العلاقة بين الفن والواقع معقدة ومتشعبة؛ ولذلك فإنها موضع خلاف دائم، ليس فقط على مستوى التنظير، وإنما أيضًا على مستوى التلقي لدى الجمهور العادي.

ذلك أن هذه العلاقة نفسها يمكن النظر إليها من زوايا عديدة، أعني: من حيث علاقة الفن بالحياة ذاتها، وبالواقع السياسي والاقتصادي. وسوف أحاول إيجاز هذه العلاقة أولًا من منظور الصلة بين الفن والحياة، ثم من منظور الصلة بين الفن والسياسة في مقال تالٍ.

لعل أفلاطون هو أول من تناول باستفاضة مسألة الصلة بين الفن والواقع من منظور فلسفي يتعلق بنظرية المعرفة: إذ رأى أن المعرفة الحقة هي معرفة بالمُثُل أو معاني الأشياء، أما المعرفة بالأشياء نفسها كما تتبدى لنا في عالمنا أو دنيانا فهي وهم وخداع؛ لأنها تطلعنا فحسب على صورة من صور الأشياء الجزئية العابرة في عالم الواقع. ولأن الفن يُعد صورة من هذه الأشياء الجزئية الواقعية؛ فإنه بذلك يُعد صورة من صورة أو نسخة من نسخة. ومعنى هذا بطريقة ضمنية أن ما ينبغي أن يكون عليه الفن هو أن يحاكي المثال أو المعنى الكلي الذي هو الأصل والحقيقة. لكن أفلاطون بذلك لم يستطع أن يبين لنا كيف يمكن أن يحدث هذا في الفن (ببساطة لأنه فصل بين عالم المُثُل أو المعاني الكلية وبين عالم الواقع)؛ ولذلك فإن شوبنهاور هو من تكفل فيما بعد بهذه المهمة التي أخفق فيها أفلاطون، بأن أوضح لنا بالتفصيل كيف يتجلى المثال أو حقيقة الشيء في الشيء نفسه كما يتبدى أو يحدث في واقع ما. فالحقيقة أن المثال عند أفلاطون يُوجد في عالم مفارق، ويظل في النهاية مجرد فكرة تغيب عنها تفاصيل الحياة والموجودات الواقعية كما توجد في زمان ومكان ما. وبذلك فإن مذهب أفلاطون في الفن عمومًا يتنكر للواقع الذي نعرفه والذي نحياه.

وفي العصر الحديث رأى هيجل الفن باعتباره « التجلي المحسوس للفكرة»، والفكرة هنا تعني الروح أو الوعي الكلي الذي يسري في الوجود. وبما أن الفن هو أحد تجليات الوعي في الواقع، فإن هذا يعني أن الفن في عمومه (بما في ذلك الأدب) هو تجسد للفكر أو الوعي في الواقع، وهذا التجسد يحدث باعتباره عملية جدلية تطورية؛ وبالتالي فإن التغير والتطور الذي يجري على مسار الفن في الواقع هو انعكاس للتطور الذي يجرى على مسار الروح أو الوعي الكلي.

غير أن هذا الموقف بعينه كان مثار نقد الماركسيين لمذهب هيجل هنا: فعلى الرغم من إعجابهم بمنهج الجدل عند هيجل الذي يقوم على التغير والتطور، إلا أنهم رأوا في معظمهم مثلما رأى إمامهم ماركس أن الجدل عند هيجل يقف على رأسه وعلينا أن نقلبه؛ لأن الوعي ليس هو ما يوجه التاريخ ويتطور وفقًا له العالم، بل إن الأوضاع الاجتماعية ممثلة في الواقع الاقتصادي والسياسي في المقام الأول هي ما يشكل وعي الناس وطريقة تفكيرهم في أي مجتمع. ولهذا فقد رأى ماركس أن الفن الذي له قيمة هو الفن الذي يعبر عن مصالح الطبقة العاملة في كفاحها من أجل التغيير.

أما الماركسيون من نقاد الماركسية الأرثوذوكسية (أو الأصولية)- خاصةً من أتباع مدرسة فرانكفورت من أمثال: هوركهايمر وأدورنو- وإن كانوا يسايرون الماركسيين في السعي إلى ربط الفن (الذي هو شكل من أشكال الوعي) بالواقع؛ فإنهم يرفضون اختزال هذا الواقع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالطبقة على نحو تصبح قيمة الفن وماهيته مختزلة في التعبير عن المصالح الطبقية. ذلك أن الفن عندهم له وظيفة اجتماعية وسياسية، فهو وإن كان يعكس الواقع الاجتماعي، فإنه يكون قادرًا في الوقت ذاته على تجاوز أصوله الطبقية، والتحرر من الواقع والتمرد عليه، وهذا معنى ثورية الفن وقدرته على التغيير.

والرأي عندي هو أن كل فن حقيقي لابد أن يأتي معبرًا عن حالة إنسانية ما، وقد تتمثل هذه الحالة في لحظة إنسانية ما معينة عابرة، أو في واقع اجتماعي يجري في زمان ومكان ما. هذا أمر لا شك فيه، بشرط أن نعي دائمًا أن الفن لا يعبر عن هذا الواقع بأن يعكسه أو يصوره على النحو الذي يُوجَد عليه، بل بأن يقوم برفعه إلى حالة حضور دائم يتجاوز عالمه الجزئي، وذلك من خلال التعبير عن دلالة عامة تتجاوز إطاره الزماني المكاني. وهذا يصدق حتى على الفن التجريدي abstract art الذي لا يتمثل واقعًا معينًّا ما، ولكنه مع ذلك لا يخلو من التعبير عن دلالة عامة ما يمكن أن نتمثلها في واقعنا المعيش. ولهذا فقد قيل دومًا إن الفن التجريدي بوجه عام هو نوع من التعبير عن رفض العالم، ومن ثم التمرد على الواقع وعلى النحو الذي تتبدى عليه الأشياء في هذا الواقع.

كيف نطبق ذلك على الصلة بين الفن والواقع السياسي، وهي الصلة التي تعبر بشكل أكثر وضوحًا وتحديدًا عن تجليات العلاقة بين الفن والواقع؟ هذا ما سوف نتناوله في المقال التالي بمشيئة الله.