ارتبط بالتداول، هذه المرة بطل قصتنا هو نيكولاس ليسون أحد أشهر المتداولين في التاريخ؛ إذ تسبب في انهيار بنك بارينغز أقدم بنك تجاري في بريطانيا وإحدى ركائز نظامها المالي. فقد التحق بالبنك عام 1989، ثم نُقل إلى فرع سنغافورة.
وبفضل الأرباح الكبيرة التي حققها، اكتسب سمعة «النجم الصاعد» في عالم المال، وأُشيد بدوره في توسع البنك في الأسواق الآسيوية.
غير أن هذه النجاحات كانت تخفي وراءها خسائر ضخمة في حساب سري يحمل الرقم 88888، فقد بدأ ليسون يراهن بمبالغ هائلة على مؤشر نيكاي 225 والسندات الحكومية اليابانية، متوقعًا استقرار السوق أو ارتفاعه، لكن زلزال كوبي الذي ضرب اليابان مطلع 1995 جعل السوق تتراجع بشكل حاد، وبدل أن يوقف الخسائر، ضاعف ليسون حجم رهاناته في محاولة يائسة لاستردادها، ففاقم الموقف بسرعة. في غضون أسابيع، تجاوزت الخسائر المخفية 827 نحو 1.4 مليار دولار أمريكي، وهو مبلغ يفوق رأس مال البنك. وفي فبراير 1995 أعلن بنك بارينغز إفلاسه، ثم بيع لبنك هولندي بمبلغ رمزي قدره جنيه استرليني واحد فقط. انهار بنك عمره أكثر من 230 عامًا، وضاعت معه مدخرات المساهمين ووظائف الموظفين، في واحدة من أسرع حالات الانهيار في تاريخ البنوك البريطانية، وأكثرها مذلة.
وقد هزّت الحادثة سمعة القطاع المصرفي البريطاني وزعزعت ثقة الأسواق في أنظمة الرقابة الداخلية، وأدت إلى إصلاحات واسعة في إدارة المخاطر والحوكمة المؤسسية حول العالم، أهمها الفصل الصارم بين مهام المتداولين (التنفيذ) ووظائف العمليات الإدارية (التسوية والمحاسبة).
ورغم أن ليسون هو المنفذ المباشر للتلاعب، إلا أن المسؤولية لم تقع عليه وحده، فقد كشفت القضية عن خلل مؤسسي عميق. فقد سمحت له الإدارة العليا بتولي وظائف متعارضة، مما منحه سلطة مطلقة دون رقابة فعّالة. كما فشل المدققون الخارجيون في اكتشاف التلاعب رغم المؤشرات الواضحة على وجود تناقضات مالية، في دليل على ضعف المتابعة والإفراط في الثقة.
وقد تحولت القصة إلى كتاب وفيلم بعنوان «المتداول المارق»، وصارت مثالًا يُدرّس في الجامعات حول العالم كنموذج على مخاطر الثقة الزائدة وسوء الحوكمة. تُظهر هذه القضية كيف يمكن لأخطاء فردية، يغذيها الطموح المفرط وضعف الرقابة، أن تُسقط مؤسسة مالية عريقة عمرها أكثر من قرنين وكيف يمكن للثقة -إن لم تُضبط- أن تتحول من قيمة إلى كارثة.
حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية