يجد الشعر الكامل في الرواية والقصة:

*عجزت عن تذوق أي شاعر غير عربي بسبب اللغة

*الرواية أصعب أنواع الأدب وتحتاج إلى كاتب فيلسوف

*تجربتا رياض الصالح وأمل دنقل من التجارب القليلة الكاملة في الشعر العربي

*الإبداع العظيم يظهر أكثر في مناطق الحروب والمحن

*لولا الجوائز لكان هناك احتمال بأن أتوقف عن الكتابة

جرَّب الشاعر المصري عبيد عباس، في بداية حياته، الإقامة في القاهرة، لمدة أيام قليلة كانت كافية لجعله يشعر بالرعب على مستقبله الأدبي. لم يقرأ بسبب صخب القاهرة حرفاً واحداً في كتاب طوال وجوده فيها، مع أنه بطبعه قارئ نهم لا يستطيع أن يعيش بدون قراءة؛ لذلك لم يتردد في اتخاذ قرار العودة إلى الجنوب حيث المكان والزمان أبرح لحركة المبدع. يرى عبيد أن العاصمة كانت، في السابق، "فاترينة" للعرض، ولكنها الآن، بسبب الميديا، فقدت هذه الميزة، وأصبح الإبداع الحقيقي قادراً على عرض نفسه من أي مكان.
ينظر إلى تجربة عبيد باهتمام شديد، خاصة وأنه قد حاز عدة جوائز مرموقة، منها جائزة الشارقة عامي 2009 و2016، وجائزة كتاب اليوم 2010، وجائزة فلسطين 2012، وجائزة البردة العالمية 2012، وقد أصدر ثلاث مسرحيات شعرية هي "أمير الصعاليك"، "الجدران" الكهف"، وعدة دواوين هي "الخروج عن النص"، "ربما يوماً أقابلكم ولا ألاقي السؤال"، "الشارع"، "على ظهر دراجة في الهواء"، "عن موت سائق الدراجة"، "جميل لحد انتهاء القصيدة"، وهذا الحوار معه بمناسبة صدور أحدث دواوينه "المكان الذي فيه كلب".
أسألك في البداية.. هل غزارة إنتاجك منبعها التنظيم أم شيءٌ آخر؟
نعم، مع القراءة المستمرة، فالوقت، بلا قراءة، لا يجعل المبدع منتجاً. أنت، في القراءة، متعلم دائماً، ومتجدد دائماً، وتابع دائم لكل إمام يظهر لك في الطريق إلى مدن الجمال.
مجموعتك القصصية الوحيدة "حذاء فان جوخ القديم" تبدو إلى الآن استثناءً في تجربتك .. لماذا لم تعد إلى القصة مجدداً وهل يمكن أن تكتب الرواية؟
دعني أسر إليك بشيء، هو أنني، رغم كوني شاعراً، أقرأ السرد أكثر، بل لا أبالغ لو قلت إنني أجد الشعر الكامل في الرواية والقصة، والشعر هنا بمعنى "الجميل المدهش المغاير" للعادي، والذي قد يتجلَّى في قصيدة أو فيلم أو رواية أو مسرحية أو حتى في إنسان جميل. انحيازي هذا، للرواية، ليس انحيازاً ذاتياً ولكنه موضوعي، نابع من طبيعة السرد والشعر؛ لأنني أظن أن اللغة في السرد وعاء للمعني، أو لنقل هي ثوب القصة والرواية، بينما في الشعر اللغة جلد القصيدة ولا يمكن فصلها؛ لذلك فالرواية عالمية والشعر محلي، في الشعر عجزت عجزاً كاملاً، بسبب اللغة، عن تذوق أي شاعر غير عربي، لا يوجد أي شاعر أجنبي - بسبب مشكلة اللغة هذه - تجاوز في ذائقتي، المتنبي وأبا تمام ونزار وأمل ودرويش والماغوط، لكن في الرواية أكاد أقول إن أغلب ما أقرؤه أجنبي.
أما عن سؤالك حول السرد، فأنا عندي مخطوط رواية بعنوان "كاف"، دخلت قائمة الستين لجائزة كاتارا، ومخطوط مجموعة قصصية بعنوان "الحكاية الأخرى عن موت ساراماجو". لكن حقيقة أشعر أن الرواية أصعب أنواع الكتابة وتحتاج لكتابتها أن يكون المبدع شاعراً ومسرحيّاً وسينمائيَّاً وفيلسوفاً بل ويجب أن يكون اجتماعياً مراقباً لكل شيء.
أعتقد أن كل إنسان يحمل داخله رواية واحدة، هي قصة حياته، وأظن أنني لن أقدم على التجربة مرة أخرى. ربما يحدث عندما أشعر أنني تسلحت بما تسلح به كتّاب الرواية العظماء، أقول ربما..
ما سرُّ ولعك بقصيدة التفعيلة؟ وما رأيك في القول بأنها استنفدت أغراضها؟
أنا أكتب القصيدة العمودية والتفعيلية، وربما ينتهي بي الأمر إلى كتابة القصيدة النثرية، ولي ديوان كامل عمودي اسمه "على ظهر دراجة في الهواء"، وديوان "المكان الذي فيه كلب" تغلب عليه التفعيلة. قطعاً لا يوجد شكل أدبي يستنفد أغراضه، لأن الأمر متعلق بالشاعر وليس بالشكل الشعري. وعن ولعي بقصيدة التفعيلة أقول ليس ولعاً بل انحياز؛ لأنني أظن أن قصيدة التفعيلة هي كلمة السر في قضية الشكل؛ فإذا اتفقنا من جانب على أن الفن يرادف القيد، بمعنى أن الفرق مثلُا بين المشي والرقص أو بين الرقص والباليه هو ارتفاع في القيود التي تصنع الفن، وإذا اتفقنا كذلك على أن القصيدة العمودية عائق أمام تعبيرٍ كامل أو شبه كامل، سنجد أن قصيدة التفعيلة هي حلقة الوصل بين حرية النثر وفنية القيد.
المجاز حاضر بقوة في تجربتك.. ماذا يمثل المجاز بالنسبة لك؟
المجاز هو الفن. إذا اتفقنا على أن الفن، أقصد الشعر والسرد والمسرح والسينما.. إلخ. هو مخالفة العادي، أو الصعود من المتوقع إلى المدهش، أو هو الواقع، بتعبير هتشكوك، بعد أن تنزع عنه المملل، وإذا اتفقنا على أن المجاز هو نقيض الحقيقة أو هو الحقيقة في صورة أخرى أجمل، يصبح المجاز المرادف الوحيد للفن.
ولدت عام 76 أي أنك على مشارف الخمسين، ومع هذا فإن حساسيتك للشعر تختلف كثيراً عن حساسية مجايليك، فهم يميلون إلى كتابة قصيدة النثر التي تعتمد على مشهدية الكتلة وكذلك التخفف من المجاز أو حتى مخاصمته، والتركيز على التفاصيل البسيطة اليومية والبحث عن إيقاع بديل للموسيقى الكلاسيكية.. لماذا؟
أنا لا أؤمن بالفصل بين الأشكال، وفيما أظن أن الشكل ليس ديناً، بل هو ثوب يحتاج المبدع في حالة معينة. بمعني أن الحالة هي التي تفرض الشكل. فهناك حالة لا يناسبها إلا الشكل العمودي وأخرى التفعيلي وأخرى النثري. طبعاً أنا مؤمن إيماناً مطلقاً بضرورة وجود القصيدة النثرية، لكن ولأنني أعتقد أن الفن يرادف القيد، وكذلك لأنني أعتقد أن قصيدة التفعيلة هي حلقة الوصل بين حرية النثر وفنية القيد، لا أجدني أحمل تلك القدرة، الآن, على صناعة قصيدة نثرية حقيقية تنطبق على تصوري للشعر.
كيف تقرأ تجربة جيل التسعينيات في العالم العربي؟ ومَن الشاعر الذي لا تكتب مثله لكنك تحبه؟
كل شاعر حقيقي له صوته الخاص أحبه وأشعر أنني لا أكتب مثله، بل وأتمنى أن أكتب مثله. كل آخر حقيقي أجمل، عندي، مني؛ لأنه يقدم لي ما لا أعرف ولا آلف.
أنا أقسِّم الشعراء إلى نوعين: مختلف عن الآخرين وأعظم من الآخرين، مثلاً أبوتمام وأبو نواس ونزار وأدونيس مختلفون، بمعنى أنهم، في الغالب، لم يسيروا في طرق مهدها لهم الآخرون، لكنهم سلكوا طرقاً جديدة وهناك من تبعوهم وتفوقوا عليهم، مثلا المتنبي تأثر بأبي تمام، ولكنه، بحسب تذوقي، تجاوزه، من هذه الفئة البحتري والمتنبي ودرويش وأمل دنقل ومحمد الماغوط ورياض الصالح الذي أرى تجربته هو ودنقل من التجارب القليلة الكاملة في الشعر العربي.
هل ترى أن الشعر مظلوم مقارنة بالرواية حالياً؟
إطلاقاً. حدود الشعر، تشبه الحدود الجغرافية التي لا نملك تغييرها، الشعر محلي، كما ذكرتُ، الشعر لا يمكن أن يُترجَم؛ لأنه واللغة شيء واحد لا ينفصل، بينما الرواية، لطبيعتها، أكثر قدرة على التعبير من الشعر. الرواية حياة والقصيدة لحظة فيها، الرواية نهار والقصيدة ومضة في ظلام. الرواية قد تحمل الشعر ولكن العكس ليس صحيحاً.
لماذا أهديت ديوانك "على ظهر دراجة في الهواء" للقبح؟
لأنه لولا القبح ما اشتقنا للجمال، الحياة تعني النقص والشوق الدائم، والقبح هو الذي يوجِّه عيوننا للجمال. ألا ترى معي أن الإبداع العظيم يظهر أكثر في المناطق التي تعاني، ويظهر في الحروب والمحن أكثر من فترات السلام.
لماذا ترى أن القرية متطرفة في صناعة الجمال؟ وهل ما يحدث في قرية عربية ينطبق على القرى الأخرى؟
مفردة قرية من القر، أي الثبات والجمود، القرية تقوم على الثبات والتكرار، تأمل مفردات مثل العادات والأعراف، حتى الملابس والمسلمات والأفكار كلها ثابتة. مفردة القرية مفردة مذمومة حتى في النص القرآني، لقد سمى الله المكان الذي رفض الفكرة الجديدة بأم القرى بينما المكان الذي قبلها ودافع عنها المدينة. لعلك تتفق معي على أن قرية في المنيا أخرجت خالد الإسلامبولي وقرية أخرى فيها أخرجت طه حسين.
لماذا ترى أن فقدان الأمل خير من الأمل الكاذب؟
سأفاجئك وأقول لك إنني أميل الآن إلى الأمل الكاذب، لأنه هو الدافع الوحيد للحركة والحركة هي الحياة.
حصلتَ على عددٍ كبير من الجوائز؟ ماذا تقدِّمُ الجائزة للكاتب؟
للجائزة فائدتان في غاية الأهمية للكاتب، الأولى أنها تعطيه الشعور بالتقدير وهو من دوافع الكتابة، والثاني، وهو الأهم، أنها توفر له المال الذي يستطيع أن يشتري به الوقت، الوقت الذي لا يحتاج المبدع إلى سواه. تخيل لو حصلت على جائزة مالية تتيح لك الاستغناء عن الوظيفة، أو على الأقل عن العمل الثاني الذي يضطر إليه أغلب المصريين، وفرغت كلية للقراءة والكتابة، وهذا ما حصل، لولا هذه الجوائز، كان هناك احتمال أن أتوقف عن الكتابة أصلاً.
أخيراً .. ما طموحُك للشعر؟
أن يكون له أقدام يسير بها على الأرض، وأيادٍ يمدها للعاجزين ويصفع بها الطغاة والمجرمين.