إن الاهتمام بالطفولة ودعم نمائها وتنمية قدراتها من الأولويات التي تحرص الدول على إيلائها أهمية كبرى؛ لما تمثله من قيمة تنموية لمستقبلها. فالأطفال هم أمل الدول في البناء والتطوير المستقبلي، وهم القوة التي بها تتحدى المجتمعات وتتصدى للأزمات والمحن. ولأن العالم اليوم يمر بالعديد من تلك الأزمات التي أصبحت تتفاقم بفعل المتغيرات التقنية والمناخية والاقتصادية إضافة إلى التوترات الجيوسياسية المختلفة؛ فإن هذا الاهتمام بالطفولة والنشء بدأ يتزايد ويأخذ أشكالا جديدة.
فقد شهد العالم تطورات في العناية بالطفولة من حيث الحقوق التي يحصلون عليها، وأهمية تحقيق أنماط الرفاهية التي يستحقونها، وكذلك الالتزام باتخاذ الإجراءات المختلفة لإعادة التفكير في أنظمة تقديم الخدمات وتعزيزها سواء في مجالات الصحة والتعليم والترفيه، وحماية مصالحهم الاجتماعية والمالية وغيرها إضافة إلى دعم أدوار الأسرة، وما تقدمه للأطفال من رعاية، وما تحتاجه لتحقيق مستوى الرفاهية، والحماية من المخاطر.
ولأن الطفولة تمثل تلك الأهمية الكبرى والقيمة التنموية في المجتمعات لبناء مستقبل الدول؛ فإن العناية بالأطفال ذوي الإعاقة ستكون من بين تلك الأولويات التي تقدمها الحكومات؛ حفاظا على حقوقهم ورعايتهم باعتبارهم جزءا أصيلا وأساسيا من طفولة المجتمع ومستقبله. فإذا كان الأطفال عموما يحتاجون إلى رعاية وحماية فإن الأطفال ذوي الإعاقة يحتاجون إلى المزيد من تلك الحماية بما يضمن لهم مستوى مناسبا من الخدمات التي تعين على نموهم بشكل صحي وسليم.
ولهذا فإن أفضل الممارسات التي نجدها في العالم تتركَّز على أنماط الحماية الاجتماعية التي يتلقاها الأطفال من ذوي الإعاقة، وتهيئة البيئات المناسبة لطبيعة الإعاقات وأنواعها بما يُسهم في تخطي التحديات التي تواجههم في أنماط الحياة اليومية إضافة إلى تلك الخدمات الصحية والاجتماعية التي توفِّر لهم ولأفراد عائلتهم إمكانات الحصول على الدعم والمساندة عند الحاجة، سواء على مستوى الدعم الفني والمهني، أو على مستوى توفير الخبراء والاستشاريين والمختصين في مجالات الرعاية.
إن العالم اليوم يُولي أهمية كبرى للأطفال ذوي الإعاقة من خلال ابتكار سبل جديدة ومستحدثة للخدمات الاجتماعية والصحية التي يمكن توفيرها، خاصة في ظل التطورات التقنية الكبيرة التي يمكن الاستفادة منها في ابتكار وسائل جديدة تخدم المعاقين عموما والأطفال ذوي الإعاقة بشكل خاص؛ ولهذا فإن الكثير من تلك الوسائل والخدمات أصبحت متطوِّرة، وقادرة على تلبية احتياجات كل فئة دون الحاجة إلى مساعدة بحيث يستطيع الفرد أو الطفل المعاق ممارسة حياته الطبيعية بكل يُسر.
ولأن الخدمات الاجتماعية كما تعرِّفها الأدبيات المختلفة هي تلك (الخدمات العامة والتدخلات والبرامج التي تمولها الدولة، والتي تشمل القطاع الحكومي والخاص والمدني)؛ فإنها بأنواعها وأشكالها المختلفة تهدف إلى تقديم المساعدة والدعم. ولهذا فإن تنظيم تلك المساعدات وتنسيق الجهود فيما بينها سيحقق أفضل النتائج بما يضمن حصول الأطفال على حقوقهم من الرعاية والحماية الخاصة التي يستحقونها كل بحسب احتياجه؛ فالتعاون والتنظيم يُحققان مبدأ التكافل والمشاركة.
ولعل من بين أهم ما يركِّز عليه العالم اليوم هو أهمية (الإدماج) الذي يُحقق مبادئ العدالة والمساواة والتكافل والمشاركة والتعاون سواء من حيث تقديم الخدمات، أو من حيث القدرة على التلقي والتعلُّم من الأقران الذي يُسهم مساهمة كبيرة في ممارسة الأطفال ذوي الإعاقة لحياتهم الطبيعية. فكلما استطعنا إدماجهم في مجالات التعليم والترفيه والحياة الاجتماعية بأشكالها المختلفة استطاع أطفالنا العيش في بيئة صحيِّة اجتماعيا، وأصبحوا قادرين على تخطي الكثير من التحديات.
إن الاهتمام بإدماج الأطفال ذوي الإعاقة في مراحل التعليم المدرسي المختلفة بشكل خاص له فوائد عدة من خلال ما يُقدَّم لهم من سبل للرعاية وإمكانات للتعلُّم؛ ولهذا فإن ما نراه من اهتمام متزايد في قطاع التعليم بإدماج الأطفال ذوي الإعاقة ممن تسمح إعاقتهم بذلك أوجد قاعدة مهمة من ذوي الإعاقة الذين انخرطوا في تخصصات التعليم العالي. والكثير منهم اليوم يشغل وظائف ويقود أعمال وابتكارات ضمَن له حياة كريمة، فكانت له فرص المشاركة في بناء وطنه.
ولعل اهتمام الدولة المتزايد بذوي الإعاقة عموما وبالأطفال منهم بشكل خاص أسهم في تطوير مجالات هذا الاهتمام سواء من خلال ما وجدناه في المنظومة القانونية كما هو الحال في قانون الصحة العامة ولوائحه الذي كان الأطفال ذوو الإعاقة من بين أولوياته، وكذلك قانون الحماية الاجتماعية وسياساته بما توليه من رعاية خاصة بهم إضافة إلى قانون التعليم واستراتيجياته وسياساته التي تقدِّم العناية والدعم اللازمين وغيرها من القوانين إضافة إلى الاتفاقيات والبرتوكولات الدولية. فهذا الاهتمام المتزايد الذي توفِّره الدولة خاصة على مستوى القوانين والسياسات يوفِّر الرعاية والدعم الذي يضمن توفير الخدمات والاحتياجات، ويضمن حصولهم على حقوقهم التي نصت عليها القوانين.
إن الأطفال ذوي الإعاقة يحتاجون بعد ذلك إلى المزيد من الاهتمام على المستوى الاجتماعي والرعاية التي تزيل الحواجز بينهم وبين مجتمعهم. ولعل أنظمة الإدماج في التعليم ساعدت كثيرا في تحقيق العديد من مستويات العدالة والدعم، لكنها قد لا تكون كافية في ظل تنوُّع هذه الإعاقات، وعدم كفاية الخدمات المنزلية التي يمكن أن تقدمها الأسرة أو المجتمع؛ ولهذا فإن وجود دراسات ميدانية وإجرائية ترصد التحديات التي يواجهها الأطفال ذوي الإعاقة سيسهم في إيجاد سبل جديدة لتخطيها ومعالجتها بما يضمن تحقيق أفضل مستويات الرفاه.
ولقد دفع ذلك وزارة التنمية الاجتماعية إلى تنفيذ الكثير من البرامج والمبادرات التي تضمن الوصول إلى الأطفال ذوي الإعاقة، ومساعدتهم، ومساندة الأسر، وتدريبهم على التعامل مع حالات الإعاقة المختلفة ومستوياتها، كما هو الحال في (برنامج بروتوكول التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم) الذي يهدف إلى تدريب الكوادر الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتمكينهم بالمهارات المطلوبة لتقديم الخدمات التي تراعي حالات الأشخاص ذوي الإعاقة عموما والأطفال منهم بشكل خاص، وفتح فرص إدماجهم في المجتمع، وتوعية أفراد الأسر بأنماط التعامل السليم مع المعاقين الأمر الذي سيكون له الأثر الكبير إذا ما تم تنفيذه على مستقبل هؤلاء الأطفال.
ولعل تنظيم مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الثانية يوم الثلاثاء (14) أكتوبر الحالي الذي تنظمه (جمعية الأطفال أولا) بعنوان (آفاق التأهيل لذوي الإعاقة في عصر التقنيات الناشئة) واحد من تلك الآفاق التي تدعم الأطفال ذوي الإعاقة في عُمان، وتفتح سبل المناقشات والحوار مع المختصين في المؤسسات المختلفة إضافة إلى أهميته في ترسيخ مفاهيم ذلك الاهتمام المتزايد بهم في ظل المتغيرات التي يمكن أن تشكِّل أفقا جديدا في العناية والتأهيل إذا ما تم الاستفادة منها في قطاع الإبداع والابتكار للخدمات المقدمة لذوي الإعاقة.
كما أن المعرض المصاحب لهذا المؤتمر سيكون فرصة لإبراز تلك الجهود التي تقوم بها المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية؛ لتعرِّف أفراد المجتمع والزوار بتلك الخدمات التي توفِّرها، وتلك الإمكانات التي يمكن يحصل عليها المعاق. كما تفتح للمجتمع مؤسسات وأفراد سبل التعاون والتشارك في الآراء والأفكار والمقترحات التي تدعم حماية حقوق الأطفال ذوي الإعاقة، وتعزِّز من مجالات إدماجهم وبالتالي توفرِّ لهم فرصا أفضل لتحقيق الرفاه الاجتماعي؛ فالتعاون والتكافل المجتمعي هو الأساس في تحقيق مستويات المواطنة الإيجابية القائمة على تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة