كلير جونز وسام فليمنج- الفاينانشال تايمز
ترجمة قاسم مكي
أعضاء النخبة المالية العالمية الذين طاروا الى مطار دالس لحضور اجتماعات صندوق النقد الدولي في الأسبوع قبل الماضي هبطوا في ولاية شهدت واحدة من أكبر موجات البناء المحموم في أمريكا. فحزام مراكز البيانات في فرجينيا الشمالية يرمز الى استثمار في التقنية يحركه الذكاء الاصطناعي وازدهار سوق الأسهم. لقد أعان أمريكا على تحدي التنبؤات الكئيبة في بداية هذا العام بتراجع اقتصادي حاد تشعله حرب ترامب التجارية.
في الربيع كان صندوق النقد الدولي من بين المؤسسات التي أطلقت تحذيرات قاتمة من مخاطر انكماش تواجه الاقتصاد الأمريكي. والآن تتحدث كريستالينا جورجيفا المديرة العامة للصندوق بنبرة مختلفة. فقد ذكرت يوم الخميس قبل الماضي أن ازدهار الاستثمار في الذكاء الاصطناعي "يشيع تفاؤلا مذهلا ... يتركز أساسا في الولايات المتحدة."
لم تكن الرسوم التجارية العائق الوحيد للنمو. فاقتصاد الولايات المتحدة يواجه تراجعا في سوق العمل وقمعا وحشيا للهجرة والآن إغلاقا للحكومة. لكن المستهلكين الذين استمروا في الإنفاق يتموضعون في قلب الأداء القوى للاقتصاد. فالمحرك الحيوي للنمو بحسب الاقتصاديين هو أثر الثروة الإيجابي والناشئ عن القفزات السريعة في أسعار الأسهم والتي أنعشها إنفاق من يملكون أصولا كبيرة. يقول بيير اوليفييه جورانشاس كبير الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي أن قفزات أسعار الأسهم مرتفعة جدا وهذا يُثري المستهلكين.
السؤال هو الى أي حد سيثبت هذا التوسع الاقتصادي الأمريكي الذي يخالف التوقعات إنه قادر على الاستمرار.
يتحدث الاقتصاديون عن اقتصاد يتحرك بسرعتين. فالقفزات الصاروخية لأسعار الأسهم تنعش إنفاق العائلات الثرية فيما يجد الأفراد أصحاب الدخول المتدنية أن قدرتهم على الانفاق تتآكل بسبب التضخم الذي يفوق المعدل المستهدف وضعف نمو الأجور.
تقول ازابيل ماتوس إي لاجو كبيرة الاقتصاديين ببنك بي إن بي باريباس "ظاهريا يبدو الاقتصاد مرنا لكن تحت السطح لايزال هنالك الكثير الذي ينبغي القلق بشأنه. ... الناس مدركون بأننا يمكننا أن نشهد في أي وقت صدمةً تنهي تلك المرونة."
يقارن البعض انتعاش سوق الأسهم بازدهار شركات الانترنت ( دوتكوم) في أواخر التسعينيات. وهذا يثير المخاوف من ارتداد قاس. فالأسواق يمكن أن تخاف بسهولة من تجدد العداوات التجارية والتي ظلت تضطرم أثناء الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن هذا الشهر.
وفي مناسبة بمعهد التمويل الدولي في واشنطن هذا الشهر قال جيمي ديمون رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان تشيس "أسعار الأصول مرتفعة جدا والفوارق الائتمانية منخفضة جدا... أنا أري ذلك وسأشعر بقدر أكبر من الارتياح إذا لم يكن صحيحا." وأضاف "تعتقد السوق أن كل شيء سيكون على ما يرام. أنا لست متأكدا تماما من ذلك."
تفاؤل أمريكي وقلق دولي
التفاؤل الذي يحيط باقتصاد الولايات المتحدة يتباين بشدة مع التوجس الذي استقبل الوفود الى اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الربيع الماضي.
هيمنت على تلك الاجتماعات صدمة عالمية نشأت من حزمة رسوم "يوم حرية " ترامب الى جانب سلسلة التراجعات التي أعقبته. ففي أبريل حدد صندوق النقد الدولي احتمال حدوث انكماش اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة 40% مع خفض توقعات نموه. وقالت جورجيفا وقتها "الدول الأعضاء قلقة."
وفي هذا الشهر رفع صندوق النقد الدولي توقعات نمو الاقتصاد الأمريكي وتوقع توسعا بنسبة 2% في هذا العام و2.1% في عام 2026. هذه وتيرة أبطأ من عام 2024 لكنها تظل الأسرع في بلدان مجموعة السبع.
جزء من قوة النمو يمكن تفسيرها بالرسوم الجمركية التي استقرت عند مستوى "فعلي" أدنى من ذلك الذي كان يُخشى منه في البداية مع معدل رسوم مرجَّح بالتجارة الأمريكية يبلغ 17.5% مقابل 23% في أبريل.
لقد تعزز النمو بالإنفاق والاستثمار المبكِّرَين من جانب الأفراد والشركات استباقا لتطبيق الرسوم. كما أثبتت الشركات أيضا أنها قادرة على التكيف على نحو غير متوقع مع إعادة تجهيز سلاسل توريدها وامتصاص التكاليف الإضافية.
نتيجة لذلك من المتوقع الآن أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من هذا العام الى معدل سنوي يبلغ 3.9%، وفقا لبنك الاحتياطي الفيدرالي في اتلانتا والحفاظ على وتيرته التي تحققت في الربع الثاني.
يقول المحللون أن السمة الأكثر لفتا للانتباه في أداء الاقتصاد كانت الوضع المتين للمستهلك الأمريكي أو على الأقل وجود فئة أقوى اقتصاديا من السكان.
ازدهار الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على تغذية مستويات مذهلة من الاستثمار في بناء مراكز البيانات. فهو أيضا يساهم في رفع أسعار الأسهم الأمريكية الى مستويات قياسية وعديدة استنادا الى الثقة في قدرة التقنية في تعزيز الإنتاجية والنمو.
تشكل الآن سلة من 30 سهما مرتبطا بالذكاء الاصطناعي 43% من إجمالي الرسملة السوقية لمؤشر ستاندارد أند بورز 500، حسب بنك جيه بي مورجان. الزيادة في قيمة هذه الأسهم قدمت للعائلات الأمريكية ثروة إضافية بلغت 5 تريليون دولار خلال العام الماضي وحده. ويقول مارك سومرلين الشريك الإداري في شركة ايفينفلو ماكرو الاستشارية "هنالك أثران منفصلان أحدهما إنفاق الاستثمار المباشر وهذا يضيف حوالي نصف نقطة مئوية للناتج المحلي الإجمالي. ثم هنالك (أثر) سوق الأسهم."
على هذه الخلفية بدا بعض المحللين في التساؤل عن سبب خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة. في الواقع كانت سوق العمل ضعيفة نسبيا وهذا ما دعا الى المطالبة بخفض تكاليف الاقتراض (لتنشيط الاقتصاد).
يعتقد مايكل سترين مدير دراسات السياسة الاقتصادية بمعهد أميركان انتربرايز أن تخفيضات أسعار الفائدة خاطئة بالنظر الى الوضع المتين للإنفاق الاستهلاكي مع وجود مؤشرات على ضغوط تضخمية أساسية مستمرة. يقول "آثار الثروة هذه حقيقية وستظل باقية حتى عام 2026 وستعزز الإنفاق الإجمالي. " ويضيف " هنالك قدر كبير من الضغوط التضخمية."
أثر الثروة على النمو
قد يكون الانفاق الاستهلاكي الأمريكي مثيرا للإعجاب لكنه متوازن الى حد بعيد. فالارتفاع في أسعار الأسهم يعني أن الأمريكيين الأكثر ثراء والذين يميلون الى امتلاك أسهم تزيد كثيرا عما يملكه الآخرون يساهمون في دعم الاستهلاك.
يكشف بحث بواسطة مارك زاندي وهو اقتصادي بوكالة موديز أن العُشْر الأعلى دخلا من السكان مسئولين الآن عن حوالي نصف كل الاستهلاك الأمريكي. ويقدر ما يُسمّى "أثر الثروة" بحوالي خمس سنتات. هذا يعني أن الأمريكيين ينفقون نيكل (خمس سنتات) مقابل كل دولار يكسبونه في سوق الأسهم.
يقول زاندى " من باب الصدفة أن ازدهار الذكاء الاصطناعي حدث خلال العام الماضي. لقد ساهم في امتصاص الضربة من سياسات الرسوم الجمركية وحملة ترامب ضد الهجرة. إنه سبب رئيسي لعدم دخول الاقتصاد في انكماش."
كل هذا أسعد الشركات التي تبيع الخدمات والسلع الفاخرة. فشركة الخطوط الجوية "دلتا أير لاينز" ذكرت في الأسبوع قبل الماضي إنها تتوقع تجاوز الإيرادات من مبيعات منتجاتها المتميزة مثل تذاكر الدرجة الأولى مبيعات الدرجة السياحية في العام القادم.
وذكرت مرسيدس بينز في الأسبوع الماضي أن مبيعات التجزئة من سيارتها "جي واجن" والتي يبدأ سعرها من 148250 دولار ارتفعت بنسبة 41% خلال هذا العام مقارنة بارتفاع بحوالي 6% في مبيعات الشركة بالولايات المتحدة.
لكن من هم أسوأ حالا بدأوا يعانون الآن. فالشركات الأمريكية توجد عددا أقل من الوظائف فيما يحذر جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي من اقتصادٍ "تقل فيه التوظيف ويقل فيه إنهاء الخدمة."
في أثناء الجائحة استفادت كل العائلات الأمريكية من شيكات التحفيز التي قدمها ترامب ثم الرئيس السابق جو بايدن. وفي السنوات التي تلت ذلك كانت الوظائف المتاحة وفيرة مما ساعد على دعم النمو القوي للأجور.
الآن يلاحظ الاقتصاديون تراجعا في سوق الوظائف والذي ربما يعود الى هبوط في الطلب أو الحملة على الهجرة. وتُظهر مصادر أخرى للبيانات أن العاملين الأمريكيين الأقل أجورا والأكثر تأثرا بالتراجعات في الدورة الاقتصادية تزداد أجورهم الآن بقدر أقل مقارنة بأصحاب الدخول الأعلى.
تشير الأرقام من بنك الاحتياطي الفيدرالي في اتلانتا الى أن متوسط أجر الربع الأدنى من العاملين من حيث الدخل ازداد بنسبة 3.6% مقارنة بزيادة بلغت 4.6% في أجور أصحاب الدخول الأعلى. وحتى إذا بدت المتوسطات جيدة سنجد أن السكان ذوي الدخول المنخفضة ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في كل مكان يعانون بسبب حدة التضخم وعدم مجاراة الدخول لارتفاعه بقدر كاف، حسبما تقول آنا بوتين الرئيسة التنفيذية لبنك سانتاندر الاسباني.
يوم الخميس قبل الماضي ذكر كريستوفر والر عضو مجلس محافظي الفيدرالي أن معارفه في قطاع الأعمال يتحدثون عن تأثر ذوي الدخول المتدنية بارتفاع الأسعار. ويقول إنهم " شرعوا سلفا في تغيير.. خطط انفاقهم للحصول على قيمة أفضل." وستزداد متاعبهم في العام القادم عندما يتم تطبيق مشروع قانون موازنة إدارة ترامب "الكبير والجميل."
يقدر مكتب الموازنة بالكونجرس الذي يراقب السياسة المالية أن التخفيضات الضريبية (في قانون الموازنة) ستزيد الأثرياء ثراء على حساب أفقر الأمريكيين.
وذكر المكتب أن التخفيضات في مخصصات التأمين الصحي وطوابع الطعام ستقلل الموارد المالية المتاحة لفئة العُشر الأدنى في توزيع الدخل بمبلغ 1600 دولار في العام. ويمكن أن تتوقع فئة العُشر ( 10%) الأعلى دخلا ارتفاعا في مواردهم بمبلغ 12000 دولار في العام.
كانت هنالك مخاوف واسعة النطاق وسط المسئولين الحكوميين بأن الذكاء الاصطناعي سيزيد هذه الفجوة بين الأثرياء والفقراء في الولايات المتحدة.
وقال ايسوار براساد الأستاذ بجامعة كورنل أن أثر ازدهار الذكاء الاصطناعي في الحد من إيجاد الوظائف يخيف بعض المسئولين من بلدان الدخل المنخفض أيضا. يقول "هم مشلولون تقريبا. إنهم يرون صدمة كبرى قادمة لكنهم يشعرون بالعجز عن فعل الكثير بشأنها".
مخاوف أخرى
الارتفاع الحاد في أسعار الأسهم ليس المؤشر الوحيد المزعج في الأسواق المالية. فسعر الذهب صار يرمز الى تدهور الثقة في الدولار وقدرة الصدمات الجيوسياسية الكبيرة على الإضرار بالنمو العالمي.
يعتقد توبياس ادريان مدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بصندوق النقد الدولي أن توقعات المحللين المتفائلة بشأن إيرادات شركات الذكاء الاصطناعي قد تقود الى نتائج عكسية. وقال للفاينانشال تايمز "من بين المخاطر أن الإيرادات في وقت ما قد تكون مخيبة للآمال وهذا بدوره قد يطلق موجة بيع للأسهم ".
كشفت السوق عن علامات توتر خلال الأسبوع الماضي مع خشية بعض المستثمرين على عافية البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة. تقول كارين دينان لأستاذة بمدرسة كنيدي هارفارد وكبيرة الاقتصاديين السابقة بوزارة الخزانة الأمريكية "جزء كبير من قوة الاقتصاد يرتكز على هذا التفاؤل في المستثمرين وسوق الأسهم. وإذا ظلت أسعارها عند مستواها الحالي فالمكاسب التي تحققت كبيرة بما يكفي للحفاظ على زيادة الاستهلاك بوتيرة سريعة حتى العام القادم." وتقول أيضا "اعتقد المسألة الأكبر هي ما الذي سيحدث إذا حدث نوع من التصحيح (في الأسعار)؟ "
لايزال الوزراء قلقون بشأن التطورات العالمية خصوصا عدم إمكانية التنبؤ بالسياسة التجارية للولايات المتحدة ومخاطر حدوث اضطرابات جديدة في التجارة الدولية. يشير البعض الى الخلافات التي نشبت هذا الشهر بين الصين والولايات المتحدة حول المواد الخام الحيوية كمؤشر على أن الاقتصاد العالمي لايزال في وضع ضعيف.
ويعبر ايلكو هاينن وزير المالية الهولندي عن ارتياحه من الاتفاقيات التجارية التي تم توقيعها في الشهور الأخيرة بين الولايات المتحدة والشركاء الرئيسيين بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. وهو يرى الآن قدرا أقل من عدم الأمان في النظام (التجاري والاقتصادي العالمي). لكنه يقول الوضع لم يستقر تماما بعد. فالأمور قد تتغير بسرعة.