في أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهر في أوروبا التسويق لمفهوم جديد يُعرف بتوأمة المدن أو (المدن الشقيقة Sister Cities)، في إشارة إلى تلك العلاقة الرسمية والشعبية التي يمكن أن تنشأ بين مدينتين على المستوى البلدي، للتعاون وتبادل المنافع في مجالات محددة، وهذه العلاقة تكون مدفوعة في الغالب بالتماثل بين المدينتين سواء في الخصائص أو المزايا، أو طبيعة الموارد وتكوين الثقافة، أو الأهداف الاقتصادية والتنموية التي يسعى المستوى البلدي (اللامركزي) إلى تحقيقها من خلال تخطيط المدينة تنمويًا. كان نشوء الفكرة في أوروبا مدفوعًا في بداياته بفكرة إعادة الإعمار بعد الحرب، وإعادة تأهيل المجتمعات من الداخل، وتأسيس نمط جديد للتفاهم الثقافي والسياسي يبدأ من المدن ذاتها، واليوم تشير الأدبيات إلى أن هناك ما يزيد عن 15 ألف علاقة توأمة بين المدن والمجتمعات في أوروبا وحدها موثقة بوثائق وأطر رسمية. تطور المفهوم كان محكومًا بطبيعة الفترات التاريخية التي مر بها، وبطبيعة المقاصد والظروف التي تعيشها المدن العالمية، ففي مرحلة معينة كان التركيز على الأبعاد الثقافية والتراثية، وتبادلات الفن والمنتجات الثقافية المختلفة وتنظيم الفعاليات ذات البعد الثقافي، وفي مراحل أخرى ركز على الإنتاج الصناعي وممكناته وحركة الخبرات والمنتجات المادية بشكل أساس، وقد نشهد في مراحل لاحقة تركيزًا على أبعاد الاستدامة والبيئة في تحقيق وولادة أشكال جديدة من المدن الشقيقة.

تشير إحدى الدراسات التي غطت المفهوم في أستراليا وحدها إلى أن ما يزيد 29% من المجالس المحلية في البلاد ترتبط بعلاقات توأمة أو شراكة مع مجالس محلية في بلدان أخرى، وفي السياق العالمي فإن أكثر ثلاث دول تقصدها المدن العالمية في بناء التوأمة أو الشراكات تتمركز في (الولايات المتحدة والصين واليابان). كما تشتغل العديد من المنظمات على توسيع وتشجيع نطاق المفهوم عالميًا، وعلى المساعدة في وضع الأدبيات والأدلة وبناء القدرات في سبيله، فإلى جانب منظمة المدن الشقيقة الدولية Sister Cities International يعمل المركز الأسترالي للتميز في الحكومة المحلية The Australian Centre of Excellence for Local Government على العديد من الدراسات والبحوث المقارنة التي تبحث في المفهوم وتحاول وضع الأسس التطبيقية له. وفي محاولتنا الموسعة لفهم توسع المفهوم عالميًا وجدنا تحليلًا يفيد بأن التبادلات التعليمية والطلابية والبحثية تشكل أكثر من 50% من مقاصد اتفاقات وتفاهمات توأمة المدن، وتليها في مقاصدها الاتفاقيات المرتبطة بالشق الاقتصادي والتجاري. وفي سلطنة عُمان هناك إشارة إلى ميثاق توأمة تم التفويض بالتوقيع عليه بموجب مرسوم سلطاني صدر في عام 1984 بين مدينة مسقط ومدينة الدار البيضاء في المملكة المغربية « دون أية تفاصيل لاحقة وصلنا إليها في آليات تطبيقه ».

ومما لاشك فيه أن منظور توأمة المدن يخضع لعدد من المحددات التي وجب الانتباه لها منها طبيعة التنظيم التشريعي والقانوني لمستويات الإدارة المحلية، والمساحة التي يمكن أن تتحرك فيها بالتفويض في مثل هذه الاتفاقات، والمحددات السياسية والثقافية والاقتصادية للمدن المقصودة بالتوأمة، إضافة إلى تأثير البنى المجتمعية وقابليتها لتحقيق الاستفادة العظمى من فكرة التوأمة. وتؤكد الأدلة العلمية في هذا الجانب على أن تحديد مقاصد محددة للتوأمة (مجالات) يعتبر أهم موجهات نجاحها وتبيان أثرها. وبالنظر إلى سلطنة عُمان فإن في ظل التحول نحو تنشيط الإدارات المحلية، وفي ظل وضع الاستراتيجية العُمرانية لنماذج عُمرانية محددة لكل محافظة ومدينة تبين خصائصها ونموذجها الاقتصادي والثقافي المقصود، فإن كل هذه الموجهات تتيح بيئة خصبة لتجريب مفهوم توأمة المدن؛ فهناك محافظات من خلال الاستراتيجية يرتجى أن يتشكل نموذجها العُمراني على فكرة «الابتكار والتقنية والخدمات المالية»، وأخرى على «الصناعات الثقيلة واللوجستيات»، وغيرها على «التنوع الثقافي والسياحي».

وبالنظر إلى هذه النماذج على سبيل المثال سنجد أن هناك مدنًا تشكل أيقونات عالمية في مثل هذه النماذج يمكن الاستفادة من تجاربها وخلق توأمة مصممة لتتناسب مع نموذج النمو العُماني المقصود. على سبيل المثال هناك مدينة في تشيلي تشكل قصة نجاح في مجال السياحة والاستجمام رفيعة المستوى وهي مدينة فيـنا دل مار ومن درجة جاذبيتها ونجاحها في خلق مساحة للسياحة البحرية والترويح والرياضات البحرية باتت تسمى La Ciudad Jardín (مدينة الحديقة) أو (حديقة البحر). وفي الابتكار والتعليم المتقدم والمستقبلي يشار دومًا إلى مدينة تولوز في فرنسا والتي أصبحت تسمى (عاصمة أوروبا للفضاء والطيران) وبنت نظامًا بنيويًا متكاملًا مدعومًا بأقوى الجامعات ومراكز البحث والتطوير التقني لخدمة مقاصد العلم والابتكار تحديدًا في مجالات الفضاء والطيران. وفي سياق إدماج العلم مع المقومات الاقتصادية يشار إلى مدينة كورك في إيرلندا والتي تضم ثاني أكبر ميناء طبيعي في العالم وتدعمه بالجامعات والكليات التي تركز على العلوم الحيوية والطاقة المتجددة والعلوم البحرية.

هذه نماذج محدودة وعابرة لمدن تتماثل مع بعض خصائص نموذج النمو العُمراني المحدد لمحافظات سلطنة عُمان، غير أن الأمثلة التي يمكن سردها غير منتهية، وفي هذا الصدد يمكن لسلطنة عُمان أن تتبنى مفهومًا دبلوماسيًا جديدًا تحت مسمى «دبلوماسية العُمران»، في إشارة لشكل الدبلوماسية الذي يركز على توسيع نطاق الشراكة وتعزيز توأمة مدن عمانية مع مدن عالمية، والاستفادة المتبادلة من العُمران في مفهومه البشري والثقافي والإنساني وفي مفهومه المادي والاقتصادي، وهو ما لا يعني بالضرورة استنساخًا للتجارب أو انسلاخًا من خلق نموذج ذو خصوصية محلية وثقافية واجتماعية وإنما تحقيق ثلاث مقاصد أساسية: البناء على نتاج أفضل ما توصلت له التجارب الدولية، والاستجابة المشتركة والمعززة للتحديات العالمية القائمة، وتعميق التواصل والدبلوماسية الثقافية مع مختلف مناطق العالم.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان