر منها 

ثم تحيل الدكتورة الشمري القارئ إلى المنهج النقدي الذي وجدت فيه بغيتها لكي تتمكن من دراسة سرديات الإعاقة والمرض: 

«تكون تدريبي في الأساس من النظرية الأدبية والسرد، وبحكم خلفيتي الأدبية غامرت بالتخصص في دراسات الإعاقة وسرديات المرض. وجدت أن الجزء «النقدي» من دراسات الإعاقة بالنسبة إلي على الأقل، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تكويني كناقدة أدبية». 

ثم توضح للقراء الجانب الذاتي الذي كان بين دوافع اهتمامها بهذا النوع من الدراسات ممثلا فيما تصفه بـ«إعاقتي»، تقول: 

«فدراسات الإعاقة تشكّل جزءًا لا يتجزأ من جميع التخصصات. وبقدر ما قد نرغب في التهرّب منها أو التقليل من شأنها، فإن المرض والإعاقة يشكلان جزءًا لا مفرّ منه في حياتنا. فنحن جميعا كائنات هشة. اسمحوا لي أن أعترف بأن شغفي بسرديات المرض، كما هي الحال مع أي علاقة حبّ أدبية، بدأ حين كنتُ أعاني من إعاقتي». 

ولعل فكرة استخدام المؤلفة لمفردة «إعاقتي» قد تحتاج إلى شرح، طالما أنها تفضلت به على صفحات الكتاب، على الرغم من أنها إعاقة غير ظاهرة للناس أو لمن يتعاملون معها، ولعل هذا هو مفتاح مفصلي لفكرة الكتاب لأنه يتناول الإعاقة وأيضا يقدم تجربة شديدة الحيوية في التعامل معه بمنتهى الإيجابية. 

ففي أحد فصول الكتاب الذي عنونته باسم «الأدب أنقذ حياتي» تشرح أنها تعلمت القراءة في عمر السادسة، وأن الجملة التي ساعدتها أمها في صياغتها هي «أستطيع القراءة!». شعرتُ حينها بالثقة والتمكن. ولكن: 

«وبعد عشر سنوات، استيقظتُ ذات صباح وقد فقدت النظر بإحدى عيني. لم أستطع الرؤية لمدة أسبوع، وكانوا في المدرسة ينادونني الفتاة العمياء». أدركتُ حينها كيف يصم الناس بعضهم بعضا بالألقاب، ويُصنفون بعضهم بعضا، ويرفضون كل ما يبدو مختلفًا. ولما بلغت الثامنة عشرة، شخصتُ بالإصابة بالتصلب المتعدّد (التصلب اللويحي) وهو مرض عصبي يمكن أن يؤثر في أي جزء من الجسم؛ قد تستيقظ يومًا وقد فقدت بصرك، وفي اليوم التالي تجد أنك قد أصبت بالشلل، ومع ذلك فليس كل المصابين بالتصلب المتعدد يستخدمون الكراسي المتحركة. قال طبيبي لوالدي إنه سينتهي بي المطاف على كرسي متحرك، وإنه لا جدوى من متابعة تعليمي العالي. لكن لأنّي شعرتُ بقنبلة موقوتة تتربص بي، وبظل خسارة يلوح من ورائي، قرّرتُ أن أضاعف خُطاي: انطلقت بأقصى سرعتي، وأدركتُ أني أريد تدريس الأدب. بقدر ما يبدو هذا مبتذلا، فإننا أحيانا نتخلى عن أحلامنا أو نضعها جانبًا، لكن حين تُهدَّد الأحلام، وحين تشعر أن الخسارة حتميّة، يكون أمامك خياران: إما أن تستسلم، وإما أن تكافح أكثر من أي وقت مضى. مرّت بي أيام كنتُ أعاني فيها وأنا أكتب مقالاتي، وكما تعلمون، يحتاج طلاب الأدب إلى أيديهم للكتابة؛ نحن نكتب ونكتب. كان علي أن أتعلم طرائق مختلفة للإمساك بالقلم، وإدارة امتحاناتي، مع محاولة الحفاظ على رباطة جأشي. لم تكن مهمة سهلة». 

أن تكون مريضًا 

ولكن الكتاب الذي تبدو أن الخبرة الذاتية بين دوافع كتابته، يمتد لتأمل سرديات المرض بشكل عام في تاريخ الأدب، حيث تتأمل المؤلفة النصوص التي تناولت فكرة المرض سرديًا على ندرتها، من مثل فيرجينيا وولف مثلا، فقد كان مقال فرجينيا وولف (Virginia Woolf) «أن تكون مريضًا» في عام ١٩٢٦ أوّل مقال منشور يُكرّس لتمثيل المرض في الأدب الإنجليزي. وتقتبس منه: 

«إذا فكرنا في مدى شيوع المرض، ومدى التغيير الروحي الهائل الذي يجلبه، ومدى الدهشة حين تحبو أضواء الصحة وتنكشف لنا بلدان لم تكن مكتشفة.. يصبح غريباً فعلا أن المرض لم يجد مكانه بين الموضوعات الرئيسة للأدب، مثل الحب والحرب والغيرة..فالإنجليزية، التي تستطيع التعبير عن أفكار هاملت ومأساة لير، لا تملك كلمات تعبر عن القشعريرة والصداع». 

وعلى امتداد صفحات الكتاب تمزج المؤلفة خبراتها الشخصية كباحثة، ثم كأستاذة جامعة، «تتعلم من طلابها» كما تشير في أكثر من موضع، كما تتأمل علاقتها بأمها ودورها المؤثر في حبها للقراءة، كما سلفت الإشارة، على طبيعة علاقتها بجدتها؛ الفلسطينية الأصل، حيث تستدعي ذكرياتها عنها كامرأة ترى أن الحروب، تؤثر على الجسد، وتتبع مراحل من حياتها حتى وفاتها متأثرة بمرض السرطان. 

تخصص الكاتبة فصلا عن تناول الدراما الكويتية لفكرة الإعاقة المرضية أو النفسية مثل خالتي قماشة، رقية وسبيكة، وعلى الدنيا السلام. وتسلط الضوء على التناول المجتمعي السلبي للمرض النفسي، وترى أنه رغم مرور ما يزيد على 50 عاما على عرض المسلسل لم تتم مراجعة الظواهر الاجتماعية التي تتمثل في الكيفية التي يتعامل معها المجتمع مع أصحاب الإعاقات. 

وتلفت الانتباه إلى معاناة أصحاب الإعاقة وتتحدث عنهم بضمير المتكلم: 

فنحن ننكر الألم : ومَن نكون. وخجلنا يدعم كل أشكال القمع ويشجعنا على البقاء مختبئين وصامتين. ونحن أيضًا نخشى إزعاج الآخرين والتسبب في إقلاق راحتهم (في أي شكل من الأشكال). وهكذا يصبح المرض محرجًا ومخجلا ومزعجًا ليس فقط لنا بل أيضًا للمحيطين بنا -كما لو أننا لم نكن نعاني في التعامل مع ذواتنا، فانتهى بنا الأمر إلى محاولة إرضاء الآخرين للتعويض عن النقص الوهمي الذي نشعر به. وهذا لا ينطبق فقط على التصلب العصبي اللويحي بل على أي نقص جسدي أو عاطفي، حقيقيا كان أم متخيلا، نشعر أننا في حاجة إلى إنكاره لنشعر بأننا مقبولون ومحبوبون لا أكثر. 

وعبر صفحات كتابها المهم تقدم الدكتورة شهد الشمري الدعوة لدور النشر لأن تقدّم الدعم للكتاب من ذوي الإعاقة، وأن تمنحهم مساحة للتعبير عن أنفسهم. 

وتوسع دائرة الدعوة على هذا الاهتمام ليشمل كُتّاب الأعمال المتلفزة والمسرحيات ومخرجي الأفلام وكتاب السيناريو لكي يخصصوا مساحة أكبر لسرديات المرض والقصص التي تتحدث عن الجسد وتجاربنا مع الجسد. مؤكدة على أننا في حاجة إلى نهج أكثر واقعية في سرد هذه القصص، ولسنا في حاجة إلى الاستمرار في تخويف الناس، وإبقاء نظرتهم إلى الإعاقة والمرض بأنهما عقاب أو اختبار من الله. لا يمكننا الاستمرار في عدهما درسًا أو عقابًا أو نعمة كبرى يجب على المرء أن يتقبلها. إذ يوجد طرفان متناقضان هنا من ناحية، لا يمكننا أن ننظر إلى الشخص ذي الإعاقة بأنه شخص مثالي ولا نسمح له بالتعبير عن المشاعر الإنسانية كالسلبية والحزن، ونطالبه بأن يكون دائما شاكرا وممتنا. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا الاستمرار في رؤية الإعاقة كمأساة وعقاب. 

كتاب مهم وإضافة لجانب مسكوت عنه في الدراسات النقدية والأعمال الأدبية يمكن أن يكون سببا لإلهام المهتمين في إتاحة الفرصة لمنح الجسد صوتا أدبيا يمكنه أن يعبر عن المسكوت عنه، وبالتالي عن الهشاشة المشتركة بين صاحب الألم وبين المجتمع الذي لا ينصت لألم الآخر.