يحلو لكثيرين الشكوى من هيمنة الرواية على الساحة وعدم إفساحها مساحة للقصة القصيرة، لدرجة أن الناشرين أحجموا عن إصدار مجموعات إلا للأسماء الراسخة، ومن باب إكمال صنوف المائدة، وبذلك تصبح القصص كالمقبِّلات بجوار الخروف المشوي الضخم، أعني الرواية.
كتَّاب القصة أنفسهم لهم يدٌ فيما وصل إليه هذا النوع الأدبي، حيث يحلو لهم التجريب غير المبني على فكرة أصيلة، وكذلك اتجهوا إلى الإغراق في الغموض والتهويم وخاصموا الحكاية لأنها أصبحت - بالنسبة لهم - علامة على الكتابة الكلاسيكية، كأنها تهمة، وصارت القصة أشبه بشخبطات، وابتعد عنها القراء وذهبوا للرواية حيث يجدون فيها ضالتهم.
ولكل ذلك كلما وقعت في يدي مجموعة جديدة يصيبني القلق، لكنني أشعر بامتنان كبير تجاه أي كاتب يعطي القصة حقها ولا يشعر بالحرج من الحكاية، كما فعلت الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان في مجموعتها "خوف بارد".
المجموعة تضم أربعة عشر قصة تتنوع بين القصر والطول، أطولها قصة "ورود ليلى". تبدأ عائشة تلك القصة بلقطات بانورامية للمدينة في السبعينيات دون أن تسمِّيها، ونعرف أن بيوتها متقاربة يكاد الغريب أو الناظر إليها من بعيد يراها متلاصقة، وهي ترتبط فيما بينها - خاصة بيوت العائلة الواحدة - بنظام الفُرج أو الفتحات التي تُصنع في جدران الأسوار المشتركة، بحيث يمكن لأي أحد من الأهل أن يتنقَّل بخفة ويُسرٍ بينها، ولذلك صار الحي أشبه ببيوت النمل. تصبغ عائشة الصورة بنوعٍ من الأسطورية حين تؤكد أن مهندسي التخطيط والمساحة فشلوا في عبور تلك الأزقة واكتشاف سرها ورسم خريطة لها.
ماذا أرادت عائشة سلطان إذن من التمهيد؟
بلغة السيما فإن ذلك التمهيد يشبه لقطاتٍ سريعةً في فيلم يريد مخرجه أن يرينا مكان الأحداث. أصبحنا مهيَّئين إذن لظهور الأبطال على ذلك المسرح الغريب في زمنٍ بعيد. تختفي الطفلة الجميلة ليلى ويتناقل الناس قصة اختفائها بقلق وخوف عميق، ويتذكرون المتاهة التي صنعوها بأنفسهم والغرباء الذين يقطنون معهم. نلهثُ مع كل سطر ونتمنى أن تظهر ليلى في النهاية، وألا يكون أحد قد اختطفها أو آذاها، وندرك على امتداد الصفحات أن القصة ليست عن البشر فقط وإنما هي أيضاً عن تطور الحياة في مدينة تعزل نفسها عن العالم منذ سنوات بعيدة، وما لحق بها تطور حين ظهر التلفزيون.
تعتمد بعض قصص المجموعة على المفارقة أو القفلة الخاطفة المفاجئة، مثلاً في قصة "وجوه" تسعى الأم إلى عرض لوحاتها في قاعة الفن التشكيلي الأهم بالمدينة لكن مديرها يطلب مبلغاً ليس بمقدورها الوفاء به، وبعد ساعات من اليأس تفاجأ بذلك المدير يتصل بها ويزف لها البشرى بأن القاعة في خدمتها، وتظن أن وزارة الثقافة التي كانت قد أرسلت لها فكرة لوحاتها قد تدخَّلت ودفعت الرسوم، تقتنع بذلك ونقتنع نحن القراء معها لكننا نفاجأ بأن الابنة الصحفية قد حصلت على قرضٍ لتسدد تلك الرسوم وتُسعِد الأم دون أن تخبرها، ورغم مشاعر الامتنان للابنة لكن القصة تدفعك إلى الأسى على المجتمع الذي لا يعرف إلا لغة المال.
أما في قصة "الوصية" فتحصل المحامية الشهيرة على حكم بالبراءة للحفيد، بعد أن تثبت إصابته بالشيزوفرنيا، فالقاتل هو الشخص الشرير الآخر الكامن داخله وليس هو، ونكتشف في النهاية أن تلك المحامية تعرف جيداً أنه ليس مريضاً، وإنما قاتل مع سبق الإصرار والترصد، فقد اتفق معها على أن يدفع لها مبلغاً خيالياً من تركة الجد بعد أن يصبح حراً طليقاً لكنه لا يفي بوعده وهو يعلم يقيناً أنها لا تستطيع أن تشكوه وإلا صارت شريكته في الجريمة!
وتظهر قدرة عائشة المذهلة على رسم بورتريه لإنسان شديد البساطة يريد أن يخترع لنفسه دوراً في مجتمع غريب عليه في قصة"حاجي ميت"، حيث يستلم رجل أفغاني مهمته كحارس للمقابر ويحلو له أن يتجول باعتداد وخيلاء في الشوارع القريبة من المقابر مرتدياً بدلة عسكرية مستجدياً الإعجاب في عيون الأطفال والنساء، لكن الثأر يكتب نهايته المفجعة!
وفي قصة "كوكب الجدات" نتلمَّس الصراع بين الحداثة والماضي من خلال علاقة الفتاة وجدتها. لم تعد الجدة مصدر الحكاية وإنما صارت عجوزاً تنغِّص حياة الصغيرة، فهي ترفض سهرها في الخارج وخروجها مع رفيقاتها وكذلك ترفض شراء مرآة لها بحجة أن المرايا تفسد البنات. ولأن عائشة سلطان لا تقدم إلا الشخصيات المركَّبة ترينا الوجه الآخر للجدة، فهي رغم حدتها مع الحفيدة إلا أنها ترفض شكوى الجارة منها بطريقة طريفة للغاية، إذ تستمر في الطرق على صفيحة معدنية حتى تزهق الجارة وتغادر!
وفي قصة "رئيس التحرير" نتتبَّع صعود الشاب الانتهازي إلى القمة ومع هذا نلمس إحباطه الشديد فهو لا يستطيع أن يغيِّر صورته في عيون أقرب المقربين له بما يعني أن المنصب لم ينتشله من دونيته.
بإمكاننا كذلك تلمس الغرابة في "جريمة" إذ تتركنا معلقين في فراغ الدهشة، لا نعرف إن كانت فاطمة قد قتلت الرجل بخلطة أعشاب أم لا، ولا نعرف أيضاً في "سر الغيمة البيضاء" إن كان معروف أو راعي الدكان قد أجرى تلك المقابلة المدهشة مع سيدة السحابة، فالقصص تمنحك الإحساس بأنها في قلب الواقع قبل أن تلقيك في متاهة الفن.
أما القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "خوف بارد" فهي درة القصص، إنها نواة المجموعة ومرتكزها لفهم فلسفتها أو ثيمتها الأساسية وهي "الخوف" بجميع مستوياته وتمظهراته. يأكل الخوف روح بطلة القصة ويدعوها للتشبث بذراع عامل السينما بينما يصحبها إلى كرسيها تحت إضاءة كشَّافه. لحظات خاطفة كافية لاستدعاء ذكريات تشبه الندبات الطازجة لا تندمل حتى بعد مرور سنوات طويلة.. ثيمة الخوف تشبه عامود الخيمة في تلك المجموعة، الخوف من اختفاء الأحبة، الخوف من ظهور الحداثة وتغيير نمط حياتنا، الخوف من الغد، الخوف من الغرباء، الخوف من قساوة قلوب الرفاق والأصدقاء، الخوف من الفقد. لقد قرأت تلك المجموعة باستمتاع وأصابتني كل قصة بدهشة أعتقد أنها لن تفارقني طويلاً.