المشهد الأول: في صالة البولينغ بأحد المجمعات التجارية، في يوم مخصص للنساء، أقف خلف 4 فتيات مراهقات بانتظار دوري. سمعتهن يتداولن أسماء لإرهابيين في حديث مع الموظفة المكلفة بتسجيل أسمائهن على الشاشة الخاصة بلعبتهن في صالة البولينغ. ظننت لوهلة أن الموظفة وجهت لهن سؤالًا عامًا إجابته ستمنحهن فرصًا أفضل في اللعبة، وكنت أنوي تنبيه الموظفة أن هذه النوعية من الأسئلة قد تلفت أنظارهن إلى ظواهر انحراف فكري قد يغذيه الفضول في هذا العمر الحرج؛ لكنني اكتشفت أن أشهر أسماء الإرهابيين عالميًا كان خيارًا طوعيًا مقصودًا من الفتيات في استبدال أسمائهن الحقيقية بأسماء مستعارة يشعرن معها بالراحة. وما كان بعد حين أن الشاشة حملت أسماء الإرهابيين ليبدأ اللعب حماسًا مع تداول الأسماء المنتقاة بعناية شديدة.

مما يثير القلق حول مصدر ذلك الإعجاب وتلك الأسماء، من قبل فتيات وهن الأبعد عن سياق القتال والحروب، بله الإرهاب شكلًا ومحتوى!.

المشهد الثاني : أعلنت وزارة الداخلية العراقية القبض على مراهق، يبلغ من العمر 14 عاماً، بعد تمكنه من إقناع 30 شخصًا بإنهاء حياتهم، وقال مدير إدارة الإتجار بالبشر في الداخلية العراقية إن المراهق أدار 16 شبكة عبر لعبة روبلوكس، واستدرج من خلالها ضحاياه، وأوضح أن الضحايا هم 29 شخصاً من دول عربية وغربية، إلى جانب شخص من العراق، وأضاف أن المتهم يتقن اللغة الإنجليزية وهو ما سهل مهمته في استدراج ضحاياه. بعد الخبر نعيش تراكمات التعجب والحسرة والحزن: كيف لمراهق اجتراح كل ذلك بعيدًا عن أعين الجميع عبر لعبة رقمية؟!

مشهدان ضمن مشاهد يومية متكررة، كلها تقودنا إلى عالم الألعاب الرقمية وما قد يصنع بعقول الناشئة، دون إنكار بعض إيجابياتها متمثلة في تفريغ الطاقات السلبية، وتعزيز القدرة على التفكير والتخطيط والتنفيذ بأسرع وأيسر الطرق الممكنة.

وبعد سنوات من التفكر في واقع الألعاب الرقمية وتأثيراتها على الجميع، وعلى المراهقين تحديدًا لا بد من قرع أجراس للتنبه لهذا العالم وفهم محتواه والتوغل في كواليسه وقاية من مخاطره ومجابهة له بأدواته ذاتها.

وضمن عدة مؤلفات حول أخطار الألعاب واتصالها بتغذية العنف، وتوفير بيئة آمنة لتفريخ الإرهاب وتسويقه تأتي دراسة «استغلال التنظيمات الإرهابية للألعاب الإلكترونية ومنصاتها» باللغة التركية، التي أعدها الباحث التركي «فاروق بيبرس»، ونشرها «مركز بحوث مكافحة الإرهاب والتطرف» الكائن بمدينة «أنقرة»، في فبراير ٢٠٢٤، مؤكدة أن المتطرفين لا يستغلون تلك الألعاب في التجنيد والدعاية والتواصل فحسب، بل يستخدمونها أيضًا باعتبارها وسيلة لمعرفة أنواع الأسلحة والمتفجرات، والتخطيط للهجمات الإرهابية ورسم السيناريوهات المحتملة لها، مستشهدةً في ذلك بما فعله اليميني المتطرف «أندريس بريفنيك» الذي ارتكب مجزرة جزيرة «أوتويا» في النرويج، وهجوم «أوسلو» عام ٢٠١١ الذي أودى بحياة ٧ ٧ شخصًا؛ إذ تدرب هذا الإرهابي على محاكاة هجومٍ شاهده في إحدى منصات تلك الألعاب. وفي السياق ذاته أشارت الدراسة إلى أن منفذي هجمات باريس التي وقعت عام ٢٠١٥، وراح ضحيتها ٤٣٢ مدنيًّا ما بين قتيل وجريح، قد خططوا ونسقوا لتلك الهجمات عن طريق تواصلهم عبر منصات للألعاب الإلكترونية. كما حذرت الدراسة من أن عناصر التنظيمات المتطرفة تدشن «مجموعات تواصل» خاصة ببعض الألعاب الإلكترونية، يلتقون من خلالها بالشباب والأطفال بحجة ظاهرها احتراف اللعبة وباطنها استقطاب الشباب وتشجيعهم على العنف واستخدام الأسلحة.

مع كل هذا التوصيف لحالة تعلق الناشئة بعالم الألعاب، وتأثرهم نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا، صنفت منظمة الصحة العالمية «اضطراب الألعاب الإلكترونية «ضمن التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11).عام 2018م، وقد عرفته بـ «نمط من سلوك اللعب المستمر؛ حيث يواجه الشخص صعوبة في التحكم بالوقت المستغرق في اللعب، وهذا يجعله يفضل الألعاب على المهام الأخرى في حياته» فما بالكم بالألعاب ذات المحتوى العنيف التي صممت لجذب انتباه الأطفال لدرجة التحول من الحالة الطبيعية لحالة الاندماج والتماهي بين الطفل واللعبة، حتى يصبح جزءًا منها، فيشعر بالإثارة والتوتر؛ وكلما أدمن اللعب، تسربت جرعة من العنف إلى داخله، ليعيش عالم العزلة والانفصال عن الواقع، فيزول إحساسه بالزمان والمكان، وتقلّ رغبته في تناول الطعام أو القيام بأشياء مفيدة»، مما قد يسهل معه إقناعه بالتحول من البطولات والقتال الرقمي إلى العالم الواقعي، بعد انسلاخه عن عالمه إنسانًا ومكانًا.

ختامًا: بعد إسهام قطاع الألعاب الرقمية في دعم اقتصاد الكثير من الأفراد والشركات ( بل وحتى الدول)، لم يعد في الإمكان تقليص الاهتمام بها واستمرار تحديثاتها الدورية المتسارعة؛ لكن التسليم بذلك لا يعني بالضرورة تسليمًا بالمحتوى على علاته، ولا يعني كذلك إمكانية رفض دخول هذا العالم المتشعب. ربما من الحكمة فهم هذا العالم، تمامًا كفهم إمكانات الخصم لدراسة إمكانية هزيمته، ولن يتأتى ذلك دون الوعي الكامل بأدواته وتقنياته، ثم مجابهته بمحتوى موازٍ يؤكد على قيم أخرى هي السلم والتواصل التفاعلي، بدلًا عن الصدام المسلح والحروب المصنّعة، محتوى سلمي قادر على إعلاء قيمة الإنسانية والسعي لخدمتها عوضًا عن إنكار الذات وتأجيج الرغبة في تدمير الآخر.

حمى الله شبابنا من أدوات العنف الجسدي، ومنافذ الإنحراف الفكري، وروافد الإرهاب.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية