لا يمكن الحديث عن الهشاشة دون الحديث عن الصلابة، كما لا يمكن الحديث عن الظلام إلا ويكون الضوء حاضرا. لم يتغير البشر بهذا القدر من قبل كما حدث في السنين الأخيرة، فقد حصلت تغيرات لم تعد مقتصرة على الفكر أو العقائد والأفكار وحدها، بل تعدتها إلى التغييرات البيولوجية في الجسم البشري وخصائص بعض الأجهزة في جسم الإنسان بما فيها الدماغ. وقد ظل المؤلفون بمختلف تخصصاتهم ومجالاتهم وما يحسنون كتابته يتحدثون عن أمرين لا يمكن للإنسان العيش بدونهما، وهما السعادة والسعي إلى تحقيقها، والحزن والسبيل إلى التغلب عليه وقهره وتجاوزه.

أوليست السعادة هي الفكرة المحورية في الفلسفة اليونانية منذ نشأتها، والفلسفات التي تلتها؟. استمر هذا الأمر مع بزوغ فجر الإسلام ونهضته الكبرى في العلوم كافة، فانبرى فلاسفة كبار للحديث عن هذا الأمر وتفنيده ومقاربته بأشمل صورة ممكنة.

يقول فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة أبو حيان التوحيدي في المقابسات «سمعت أبا سليمان يقول: نحن نساق بالطبيعة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة. لأن الذي هو بالطبيعة قد أحاطت به الضرورة، والذي بالعقل قد أطاف به الاختيار، ولهذا الفرق الذي استبان، وجب أن نستسلم لأحدهما، ونتحزّم للآخر. ولا يصح الاستسلام إلا بطيب النفس فيما لا حيلة في دفعه، ولا يتمُّ التحزّم إلا بإيثار الجد فيما لا ينال إلاّ به.

والضروري لا يُسعى إليه، لأنه واصل إليك. والاختياري لا يُكسَل عنه، لأنه غير حاصل لديك. فانظر أين تضع توكلك فيما ليس إليك، ومن أين تطلب ثمرة اجتهادك فيما هو متعلق بك. ثم قال: نحن نقضي ما علينا، ونجتهد بما لدينا، ويجري الدهر بما شئنا أو أبينا..فالإنسان مسجون بالضرورة والاختيار. ومع ذاك فمعاده إلى غايته التي هو متوجه إليها من جهة اختياره، ومتوجه نحوها من جهة اضطراره».

وهذا المبحث لم يستأثر بمعناه التوحيدي أو كان مقتصرا عليه وحده، بل هي معرفة متراكمة عند الفلاسفة العرب الذين ظلوا يذكرون «تهذيب النفس» أو يعالجون موضوع «الأخلاق» بمصطلحات عديدة ومتنوعة باعتبارها علما قائما بذاته وصنعة لها بابها الخاص المتفرد، وحين يقرأ القارئ تلك الكتب لا يجدها إلا متجهة اتجاها مباشرا لما نصطلح عليه اليوم بعلم النفس.

لم تكن المعرفة جديدة إذن، إنما الإصطلاح كان كذلك. فقد كتب الفيلسوف الأول أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي رسالة بالغة البراعة، محكمة الصنعة، ومتقنة أيما إتقان وهي رسالته الفلسفية الموسومة ب»في الحيلة لدفع الأحزان». ولا يقرأ المرء هذه الرسالة إلا ويستحضر مباشرة كل الكتب الحديثة في علم النفس التي تقارب معرفتنا بأنفسنا وعلاجنا لها ومقاربة الأسباب والنتائج المنبثقة عن تلك الأسباب. فقد تناول الكندي علم النفس نظريا بأفضل طريقة ممكنة حينها -بل وهي مفيدة نافعة اليوم لمن يعيد قراءتها- لكن الفيلسوف الذي نقل الأمر من حالته النظرية إلى التطبيقية؛ كان تلميذه والآخذ عنه صاحب كتاب «مصالح الأبدان والأنفس» وهو أبو زيد البلخي.

فرّق البلخي بين الأمراض النفسية والبدنية في كتابه وهو الذي كان حيا بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، التاسع والعاشر الميلاديين. وقد نقل لنا محققا كتابه «مصالح الأبدان والأنفس» د.مالك بدري و د.مصطفى عشوي وصف التلميذ الوزيري لأستاذه البلخي «ومقارنته بأقطاب أهل الكلام قائلا: «وسمعت بعض أهل الأدب يقول اتفق أهل صناعة الكلام أن متكلمي العالم ثلاثة: الجاحظ وعلي بن عبيدة الريحاني وأبو زيد البلخي؛ فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ، ومنهم من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد»«. وهما اللذان يقولان في تقدمة الكتاب «فلا يشك المرء عند قراءته لفهرست المخطوط أنه لكتاب حديث في الصحة النفسية والعلاج النفسي».

وهاك أنموذجا على صدق زعمهما، فنجد في فهرست الكتاب «في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تدبير الأبدان والأنفس، في تدبير حفظ صحة الأنفس عليها، في تدبير إعادة صحة النفس إذا فُقِدَت إليها، في تدبير دفع الحزن والجزع». يقول البلخي في موضع من كتابه «..الأعراض النفسانية هي مثل الغضب والغمِّ والخوف والجزع وما أشبهها.. هي ألزم للإنسان وأكثر اعتراء له من الأعراض البدنية وذلك أن الأعراض البدنية قد يسلم الواحد منها حتى لا يكاد يعرض له في أكثر أيام عمره منها أو من عامتها شيء، فأما الأعراض النفسانية فإن الإنسان مدفوع في أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها إذ ليس يخلو في كافة أحواله من استشعار غمٍّ أو غضبٍ أو حزن» .

كتب هؤلاء الفلاسفة والنفسانيون الأُوَل كتبا ورسائل عديدة في علاج الهشاشة التي تعتري المرء جرّاء الحياة وتجاربها وما يمر به الإنسان من مصاعب واختبارات قد يدرك وجودها ولا يدرك أسبابها وعلاجها.

ومن الأشياء العجيبة في عصرنا، هي «الوفرة السامة» التي كتبت مقالة عنها من قبل بذات العنوان، فنحن نبحث عن العلاج بمصطلح ما في عقولنا، ونظن بأننا لم نجده لأننا لم نجده بالمصطلح الذي توخيناه، بينما هو موجود في حقيقته منذ القدم بغير ذلك المصطلح. فالوفرة السامة جعلتنا لا نعرف قيمة الكتب التي لدينا والتي نستطيع الوصول إلى ما فيها بلا مشقة أو صعوبة كتلك التي تتطلب ترجمة، ولا يُدرَى أتلك الترجمة صحيحة أم أنها تتطلب مراجعة من مختص.

لذلك استفاد القدماء من الكتب القليلة النادرة التي معهم لأنهم أخذوها وعضوا عليها بالنواجذ فحووا ما فيها ثم انتقلوا إلى غيرها، على العكس من العصر الحالي الذي يقفز فيه القارئ من كتاب لآخر قبل أن يحوي ما فيه أو يفهمه بالشكل الذي أراده مؤلفه.

إنني لا أقول بأي شكل من الأشكال أن كل شيء بدأه العرب، أو أن العصر الذهبي للإسلام هو النواة الأولى لكل العلوم؛ لكنني أدعو بصدق أن نعود إلى هذه الكتب لا باعتبارها تاريخا للمعرفة، كمن يتأمل تاريخ تطور الأدوات في متحف ما، إنما بإعادة إحيائها واستعمالها لأسباب عدة، ليس أقلها أن العربي يعرف العربي بعاداته وتقاليده وخصوصية كل منطقة وعقلها الجمعي.

فالعودة إلى الأصول الأولى ذات قيمة هائلة لا محدودة، أقلها أنها ليست متشعبة تشعبا يفضي إلى الفوضى لا الترتيب كما هي بعض المراجع الحالية التي تعسر على غير المتخصص، وتتطلب من المتخصص جهدا إضافيا. ثم إنك واجد في هذه الكتب نبذا من الحكمة والأدب والفلسفة والتصوف، بما يجعل المرء يستمتع بالقراءة والمعرفة باعتبارها مادة شاملة حية، لا جامدة متخشبة.

أما عن موضع النص من مقابسات التوحيدي، فإنها تشير بما لا يدع مجالا للشك بأن أمر صلاحنا النفسي كامن فينا نحن، وفسادنا كذلك وهو يوافق التعريف الحديث لعلم النفس الذي يحيل أمر الصحة والمرض النفسي إلى العقل وسلامته. فهل سنلتفت إلى أنفسنا بالمداواة والعلاج الناجع وإن كان مرا عسير الوصول لا الحصول، أم أننا سنكتفي بإسدال يدينا وفتحهما على مصراعيهما للقدر متوهمين أننا بلا حول أو قوة؟.