تيموثي جارتون آش

ترجمة: أحمد شافعي

من يفتح شباكه المطل على شارع هادئ في وسط العاصمة التشيكية براج فإن أول ما يسمعه هو صوت جر حقائب السفر على الأرض المرصوفة بالحجر؛ إذ يسير السائحون إلى فنادقهم أو مساكنهم التي حجزوها من خلال موقع (Airbnb). وقد استقبلت براغ ثمانية ملايين زائر في العام الماضي. وهؤلاء في تنقلهم حول قلعة براغ، وارتيادهم مقاهي المدينة القديمة، وملئهم فضاءاتها بالثرثرة البهيجة قد لا يعلمون، أو لا يعلم كثير منهم بأمر النصر الانتخابي الذي حققته حديثًا الأحزاب الوطنية الشعبوية؛ فقد يخيل إليهم أنهم في محض بلد أوروبي طبيعي آخر. والمفاجأة -لو تعلمون- هي أن ما يخيل إليهم صحيح.

غير أن بعض المطلعين من كتاب الصحف ـ الرامين إلى لفت الأنظار بالتعميمات ـ يحكون لنا قصة مختلفة؛ فيقولون: إن هذا بلد في أوروبا الشرقية يعود إلى سابق عهده. فالتشيك الآن تحذو حذو المجر وبولندا وسلوفاكيا، غير أن الحقيقة أشد إثارة، وأبعث للقلق.

منذ ستة وثلاثين عاما الوقت الذي وقعت فيه الثورة المخملية في عام 1989 كان أهل براغ كثيرا ما يقولون لي: إن كل ما يريدونه هو أن يكون بلدهم بلدًا «طبيعيًا». وكانوا يقصدون بالطبيعي أن يكون شبيها بألمانيا (الغربية) أو فرنسا أو بريطانيا أو أسبانيا أو إيطاليا. وها هو الآن كذلك. كل ما حدث أن الطبيعي تغير خلال تلك السنين؛ فقديمًا كان الوضع الطبيعي الغربي السائد هو أن يكون البلد ليبراليا أمميا مواليا لأوروبا. والآن بات الوضع الطبيعي هو المعادي لليبرالية الوطني المتشكك في أوروبا. وفي الحملة الانتخابية التي شهدتها التشيك حاول رئيس الوزراء القائم في الحكم بيتر فيالا أن يحشد الناخبين التشيكيين بسؤالهم: «هل تريدون المضي شرقًا أم غربًا»؟ فأي معنى كان يقصده بسؤاله وفي الغرب رئيس أمريكا هو دونالد ترامب ورئيسة وزراء إيطالية هي جيورجيا ميلوني، ناهيكم بنايج فاراج و«إصلاح المملكة المتحدة»، وحزب «البديل من أجل ألمانيا» في ألمانيا، وحزب «التجمع الوطني» في فرنسا، وهؤلاء جميعا يتصدرون استطلاعات الرأي؟

رئيس الوزراء القادم المحتمل أندريه بابيش رئيس حزب آنو (نعم)، وهو ملياردير ورجل أعمال استغل ثروته الهائلة في تأسيس مسيرة سياسية لافتة. ولقد تولى منصب رئيس الوزراء بالفعل في الفترة بين عامي 2017 و2021. وهو -بمواجهته إزعاج بعض الإجراءات القانونية المتعلقة باتهامات فساد في معاملات سابقة- ليس بالرجل ذي القناعات الأيديولوجية العميقة، وإنما هو «رجل أعمال شعبوي» يمضي في الوجهة التي توجد فيها أصوات الناخبين. ألا يذكركم هذا بأحد؟ لعله سلفيو برلسكوني في إيطاليا، أو ترامب.

أما الأحزاب الصغيرة المنتظر أن تشاركه في الائتلاف فهي أكثر تطرفا، وهي حزب (الحرية والديمقراطية المباشرة) اليميني المتشدد بقيادة القومي التشيكي نصف الياباني توميو أوكامورا، وحزب «سائقو السيارات لأنفسهم» ذو الاسم الغريب. وقد رشح حزب سائقو السيارات لمنصب وزير الخارجية سائقا سابقا لسيارات سباق يدعى فيليب توريك ولديه سجل مشين للغاية منه صورة فوتغرافية له، وهو يؤدي التحية النازية من شباك سيارة. وهذا مريع، لكن لدى رئيس البلد بيتر بافيل سلطة دستورية تخول له حظر الترشيح. وما مدى منافاة هذا كله لطبائع الأمور حينما يكون الوضع الطبيعي المعياري هو أن يلقي وزير الدفاع الأمريكي والبطل الكرتوني بيت هيجسيث محاضرة أمام ثمانمائة من كبار القادة العسكريين الأمريكيين عن أهمية أداء تمارين الضغط وحلاقة اللحية؟

فرنسا معروفة تاريخيا بأنها البلد الأشد تعاليا على النصف الشرقي من أوروبا فيما أسميه بالاستشراق الأوروبي الداخلي. لكن حتى في ظل وجود شخصيات غريبة من أمثال أوكامورا وتوريك؛ فإن السياسة التشيكية نموج للاستقرار إذا ما قورنت بالسياسة الفرنسية اليوم. وقد يبدو بابيش أقرب إلى زعيم جاد إذا ما قورن بشخصيات هزلية من أمثال رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ليز تراس.

ولو أننا تعمقنا قليلا لوجدنا المزيد من الأدلة على وجود خليط أوروبي متشابك؛ فبفضل النمو الاقتصادي اللافت منذ انتهاء الشيوعية يحظي التشيكيون الآن بإجمالي ناتج وطني لكل نسمة هو الرابع عشر على مستوى الاتحاد الأوروبي ـ عند قياسه بتعادل القوة الشرائية ـ، فهم متقدمون على أسبانيا والبرتغال. والتشيك لديها نسبة أقل من السكان المعرضين لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي في الاتحاد الأوروبي، ولديها أحد أقل معدلات البطالة. ووفقا لمؤشرات أخرى من قبيل التعليم فوق المتوسط؛ فإن أداءها جيد.

وبفضل إرث رئيسين عظيمين هما توماس جاريج ماساريك الرئيس المؤسس لتشيكوسلوفاكيا بعد الحرب العالمية الأولى، وفاكلاف هافيل الرئيس المؤسس لجمهورية التشيك بعد الحرب الباردة؛ تحظى التشيك بمؤسسات ديمقراطية تعددية صلبة إلى حد ما وفقا للمعايير الغربية اليوم. ومنها مجلس شيوخ لن يسيطر عليه الشعبيون القادمون، ومحكمة دستورية مستقلة، ومكتب رقابة وطني، وخدمة عامة للإذاعة والتليفزيون لا تزال تحظى بالاحترام. وسوف تتعرض هذه المؤسسات للخطر من الشعبويين في السلطة، لكن المجتمع المدني النشط ورئيس البلد سوف يدافعان عنها. وليت بوسعنا أن نقول مثل هذا في شأن الولايات المتحدة.

والتاريخ بالطبع له كلمته؛ فلا تزال هناك بعض التماثلات الإقليمية التي ترجع إلى أربعين سنة من السيطرة السوفييتية والحكم الشيوعي الذي استمر حتى عام 1989، لكن على نحو متزايد تظل تركات تاريخ ما قبل الشيوعية وما قبل امبراطوريات 1814 هي المؤثرة، وانظروا إلى المواقف من حرب أوكرانيا على سبيل المثال. يعمد الناس إلى تعميمات مجانية مفادها أن أوروبا الشرقية أشد دعما لأوكرانيا وعداوة لروسيا من أوروبا الغربية. والحق أن بلاد شمال شرق أوروبا من قبيل بولندا ودول البلطيق هي التي تبدي هذا الموقف، ومثلها أيضا أوروبيون شماليون من أمثال الفنلنديين والسويديين الذين عاشوا طويلا الإمبريالية الروسية. في المقابل؛ فإن بلادا في جنوب شرق أوروبا ـ من قبيل بلغاريا وصربيا ذات التاريخ المتعلق بالمسيحية الأورثوذكسية والحكم العثماني ـ تميل إلى مزيد من الليونة تجاه روسيا ودعم أقل لأوكرانيا. وفي هذا الصدد؛ فإن المشترك بينها وبين بلاد أوروبية جنوبية من قبيل اليونان أكبر مما بينها وبين إستونيا مثلا أو الدنمارك. ومرة أخرى أقول: إنه خليط أوروبي شامل.

وأرجو ألا تسيئوا فهمي؛ فميل التشيك يمينًا سبب حقيقي للقلق، وبخاصة بالنسبة لأوكرانيا. فبفضل مبادرة الرئيس بافل الجنرال السابق في الناتو مضى البلد في خطة رائعة لتنسيق المشتريات الأوروبية من الذخيرة لأوكرانيا من أي مكان في العالم توجد فيه. وفي العام الماضي أرسلت إلى كييف 1.5 مليون طلقة وترمي إلى إمدادها بـ 1.8 مليون بنهاية 2025. وهذا حتى الآن هو أكبر حصة من إمدادات الذخيرة الضرورية لأوكرانيا من أوروبا. والآن يقول بابيش: إن بلدا آخر ينبغي أن يتولى المهمة.

بصفة أعم؛ سوف تعزز الحكومة التشيكية الجديدة المحتملة التيار الوطني الشعبوي المناهض لليبرالية في أنحاء أوروبا، والقوى الموجودة في بروكسل وتعارض الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي، وميثاق الهجرة واللجوء، وتقريبا أي خطوات أخرى للتكامل. أما المسيطر على حزب «سائقي السيارات» فهو المشكك العتيد في الاتحاد الأوروبي فاكلاف كلاوس. وينتمي كل من حزب آنو و«سائقي السيارات» إلى مجموعة «وطنيون من أجل أوروبا» إلى جانب حزب الحرية النمساوي، وحزب فوكس الإسباني، وحزب فيدس بزعامة فيكتور أوربان، وحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان.

لذلك لا ينبغي أن نشغل أنفسنا كثيرا بالتعميمات الإقليمية؛ فلكل بلد أوروبي سمات خاصة به وسمات مشتركة قوية. والتحدي الحقيقي الآن هو كيفية تجاوز هذه الحالة الطبيعية الرجعية إلى حالة طبيعية جديدة من المؤكد أنها ستكون مختلفة عن حالة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. والرسالة التي نحملها في حقائبنا الفكرية ذات الصوت المنبعث من سحبها على الطرق الحجرية في مدينتي ماساريك وهافل المجيدتين هي أننا في جميع أنحاء أوروبا والعالم الغربي الديموقراطي بأكمله نواجه مشكلات مشتركة، وعلينا البحث عن حلول مشتركة.

تيموثي جارتون آش مؤرخ وكاتب عمود في صحيفة ذي جارديان.

الترجمة عن ذي جارديان