«أنا أوسعكم حظًّا اليوم»، هكذا قلتُ لأعضاء جمعية النور للمكفوفين بعد انتهاء الملتقى العربي الذي ضمّ 14 دولة عربية في خمسة أيام، وكنت أعني تمامًا ما قلت. فأنا لم أكن قبل هذا في مواجهة قريبة جدًّا لتفاصيل الكفيف الذي أبهرني بما عوّضته الطبيعة عمّا حُرِم منه.

إذ وجدتني في هذا الملتقى -الذي تخصّص في الجانب الثقافي والفني فقط- أنزلق من عتمتي التي ألفتها طويلًا إلى مدارج نورٍ لم أُحسن قراءته يومًا، رغم هوسي بقراءة كل ما تقع عليه عيناي المغلولتان إلى صندوق عقلي. وحتى لا أطيل عليكم كثيرًا، ففي مبادرة نوعية متخصّصة من جمعية النور للمكفوفين برئاسة الدكتور رائد الفارسي، تقرّر إقامة ملتقى عربي يجمع المكفوفين تحت سقف واحد. وكان آخر ملتقى عام وغير تخصصي للمكفوفين قد أُقيم في سلطنة عمان سنة 2015م.

وبصفتي عضوة في اللجنة العلمية للملتقى، كنت شاهدَة عيانٍ على معجزات شتّى، وعالمٍ جديدٍ لم أطرق له بابًا قبل ذلك، جهلًا مني لا استهتارًا.

المذهل في هذا الملتقى هو توحّد الثقافة العربية التي لم نؤمن باتحادها سابقًا! فقد تشكّلت فرقة فنية ملوّنة من الأقطار العربية المشاركة في غضون سويعات، ليُبهرونا بمقطوعة لم يفِ حقَّها التصفيق الحار حينها، ولكنني أجزم يقينا بأنها سكنتني ومن معي من الحاضرين طويلًا. لقد عزفوا كأنهم يتحدثون لغة واحدة: لغة الإحساس المطلق.

ذلك التشكّل العفوي السريع والعميق الدلالة يؤكد أن المكفوفين يملكون طاقات خلاقة تتجاوز البصر إلى البصيرة، وأن ما ينقصهم ليس القدرة، بل المنصّة التي تحتضنهم وتنسّق جهودهم.

في هذا الملتقى، كنت أشدَّ الناس حرصا على محاورة كل كفيف على حدة، لألِجَ عالما مبهما ظننتُه عتمة، غير أنه على النقيض من ذلك. ووقفت مع نفسي أردد سؤالًا واحدًا:

ماذا لو فقدت بصرك بين عشية وضحاها؟ وأصبحت تتلمّس النور في أحلامك بينما يرافقك الظلام ما تبقّى من عمرك؟

«أسوأ ما قد أتعرض له في حياتي هو أن أفقد كفَّ يداي!»

هكذا قال لي الدكتور علاء العيداني، وهو أحد المكفوفين الذين حاورتهم في الملتقى.

فقدَ العيداني عينَيه إثر انفجار عبوة ناسفة في حرب الدواعش في العراق قبل عشر سنين، وكان حينها أبًا لطفلٍ يبلغ السادسة من عمره.

أما الشيخ الأزهري إيهاب يونس، فقد وُلد بالإعاقة البصرية منذ الطفولة، ولم يرَ النور في حياته. وقصص كثيرة بين من وُلد كفيفًا ومن فقد بصره لظرف ما.

من هنا تتبلور الحاجة إلى رابطة دولية موسّعة للمكفوفين تُعنى بالجوانب الثقافية والفنية والعلمية، وتُقام ملتقياتها دوريًا في بلدان مختلفة تُختار وفق معايير مدروسة تراعي المصلحة الحقيقية للكفيف وفرص تطويره وتمكينه.

وتهدف هذه الرابطة إلى تبادل وتعزيز الهوية الثقافية للمكفوفين عالميًا، وإبراز إسهاماتهم في الفنون والآداب والموسيقى، وبالتالي خلق بيئة فنية دولية وشبكة دعم معرفي ونفسي تتيح للكفيف التعبير عن ذاته عبر الموسيقى والمسرح والكتابة وغيرها من الفنون من مختلف الأقطار، لتبادل التجارب وتخفيف العزلة. ومنها تتشكّل لدينا قاعدة بيانات عالمية تُسهم في تطوير السياسات العامة الداعمة لذوي الإعاقة البصرية.

إن هذه الرابطة الدولية تمثل كيانا عالميا جامعا ومنصّة للتعاون الإنساني والثقافي، تُسهم في تحسين صورة الاهتمام بحقوق ذوي الإعاقة وتبادل الخبرات في تطوير البرامج التعليمية والتأهيلية، فضلًا عن كونها جسرًا حضاريًا بين الأمم يوحّدها الفنّ والوعي.