ناجي جابر المولايي -

كيف أحاورك يا موتُ

أيّها الغُموضُ الجارحُ.

يا جَذْرَ المجهُول.

يامَن يُوقظُ السؤالَ في قاعِ البحرِ ثمّ ترميها أمواجُهُ على يابسةِ اللاأدري.

مَن ذا الذي يَفهمُ ما تُوحي به أمواجُك، حيثُ جَعَلتْ لغةَ الوجودِ رموزا وطلاسمَ.

كم سَبِحنا في نهركَ بصَخَبٍ وأهملنا تَتَبُّعَ مائكِ حتى امتَزَجْنا بمياهِ البحر فذابت الجهات واندثرت الألوان.

يا موت

يا مُمزَّقَ الخيط الذي ينظمُ الأشياء.

كيف أحاوركَ وهل تُحاورُ النارُ خيوطَ الشموع.

يُبغضك الفلاحون لأنّكَ تَكسرُ غُصونَ الأشجار

وتُبخّرُ ماءَ الأنهار.

أنتَ غَسقٌ يَهزأ بضوء النهار

صيفٌ يُبعثر ورودَ الربيع، نهرٌ تخشاهُ الأَسماك، أُمّيٌّ ينقدُ أُوديسة ومراهقٌ يَسخرُ بالمتنبي.

أمّا أنا، أنا رجلٌ يُفكّرُ بعاطفتهِ وهل تَفهمُ يا موتُ لغةَ العاطفة؟

أنا طفلٌ يَركضُ ضاحكا ببراءةٍ خلفَ طائرتهِ الورقيّة، خلفَ فراشةٍ يُداعب أجنحتَها نَسَمات،

ويا موتُ هل تُدركُ أنتَ البراءةَ؟ وهل تَفهمُ ما يَربطُ من إحساس بين الأطفال ورفيفِ أجنحةِ الفراشات؟

أنا سيارةُ إسعافٍ عالقةً في زِحام السيارات.

حديقةٌ جَعلتَ أشجاري تَتَمنطق بمنطقِ الضَّباب.

رؤيا صادقةٌ أفسَدَتْها اليقظةُ ولا أعلمُ كيف استيقظتُ، ربّما بعوضةٌ حَطّتْ فوق جبيني وجَعَلتْ رؤيايَ الصادقةَ، رؤيا بَتراء.

يا موتُ أنا أحبُّ البدايات

وأنتَ بِدايةٌ مُخيفةٌ لأَنّ نهايتَها سِرٌ، أُلغوزةٌ، مُضمَرةٌ، مُبْهَمةٌ، نهايتَها صمتٌ موؤودةٌ فيه الكلمات.

وأنا أُحبُّ الاستعجالَ في فهم ما يُخفى ويركضُ خَلفَ الإجابات.

وأنتَ اختَنَقتْ فيكَ الأَجوبةُ وتَجلَّتْ فيكَ الشُّبُهات.

لكن وعلى رَغْمِ غُموضِكَ يا موت، أبقى أبحثُ عن وميضِ وضوحٍ، عن نَبتةِ جلجامش

أبقى أصرخ: أين أبي؟ هل يراني الآنَ؟

هل يسألُ عن درسي؟

هل يَرجِعُ مساءً مُبتسما بيدهِ تفاحٌ يُوزّعُهُ بيننا؟ هل يسألُني مرةً أخرى عن ساعةِ أذانِ الفجر وشروقِ الشمس ليصليَ صلاةَ الصبح؟ هل يَجعلُ طرَفَ كوفيَّتهِ على عينيِه وينام؟

كان أبي لا يَنزِعُ كوفيتَّهُ حتّى في منامهِ، فكيفَ أراها الآنَ هامدةً في خِزانةِ الملابسِ بعد ما كانت تُرفرِفُ شوقا على حَبل الغَسيل؟!

أبي هذا بيتُك وهذه دلّةُ قهوتِك ووسادتُك وساعتُك، هذهِ نافذةُ مُضيفِكَ لا تزالُ مفتوحةً نحو النخلةِ التي غَرَستَها بيدك، كلُّ شيءٍ في مكانهِ إلّا أنتَ، فأينَ أنتَ الآنَ؟

يا أبي إنّ جميعَ الدروسِ التي أمرتَني بحفظها لم تَفُكَّ شَفرةَ غيابِك، وجميعَ حروفي صارتْ غُباراً في تَمّوز فراقِك.

آهٍ يا عقلُ، كم أَهُزُّ بجِذعِك، أينَ رُطَبُكَ الجَنيّ؟ يا شِعرُ يا نثرُ أيّتها المفرداتُ والمكتبات ما هذا الصَّمتُ الرهيبُ الذي لا يَنكسر؟ لماذا تغيّرت الألوان؟ لماذا لا يُحرُّك النِّسيمُ أوراقَ الأشجار ولا يأتي بزقزقةِ العصافيرِ ولا يَحمِلُ عِطر الياسمين؟

بِتُّ حيرانَ كريشةِ رسّامٍ مَكفُوف، كنايٍ بينَ شَفَتَيْ مُقفَّعٍ، يجهلُ أسرارَ الصحراء.

يا سماءُ أَقلِعِي عن السؤال، لا جُوديَ اليومَ، وليس بوسع الأرض أنْ تَبلَعَ أسئلتك الماطرة.

يا شمسُ أَشرقي فقد أنْهَكَني مَنطِقُ السَّدَفِ البَهيم.

«أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا انجَلي

بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ

فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ

بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ»

تنفَّس يا صبحُ تنفس، تنفَّس يا صبحُ تنفس

إنّ ظلامَ الليلِ الدَّامس أمْسَى يَقتُلُني

صار الموتُ بعُزلتهِ الصماءِ يَسرقُ برهاني

كلامُ ليلي لا يَمحُوهُ نهارٌ

دقات الساعةِ شكٌّ يَغزو إيماني وحنيني.

إلهامٌ لا يُثبتُني قلمٌ، لا دفترَ يُؤويني

ليس بوسعي مُحاورةُ الموتِ

لا أفهمُ جدليَّتَهُ

هو نهرُ سؤالٍ، أريدُ أنْ أَعْبُرَهُ لا أَنْ أغرقَ فيه.

سؤالٌ جَعلَ الأجوبةَ في محبس

هو رَقَمٌ لا يَعرفُ حَدَّاً لا حِسّاً

فيه يَنجمدُ الكَلِمُ، والقولُ يخرَس

زمنٌ رابع، يمحو المستَقبَلَ والماضي وبمحو الحاضر يتمرَّس.

شاهينٌ يَفترسُ النورَس.

تاهتْ قافلتي، غابتْ كلُّ نجومِ الرُّشدِ وقمرُ الليلِ المترئس

تنفس يا صبح تنفس

تنفس يا صبح تنفس..  

ناجي جابر المولايي شاعر من الأهواز.