في مداخلته خلال الجلسة الاحتفائية التي نظمتها مؤسسة بيت الزبير مساء الأحد الماضي احتفاءً بالعُمانيين المشاركين في أسطول الصمود العالمي، استحضر الإعلامي محمد كريشان زيارته اليتيمة لغزة عام 1998 في أجواء مختلفة تمامًا، إذْ كان أهلها مستبشرين بعهد جديد يدشنه افتتاح مطار غزة، برعاية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ثم حضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي شارك في قص الشريط في المطار في 14 ديسمبر 1998. والحقيقة أن فلسطين كانت دائمًا في القلب من اهتمامات كريشان وانحيازاته، بدءًا من تسمّره لسماع أخبار حرب 67 في راديو أبيه، وهو في عمر الثامنة، ومرورًا بتعمّده إغاظة معلمة اللغة الفرنسية «مدام سوليي» عندما طلبت منه جملة مفيدة فأجابها: «الحرب بدأت لتحرير فلسطين»، وليس انتهاء بتقديمه برنامَجَي «غزة ماذا بعد؟» و«مسار الأحداث» اللذين كانت قناة «الجزيرة» تواكب بهما أحداث «طوفان الأقصى»، ولذا فإنه لم يكن مُستغرَبًا أن يخصص لفلسطين فصلًا كاملًا في كتابه: «وإليكم التفاصيل».
في هذا الكتاب يروي كريشان أنه حين كبر الفتى محمد ودخل الجامعة كانت كل بحوثه ومقالاته في الكلية عن القضية الفلسطينية، فأول ملفّ صحفي جمّعه من قصاصات الصحف والمجلات كان عن الصهيونية كحركة استيطانية عنصرية، وأول مقال له وهو لا يزال طالبًا في الجامعة نُشِرَ على صفحة كاملة من جريدة «الصباح» التونسية عام 1978 كان عن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، وكيف أن منحه جائزة نوبل للسلام في ذلك العام يعد جريمة لا تغتفر. والحقّ أن الظرف التاريخي خدمَ الإعلامي التونسي كثيرًا، فقد تزامن تفَتُّقُ وعيه السياسي، وبدايات دراسته للإعلام وعمله بالصحافة، مع أحداث سياسيّة كبرى سيكون لها ما بعدها في التاريخ العربي؛ بدءًا من زيارة السادات للقدس، ثم توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، وانتقال مقرّ جامعة الدول العربية إلى تونس، ومرورًا بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واستقرارها في الجمهورية التونسية، ما أتاح للصحفيّ الشاب في صحيفة «الرأي» أن يكون في قلب الأحداث، فكانت كل رحلاته إلى الخارج مرتبطة باجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية، وسافر غير مرة إلى الأردن والجزائر لتغطية اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني.
ما يُسجّل لكريشان في هذه المرحلة المبكرة من عمره المهني أنه تنبأ من خلال أحد مقالاته في جريدة «الرأي» بمجزرة «حمام الشطّ» التي ارتكبتْها إسرائيل في تونس عام 1985، وأدت إلى استشهاد خمسين فلسطينيًّا وثمانية عشر تونسيًّا، عدا عشرات الجرحى والخسائر المادية الجسيمة. فقد نشر على صدر الصفحة الأولى من الصحيفة مقالًا بعنوان: «إسرائيل تخطط لضرب القيادة الفلسطينية في تونس»، جمع فيه تصريحات مختلفة لمسؤولين إسرائيليين ومعلقي صحف تمهّد كلها للعُدوان الذي حدث بعد ذلك بأسبوع، وتحديدًا في الأول من أكتوبر 1985، ولم يكتفِ كريشان بهذا، بل وفّر أيضًا لصحيفته الأسبوعية المستقلة سبقًا صحفيًّا بتغطيته وزميل له تفاصيل هذا الحدث ونشرها في الصفحة الأولى من «الرأي» بعد ساعات فقط من حدوث المجزرة تحت عنوان: «طائرات إسرائيلية تهاجم تونس وتدمّر مقر القيادة الفلسطينية»، سابقًا بذلك وسائل الإعلام الرسمية من تلفزيون وإذاعة ووكالة أنباء، التي لم تكتفِ بالتأخر في تغطية الخبر، بل كانت تغطيتها باهتة وغير دقيقة.
على مدار عمله الصحفي والإذاعي والتلفزيوني كوّن محمد كريشان علاقات وروابط متينة بالمسؤولين الفلسطينيين، توّجها بعلاقة مميزة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي حاول كريشان إجراء حوار معه في تونس خلال فترة الثمانينيات دون نجاح كبير يذكر، إلى أن نجح في مطلع التسعينيات في محاورته بصفته مراسلًا لإذاعة «مونتي كارلو» الفرنسية آنذاك، قبل أن يسافر معه في الطائرة الخاصة المقلة له إلى واشنطن للتوقيع على اتفاق أوسلو في سبتمبر من عام 1993. كان عرفات ــ كما يصفه كريشان في كتابه ــ يبدي من الود والترحاب تجاه زائريه ما يجعل هذا الزائر يعتقد أنه أحد معارفه القديمة جدًّا، أو أن له من الودّ الخاص ما ليس لغيره. ويستذكر الإعلامي التونسي مقابلته مع أبو عمّار على الهواء في قناة «الجزيرة» في أحد أيام حصاره المرير في رام الله، الذي بدأ نهاية 2001 واستمر ثلاثة أعوام متواصلة حتى وفاته/ استشهاده عام 2004. في تلك المقابلة استفزّ كريشان عرفات بسؤال مفاده أن البعض يقول إن ما جرى في ذلك الوقت من خروج عناصر «الأمن الوقائي» من مقرهم في رام الله، ووضع أنفسهم تحت تصرف قوات الاحتلال الإسرائيلي، قد يشكّل مثالًا يمكن أن ينسج على منواله أبو عمار. هنا ردّ عرفات بالقول: «احنا كنّا بنحارب في المغارات. أنت نسيت يا محمد؟ آه يا محمد!». يعلق كريشان مازحًا على هذه العبارة: «خرجتُ وقتها من الاستديو وأنا أمازح زملائي في غرفة الأخبار، وأقول لهم: أتذكّر فعلًا تلك اللحظات العصيبة مع عرفات في المغارة، كنتُ أحاول جاهدًا شدّ أزره ورفع معنوياته بعد أن كان يرتعد خوفًا»، وإذا كان زملاؤه قد انفجروا ضحكًا، فإن كريشان نفسه سينفجر بالبكاء بعد فترة قصيرة حين يرى عرفات شاحبًا وهزيلًا يوزع قبلاته على من حوله قبل دخوله المروحية التي أقلّته من رام الله إلى عَمّان، ومنها إلى باريس، في آخر رحلة له في حياته. يقول كريشان: «بكيتُه بحرقة، كما لم أبكِ أي سياسيّ آخر، فقد ارتبط عندي بكل ما كان لي من تعاطف مع فلسطين».
هذا التعاطف لمسناه في تغطياته وبرامجه المختلفة على قناة الجزيرة، طوال مسيرته الإعلامية، وفي مقالاته الأسبوعية في صحيفة «القدس العربي»، ولذا لم يكن مفاجئًا تعبيره في أمسية بيت الزبير عن الغُصة التي يشعر بها الآن وهو يشاهد غزة وقد تحولت إلى ركام.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني