فوز زهران ممداني، السياسي الأمريكي الديمقراطي الشاب من أصول أوغندية هندية ومسلمة، بمنصب عمدة مدينة نيويورك في انتخابات نوفمبر 2025 حدث سياسي غير مسبوق في التاريخ السياسي الأمريكي كله، ليس نيويورك فحسب، بالنظر إلى أصوله من جهة، وحداثة جنسيته الأمريكية من جهة أخرى؛ حيث لم يحصل على الجنسية الأمريكية إلا في سنة 2018م. وإن كان احتفاء العالم الإسلامي والعربي بفوز ممداني مبررًا لانتمائه الآسيوي ودينه الإسلامي ودفاعه عن قضية فلسطين إنسانيًا، فإن احتفاء الشعبين الأمريكي والغربي بفوزه أمر مثير للاهتمام؛ إذ لا ينبغي لوصول المختلف أن يكون أمرًا مستغربًا في مجتمع يدَّعي حراسة الديمقراطية لعقود طويلة. وما هذا الصخب إزاء وصول هذا الشاب لمنصب عمدة نيويورك إلا انعكاس لعدم واقعية التنظير للديمقراطية وقبول الآخر قبل هذا الحدث وخلاله؛ إذ يغدو الأمر حينها نتاجًا طبيعيًا لعملية انتخابية شعبية أُسس لها اجتماعيا واقتصاديا ومعرفة سردية منذ ما يزيد عن قرن. لكن الواقع ينفي النظرية مفككًا السردية الأمريكية إلى سرديات مستحدثة آن لها أن تنتصر لتكاملية الاختلاف وطاقة القوى الناعمة التي تغلبت على كل من الضخ المادي لدعم التقليدي وتوجيه السرديات التاريخية لتكريس الواقع المادي.

زهران الأمريكي الهندي المتزوج من عربية سورية عاش انصهار وتمازج الاختلاف وتقبل الآخر، وفق رؤية يسارية ما بعد كولونيالية؛ فوالده محمود ممداني أستاذ للدراسات الأنثروبولوجية والأفريقية بجامعة كولومبيا، وأمه ميرا نيرة مخرجة أفلام وحائزة جوائز دولية. شاب نشأ فكريًا على كتب ومحاضرات إدوارد سعيد، وزوجته مريم سعيد والمفكر الفلسطيني والمؤرخ رشيد الخالدي الذي شغل منصبًا في كرسي إدوارد سعيد للدراسات العربية في جامعة كولومبيا.

لم يكن فوزه صدفة، خاصة في مدينة نيويورك، حيث يسكن أكثر من مليونَي يهودي من أصل تسعة ملايين أمريكي، وحيث أكبر تجمع للوبي الصهيوني؛ إذ كشفت مجلة «فوربس» أن 26 مليارديرًا أمريكيًا توحدوا تحت شعار «أي شخص إلا ممداني»، وأنفقوا أكثر من 22 مليون دولار في أسبوع واحد؛ لمنعه من الفوز في حملة انتخابية مضادة لم تعرفها نيويورك من قبل، إضافة إلى تصريحات ترامب الرامية لتأليب الرأي العام الأمريكي عليه مثل «هو شيوعي واشتراكي أيضا»، وأنه «سوف يسحب جنسيته ويطرده من البلاد»، «وإذا فاز الشيوعي ممداني في نيويورك، فسأخنق الولاية ماليًا وأمنيًا، والمفاتيح بيدي»؛ لكن نبرة ترامب تغيرت بمجرد فوزه، إذ قال: «إن على عمدة مدينة نيويورك المنتخب زهران ممداني أن يسعى إلى إقامة علاقة جديدة مع واشنطن، ويبدي اللطف بدلا من تبني خطاب غاضب تجاهي، ورغم خلافي السياسي مع ممداني، أود رؤية عمدة نيويورك الجديد يحقق نتائج جيدة لأنني أحب المدينة».

حصل عمدة نيويورك على 40% من أصوات يهود نيويورك مما يشير إلى تحول جذري في الخطاب السياسي الأمريكي، وفي بنية السرديات المرتبطة بقضية إسرائيل اعتمد فيها ممداني على الفصل بين الصهيونية وبين اليهودية واستطاع رغم صغر سنه إقناع مجاميع اليهود بإنسانية قضية فلسطين واعتداء إسرائيل على حق الشعب الفلسطيني في الحياة.

ولأن نيويورك ليست مجرد مدينة أمريكية عادية، بل هي مدينة ذات علاقة مباشرة بواشنطن مركز القرار السياسي، ولا يمكن تجاهل ما قد يصدر عن المدينة أو عمدتها أو أهلها، فإن فوز ممداني هو انتصار للإنسانية وما بعد الكولنيالية على العنصرية والإبادة العرقية والتهجير باسم النفوذ، هو انتصار للعدالة الاجتماعية على الأيديولوجيات الاستعمارية التصنيفية، لدرجة أن بعضهم اعتبره زلزالًا سياسيًا، وآخر وجد به انقلابًا ناعمًا على آلة النفوذ الأمريكي وتكريس التقليدية البالية.

لن يكون العمدة الشاب متقبلًا من قبل إسرائيل بالتأكيد؛ وهو ما عبر عنه وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، عقب فوز ممداني «إنها لحظة انتصرت فيها معاداة السامية على الحس السليم، إنه عدو لإسرائيل ومعادٍ لليهود ومؤيد لحماس»؛ مع ذلك، سيبقى الرهان على قدرة ممداني المستقبلية على استقطاب يهود نيويورك، وتجسير العلاقة بينهم وبين الإنسانية المتمثلة في عدالة قضية فلسطين، خاصة أن بين مناصريه يهودًا من طبقات إعلامية وثقافية وفكرية متحققة.

ختامًا: نحتفي جميعا بفوز ممداني هذا العام ليس لانتمائه العرقي والديني وحسب، بل هو احتفاء بقدرة الشباب على تغيير الواقع؛ حيث تحول الدعم الرقمي الصاخب المشتت إلى عمل تنظيمي واقعي بعد تعزيز الإيمان بطاقة الشباب الواعد من «جيل زد»، وقدرتهم لا على استقطاب أقرانهم وحسب، بل على إقناع الأجيال جميعها بضرورة الاتحاد والتكامل وصولًا لصياغة سياسات جديدة تتسم بالعدالة الاجتماعية، وتقليص الهوة بين الطبقات المجتمعية، واحترام المختلف، وتقدير المخلص من أصحاب الكفاءات، أيا كانت عرقياتهم وأديانهم وألوانهم، كما تتسم بمناهضة التضخم الضريبي والتسلط والاحتكار الاقتصادي.

استطاع زهران ممداني النجاح في بعث طاقات الناخبين في تشكيل أكبر حملة انتخابية أغلب مجنديها من الشباب الراغب في المشاركة، والمتحمس للتغيير بعد التهميش والإقصاء، وتحويل العداءات المصنوعة إلى صداقة وشراكات دائمة، وهو ما استحق عليه الفوز والاحتفاء حتى قبل أي رهان قادم على تجاوزه تحديات المرحلة ومكائد المنافسين.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية