لم أستسغ لحدّ اليوم، ولا آمنت بأنّ سرد تجربة آني أرنو في مختلف رواياتها يُمكن أن يؤسّس لحدثٍ أدبيّ فاعل في عالم الأدب، ولم يطمئن قلبي أبدًا إلى جدارتها بالفوز بنوبل، وما زلتُ أراها كاتبة عادية وجيّدة، ولا يُمكن أن تخطّ في الأدب سبيلاً تختصّ به أو تُحدثَ نهجًا يُعيد للرواية الفرنسيّة ألقها الذي خبا ولا مجدها الذي كبا، فسيرتها التخييليّة لا تضيف في الأدب باعًا ولا ذراعًا.
تذكّرتُ موقفي من آني أرنو وعملي جاهِدًا على قراءة أغلب رواياتها لعلّي أقتنع وأجنح إلى الإيمان بجدارتها بنوبل، وبإحلالها مكانة الرأس من الرواية العالمية، عندما عادت أهمّ جائزة فرنسيّة في الأدب إلى الرواية الفرنسيّة وإلى كاتب فرنسيّ، له أثرٌ وتجربةٌ ورؤيةٌ، فقد منحت أكاديمية غونكور الفرنسيّة جائزتها الأدبية السنويّة الأهمّ إلى الروائي الفرنسيّ لوران موفينييه (Laurent Mauvignier) عن روايته «البيت الخاوي» (La maison vide)، وهو روائيّ له أثر ومنزلةٌ في الرواية الفرنسيّة، وهو من مواليد 1967، وله أعمال روائية عديدة، منها، «بعيدًا عنهم» (Loin d›eux) التي تحصّلت على جائزة فينيون (prix Fénéon) وحكايات اللّيل»(Histoires de la nuit)، الحائزة على جائزة ريبليك (prix HYPERLINK «https://fr.wikipedia.org/wiki/Répliques» o «»Répliques)، وجائزة ويبلر (prix Wepler) 2000، عن روايته الثانية «تعلّم كيف تنتهي» (Apprendre à finir)، التي فازت لاحقا أيضا بجائزة الكتاب إنتر في العام التالي، ونال أيضا سنة 2006 جائزة الرواية Fnac، عن روايته «في الحشد» (Dans la foule)، كما سبق للرواية الفائزة بالغونكور «البيت الخاوي» أن حصلت على جائزة مكتبيي نانسي- لو بوينت وجائزة لانديرنو للقُرّاء، وجائزة لوموند.
وهذا التراكم في حسن تلقّي أعمال موفينييه دالٌّ على جدارة وأحقيّة بالتتويج. والرواية تحمل وجهًا من سيرة العائلة التي إليها ينتسب الكاتب، وقد متّن الكاتب هذه الصلة الذاتية بتصريحه الذي أعلن فيه: «أعتقد أن قصّتي العائلية تشبه قصة ملايين الفرنسيين، بما فيها من مناطق مظلمة وأجزاء أكثر مجدًا».
فأحداث الرواية تُخيَّل في قرية مرجعيّة هي تورين، القرية التي يرجع إليها موفينييه، والعمل يتوجّه إلى حالات وأعمال لعائلةٍ متشبّثة بالتقاليد، عائلة تأثّرت بوقائع عديدة امتدّت طيلة ثلاثة أجيال، هي زمن رواية الأحداث، ومجالها الذي مسّ فترات من الزمن مختلفة، والفكرة الباعثة للرواية قائمة على العودة إلى بيت العائلة المهجور، الخاوي على عروشه، وإنطاق الأشياء، سرْدًا لمشاهد توصَل بوقائع وأحداث تمتدّ من نهاية القرن التاسع عشر إلى حدود سبعينيّات القرن العشرين، في عملٍ موسوعيّ تجاوز 750 صفحة، بلغة مكثّفة، ذهب العديد من النقّاد إلى أنّها أثقلت العمل وعطّلت سلاسة القراءة، وبرؤية وجوديّة أعادت للرواية الفرنسيّة ارتباطها بالإنسان في محيطه الاجتماعي، واستعادت علاقة الإنسان بوجوده.
إنّ استثمار لوران موفينييه لتاريخ فرنسا الحديث نظرًا فيه من خلال تاريخ العائلة، وعرضه لحكايا قرن من الزمن عرف الحربين العالميتين، والهزّات الاقتصاديّة والحربيّة والاجتماعية الكونيّة الكبرى، وعرف توجّهات فكريّة وفلسفيّة غنيّة وثريّة، وتقلّبت فيه أوضاع المرأة من حالٍ إلى حالٍ، ومن استعبادٍ إلى احتقارٍ إلى تحرّر، وعرف فيه الإنسان تعاريف فلسفيّة شتّى بحثًا عن وجوده وعن منزلته في الكون وفي الكائنات والأكوان من حوله، لهو تفاعل تخييليّ مرجعيّ قادر على توفير الأرضيّة الملائمة لصناعة موسوعة روائيّة عظيمة، يبدو أنّ الكاتب قد أحسن إجراءها وإعمالها.
تبدأ الرواية من سنة 1976 استرجاعًا، بإحداث عاملٍ داخلٍ إلى بيت العائلة المهجور من زمن، بحثًا عن وسام الجدّ الأكبر، وهي العلّة المؤسّسة للانطلاق في نبش أشياء الماضي وفي إنطاق هذه الأشياء لرواية حكايتها، الأشياء التي احتفظت بها خزانة متوارثة، عابرة للزمن، شاهدة على حقَب وأجيال، يجد فيها الراوي العائد مشاريع حكايات، بدايةً من صُورة الجدّة وقد سُوّدت أو مُزّق وجهها أو تناولها الزمان بأثره وفعله، تُفتِّح حكايا النساء، ومن طروس مخفيّة ومن مختلف البقايا التي جبَّت صمتًا وملأت فراغًا كُتم لأحقابٍ.
الصمتُ والذاكرة المنبوشة أدوات محفّزة على بناء رواية لها بالواقع صلة، ولها بالتخييل الذي جبّ فراغات وملأ تجاويف غابت عن المرجعيّة الإحاليّة للراوي علاقات أسباب.
أعتقد أنّ الرواية الفرنسيّة بهذا العمل قد بدأت استعادة طرح قضايا الإنسان وصلته بكوارث الكون الحادثة وردّت الرواية إلى الوجود الإنساني في تاريخه وصلته بالأشياء، ولذلك فقد لاقت الرواية تقبّلاً حسنًا من لجنة التحكيم دون تردّد أو خلاف، ولاقت أيضًا قراءات متعمّقة من النقّاد ومن المراجعين، فقد وُسمت الرواية بأنّها رواية من «لحم وذاكرة وصمت»، وأنّها «عمل يذكّرنا بأن السرد يمكن أن يكون صلاة صامتة»، وتم وصل الكاتب بالمرجعيّات الكلاسيكيّة المؤسسة للرواية الفرنسية مثل بلزاك وستندال.
عرضتُ الرواية وأثرها لأعود إلى فكرة عقيدة في تصوّري وهي ارتباط الرواية بالسيرة الذاتية، فكلّ رواية في ظنّي هي وجه من وجوه سيرة الكاتب، بأشكال مختلفة، ولذلك، رأينا الكاتب يُصرِّح بعد فوزه، واستقباله في مطعم دروان بقوله: «أشعر بالفرح، إنّها مكافأة هائلة، لأنّه كتاب ينبع من الطفولة، ومن عدّة أجيال».
تخييل السيرة الذاتية والجمعيّة والغيريّة هو روح الرواية وقلبها النابض. فكم لدينا من أحقابٍ في تاريخنا الموسوعيّ تحتاج حكّاءً يُتقن وصل أسبابها ويصوغها في رؤية مرغِّبة ويحبكها في حكاية جاذبة؟