حوار آدم ثيلويل
ترجمة - أحمد شافعي
ولد لاسلو كراسناهوركي في جيولا، وهي بلدة ريفية مجرية، سنة 1954 أي في الحقبة السوفييتية. نشر روايته الأولى «تانجو الخراب» سنة 1985، ثم «كآبة المقاومة» (1989) و«الحرب والحرب» (1999) و«عودة البارون وينكهايم إلى الوطن» (2016)، وهذه الروايات بغزارتها اللغوية الهائلة، وسعة اطلاعها العالمية (فالكاتب ملم بكلاسيكيات الفلسفة البوذية كما بالتراث الفكري الأوروبي)، وشخصياتها المهووسة، وآفاقها الغارقة في المطر، قد تعطي الانطباع بصلابة غطرسة الحداثة المتأخرة، لكنها أيضا متقنة وبليغة وذات طرافة رهيفة. كما أن لجاذبية الكاتب رونقا يأتي من تصادم النبرات الواضح في أعمال أخرى له عدا الروايات، منها قصص قصيرة من قبيل «الحيوان الداخلي» (2010) ونصوص واسعة النطاق الجغرافي من قبيل «دمار وحزن تحت السماء» (2004) و«سايبو في الأسفل» (2008).
وبرغم أنه لا يزال لكراسناهوركي بيت في المجر، فإنه يعيش أساسا في برلين. وحينما حاولت الوصول إلى برلين من لندن لإجراء هذا الحوار، في شتاء عام 2016، أُلغيت رحلتي الجوية بسبب الضباب. وبعد سويعات قليلة، وفيما كانت طائرتي على المدرج، قيل لنا إن صعوبات تقنية سوف تؤخر إقلاعنا. ولما وصلت أخيرا إلى برلين وعثرت على سيارة أجرة ـ قادها سائقها بسرعة فائقة مثيرة للقلق لأنه كما قال لي يريد الوصول إلى حمام ـ وجدت كراسناهوركي أمام مدخل محطة مترو الأنفاق في ميدان هيرمان، بعد اثنتي عشرة ساعة من مغادرتي لندن، وهو وقت كان يكفي لأن أقابله في بكين. خطر لي أن هذه المهزلة الجوية المعاصرة المطولة تنطوي على كوميديا مقلوبة. ثم أعدت النظر: فن كراسناهوركي دائم الترحيب بالعبث، وبالأساليب التي يحول بها العالم نفسه إلى خصم عنيد.
يتكلم كراسناهوركي الإنجليزية بلكنة وسط أوروبا الجذابة مخلوطة بين الحين والآخر بلكنة أمريكية من جراء إقامته في التسعينيات بشقة «الشاعر الأمريكي الشهير وزعيم جيل البيت» آلن جينسبرج في نيويورك. كراسناهوركي رجل ضخم البنيان، رقيق الطبع، كثير الضحك أو الابتسام، مليء بحنان أصيل. أعارني سترة حينما بدا أني أشعر بالبرد، واشترى لي هديةً مجموعة شعرية لدورس جرونباين بعنوان «قصة حقيقية»، وأوصاني بتسجيلات جورجي كورتاج. يبدو كراسناهوركي، بشعره المسترسل، وعينيه الحزينتين، أشبه بقديس سمح. وهو أيضا شديد الحرص على الخصوصية، فلم يرغب قط في إجراء المقابلة في شقته، فكانت جلساتنا المطولة في أماكن عامة قريبة منها، في مقاه كثيرة ومطاعم حول حي كروتسبرج.
لنتكلم عن بداياتك كاتبا.
كنت أعتقد أن الحياة الواقعية، الحياة الحقيقية موجودة في مكان آخر. إلى جانب رواية «القلعة» لفرانز كافكا، ظلت رواية «تحت البركان» لمالكوم لاوري بمقام الإنجيل عندي. كان ذلك في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. لم أكن أرغب في دور الكاتب. كنت أريد أن أؤلف كتابا واحدا فقط، لأفعل بعد ذلك أشياء مختلفة، الموسيقى بصفة خاصة. أردت أن أعيش مع أفقر الناس، وكنت أظن أن هذه هي الحياة الحقيقية. عشت في قرى فقيرة وعملت طوال الوقت في وظائف شديدة الرداءة. وكنت أغير موقعي كثيرا، كل ثلاثة أشهر أو أربعة، هربا من الخدمة العسكرية الإلزامية.
ثم إنني فور أن بدأت نشر بعض النصوص القصيرة، تلقيت دعوة من الشرطة. ولعلي كنت على قدر من السفاهة أكبر قليلا مما ينبغي، فقد كنت إثر كل سؤال أقول «من فضلك، أنا لا أتعامل مع الشرطة». فيقال لي «لكننا نعرف أمورا عنك». «لا، أنا لا أكتب في السياسة المعاصرة». «لا نصدقك». وبعد قليل غضبت وقلت «هل تتخيل حقا أن أكتب شيئا عن شخص مثلك أنت؟». فأغضبهم ذلك بطبيعة الحال، وأراد شخص من ضباط الشرطة، أو ربما كان من الشرطة السرية، أن يصادر جواز سفري. وكان في الحقبة الشيوعية جوازا سفر مختلفان، أحمر وأزرق، ولم يكن لديّ إلا الأحمر، ولم يكن هذا بذي شأن، فلم يكن يمكِّن إلا من السفر إلى البلاد الاشتراكية، بينما كان الأزرق يعني الحرية. فقلت، أتريد فعلا الأحمر؟ ومع ذلك أخذوه، ولم يبق لدي جواز سفر حتى عام 1987.
تلك كانت القصة الأولى في حياتي كاتبا، وكان يمكن بسهولة أن تكون الأخيرة. وفي الفترة الأخيرة، عثرت في وثائق الشرطة السرية على ملحوظات لمناقشاتهم حول المخبرين والجواسيس المحتملين. كتبوا أن لديهم فرصة مع أخي، أما مع لاسلو كراسناهوركي فسيكون الأمر محالا تماما لأنه شديد العداء للشيوعية. يبدو هذا طريفا الآن، أما في وقته فلم يكن شديد الطرافة. ولكنني لم أقم بأي استعراضات سياسية. فقط عشت في قرى وبلدات صغيرة وكتبت روايتي الأولى.
كيف نشرتها؟
كان هذا في عام 1985. ولا أحد يفهم، حتى أنا، كيف تسنى نشر «تانجو الخراب»، فهي رواية لا يمكن أن تعد غير إشكالية للنظام الشيوعي. في ذلك الوقت، كان مدير إحدى دور نشر الأدب المعاصر رئيسا سابقا للشرطة السرية، ولعله أراد أن يثبت أنه لا يزال ذا سلطة، وقوة وأن لديه من الشجاعة ما يجعله ينشر هذه الرواية. أخمن أن هذا هو السبب الوحيد لنشر الكتاب.
أي الوظائف كنت تشغل آنذاك؟
كنت عاملا في منجم لبعض الوقت. وكان ذلك أقرب إلى الكوميديا، إذ دأب عمال المنجم الحقيقيين على تغطيتي. ثم أصبحت مديرا في بعض بيوث الثقافة في القرى البعيدة عن بودابست. وكان لكل قرية بيت ثقافة يمكن أن يقرأ الناس فيه الكلاسيكيات. وكانت هذه المكتبة هي كل ما في حياتهم اليومية. وفي أيام الجمعة والسبت من كل أسبوع كان مدير بيت الثقافة ينظم حفلة موسيقية، أو شيئا من ذلك القبيل، وهو ما كان جيدا جدا للشباب. كنت مديرا في ست قرى صغيرة للغاية، فكنت دائم التنقل بينها. كانت وظيفة رائعة، أحببتها لأنها أبعدتني عن عائلتي البرجوازية.
وماذا أيضا؟ كنت حارسا ليليا لثلاثمائة بقرة. وتلك كانت وظيفتي المفضلة، حظيرة في العراء. ما من قرية، أو مدينة، أو بلدة، على مقربة. كنت حارسا لأشهر قليلة. حياة فقيرة، مع رواية «تحت البركان» في جيب، ودوستويفسكي في الجيب الآخر.
وبالطبع في هذا التجوال بدأت أشرب. وفي التراث الأدبي المجري أن العباقرة سكّيرون. وكنت سكيرا جنونيا أيضا. ثم جاءت لحظة كنت جالسا فيها مع مجموعة من الكتاب المجريين المتفقين للأسف على حتمية أن يكون أي عبقري مجري سكيرا جنونيا. رفضت القبول بهذا وراهنت ـ على اثنتي عشرة زجاجة شمبانيا ـ أنني لن أشرب مرة أخرى أبدا.
ولم تشرب؟
ولم أشرب. في ذلك الوقت كان من كتَّاب النثر المعاصرين كاتب وسكير معين، هو بيتر هاينوتشي. كان أسطورة حية، ومدمنا تماما على الكحول، شأن مالكوم لاوري. كانت وفاته أكبر حدث في الأدب المجري. فقد كان صغيرا للغاية، ربما في الأربعين. وتلك كانت الحياة التي عشتها. لم يكن يقلقني أي شيء، كانت حياة مليئة بالمغامرة، في تنقل دائم بين مدينتين، في محطات قطارات وحانات بالليل، أراقب الناس، وأجري حوارات بسيطة معهم. وببطء، بدأت أؤلف كتابي في رأسي.
طاب لي العمل على ذلك النحو إذ كان لدي شعور قوي بأن الأدب مجال روحاني، وفي أماكن أخرى، في العصر نفسه كان هاينوتشي، ويانوس بيلينسكي، وساندور ويوريس، والعديد من الشعراء الرائعين الآخرين يعيشون ويعملون. كان الأدب النثري أقل قوة. كنا نحب الشعر أكثر كثيرا لأنه كان أكثر إثارة للاهتمام، وأشد سرية. بينما النثر أقرب قليلا إلى الواقع. وكانت فكرة العبقرية في النثر تتمثل في من يظل شديد القرب من الحياة الحقيقية. ولذلك دأب كتاب النثر المجريون من أمثال زيجموند موريتش على كتابة الجملة القصيرة. ولا ينطبق هذا على كرودي، الكاتب الوحيد الذي أحبه في تاريخ الأدب النثري المجري. جيولا كرودي. كاتب رائع. غير قابل قطعا للترجمة. كان في المجر بمنزلة دون جيوفاني، فطوله متران، وهو رجل ضخم، ظاهرة. وكانت له غواية ما لأحد أن يقاومها.
وجملة؟
كان يستعمل الجمل استعمالا يختلف عن أي كاتب نثر آخر، ويبدو دائما على قدر من السكر، والحزن العظيم، بلا أي أوهام بشأن الحياة، وشديد القوة لكنها قوة عديمة النفع تماما. ومع ذلك، لم يكن كرودي قدوة لي في الأدب. كان بالنسبة لي إنسانا، أسطورة، أمدني ببعض القوة حينما قررت أن أكتب. وكان يانوس بيلينسكي أسطورتي الأخرى. كان بيلينسكي في الأدب أهم كثيرا بالنسبة لي بسبب لغته وطريقته في الكلام. سأحاول أن أقلده لك:
عزيزي آدم- علينا ألا- لحظة - بالنسبة لنهاية العالم - نحن نعيش ـ الآن ـ في نهاية العالم. - يا عزيزي - آدم ـ من فضلك لا تذهب إلى أي مكان ـ أي مكان.
كان عالي النبرة للغاية، بطيئا، بكل هذه السكتات بين الكلمات. والحروف الأخيرة من كل كلمة ينطقها دائما غاية في الوضوح. كأنه قس في مقبرة، بلا أمل، وبقدر هائل من الأمل في الوقت نفسه. لكنه كان شديد الاختلاف عن جيولا كرودي. بيلينسكي كان مثل الخروف. ليس إنسانا وإنما خروف.
هل كان متاحا الكثير من الترجمات؟ مر علينا وقت في السبعينيات كان لدينا فيه الكثير من الأدب الغربي. وليم فوكنر، فرانز كافكا، ريلكه، آرثر ميلر، جوزيف هيلر، مارسيل بروست، صمويل بيكيت كل أسبوع تقريبا كنا نتلقى رائعة جديدة. كان أعظم الشعراء والكتاب لا يستطيعون نشر أعمالهم في ظل النظام الشيوعي فتحولوا إلى مترجمين. لذلك كانت لدينا ترجمات رائعة لشكسبير ودانتي وهوميروس وكل كاتب أمريكي عظيم، من فوكنر ومن بعده. كانت الترجمة الأولى لرواية «قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن رائعة بحق.
ودوستويفسكي؟
نعم، لعب دوستيفسكي دورا مهما بالنسبة لي، بسبب أبطاله، لا بسبب أسلوبه أو قصصه. هل تتذكر راوي «الليالي البيضاء»؟ في الشخصية الرئيسية بعض الشبه بميشكين في «الأبله»، هي تمهيد لميشكين. كنت مفتونا بذلك الراوي ثم بميشكين بعده، بقلة حيلتهما. شخصية ملائكية عديمة الحيلة. في كل رواية كتبتها يمكنك العثور على شخص كهذا، مثل إستيك في «تانجو الخراب» أو فالوسكا في «كآبة المقاومة»، الشخصيتين اللتين جرحهما العالم، وأحب فيهما أنهما يؤمنان بكون فيه كل شيء رائع، حتى الوجود البشري، وأحترم كثيرا كونهما مؤمنين. ولكن طريقة تفكيرهما في الكون، والدنيا، والإيمان بالبراءة، طريقة غير ملائمة لي.
بالنسبة لي، نحن أكثر انتماء إلى عالم الحيوانات. نحن حيوانات، محض حيوانات انتصرت. غير أننا نعيش في عالم مؤنسن للغاية، نعتقد أننا نعيش في عالم إنساني فيه جزء للحيوانات وآخر للنباتات وآخر للحجارة. وهذه ليست الحقيقة.
ـ تعني إذن أن فلسفتك الخاصة هي المادية المحضة؟
ـ أوه، لا، ميشكين أيضا حقيقي للغاية. أعتذر.
ـ زدني في هذا
ـ فرانز كافكا إنسان، هو فرانز كافكا، بقصة حياته، بكتبه. أما «ك» فموجود في فضاء سماوي في الكون، ولعل بعض شخصيات رواياتي تعيش هناك أيضا. إريمياس مثلا والطبيب في تانجو الخراب أو السيد إيستر وفالوسكا في «كآبة المقاومة» أو «البارون» في روايتي الجديدة. هؤلاء يعيشون، تماما. موجودون في مكان أبدي.
هل يمكنك النزاع في أن ميشكين خيالي وحسب؟
بالطبع. لكن هذه ليست الحقيقة. لعل ميشكين دخل الواقع من خلال شخص آخر، عبر دوستويفسكي، لكن الآن، بالنسبة لنا، هو شخص حقيقي. كل شخصية في ما يعرف بالأدب الخالد جاءت عبر أشخاص عاديين. هذه عملية سرية، لكنني واثق تمام الثقة من أنها حقيقية. على سبيل المثال، بعد سنوات قليلة من كتابتي «تانجو الخراب»، كنت في حانة، ونقر أحدهم على كتفي. كان ذلك هو هاليكس من «تانجو الخراب». بصدق. أنا لا أمزح. لذلك أصبحت أشد حرصا في ما أكتب. فمثلا، النص الأصلي لـ«الحرب والحرب» كان شديد الاختلاف عن النسخة التي نشرتها. كانت الصفحات المائة الأولى تتناول في الأصل تدمير كورين لنفسه، لكنني خشيت أن أقابله بعد ذلك وهو في تلك الحالة فلا أكون قادرا على مساعدته. خشيت من إمكانية أنه قد لا يغادر بلدته الصغيرة. فرأيت أن أخرجه منها، برغبته في الذهاب مرة واحدة فقط، في نهاية حياته، إلى مركز العالم. لم أكن قد قررت بعد أن يكون ذلك المركز هو نيويورك، ولكنني بتلك الطريقة حررت نفسي من قصة أن يعيش إلى الأبد في ذلك المكان الريفي.
أفكر في كلامك عن حياة البشر في عالم مؤنسن. يخطر لي أحيانا أن الروايات عالم مؤنسن ومطمئن إلى ذلك. فأين الأخطبوط؟ أين الطحالب؟ مما أحبه في رواياتك أنها تحاول ألا تكون إنسانية. لكن ذلك يبدو وكأنه تناقض لفظي. فما الذي يمكن أن تكونه عدا ذلك؟
هذا مهم للغاية. إطار الرواية قد يكون مؤنسنا أكثر مما ينبغي. ولذلك تكون مشكلة الراوي هي المشكلة الأولى، وتبقى كذلك إلى الأبد. فكيف تلغي الراوي من رواية؟ في أحدث رواياتي، في كل صفحة، ثمة أشخاص يكلمون بعضهم البعض ولا أكثر، وهذه طريقة لتفادي وجود الراوي، لكن هذا محض تكنيك. لأنني أتفق معك في أن إطار الرواية والعالم مؤنسن. لكن لو أن لي أن أختار بين كون بلا إطار وإنسانية ذات إطار، فسأختار الإنسانية.
نحن لا نعرف مطلقا ماذا يكون الكون. وطالما أنبأنا الحكماء بأن هذه دليل على أننا لا ينبغي أن نفكر، لأن التفكير لا يفضي بنا إلى شيء. كل ما يفعله المرء هو أنه يؤسس على هذا البناء الهائل من سوء الفهم، أي الثقافة. تاريخ الثقافة هو تاريخ سوء فهم كبار المفكرين. لذلك علينا أن نرجع دائما إلى الصفر، لنبدأ على نحو مختلف. وقد تسنح بتلك الطريقة فرصة لا للفهم وإنما على الأقل لعدم امتلاك المزيد من سوء الفهم. لأن هذا هو الجانب الآخر للسؤال: هل لديَّ من الجرأة ما يجعلني ألغي كل الثقافة البشرية؟ أن أوقف الإعجاب بجمال النتاج البشري؟ يصعب فعلا قول لا.
ومع ذلك لا تزال تكتب الروايات
نعم، لكن لعلها غلطة. إنني أحترم ثقافتنا. أحترم التعبير الإنساني في كل قالب. لكن جذر هذه الثقافة زائف. وإذا لم نفعل شيا، فكل شيء يستمر على أي حال. ولعل هذا هو أهم شيء. لا بد لكل شيء أن يستمر دونما تفكير في جوهره، في ماهيته، وفي مثل تلك الأسئلة.
وكأن الكتابة، وكل أشكال الفن، ينبغي أن تكون شعائر بلا لاهوت؟
لعل بالإمكان أن نفكر في الكتابة باعتبارها شعيرة تؤدَّى، شيئا يتكرر، كلمة تلو كلمة، وجملة بعد جملة. لا بمعنى الطليعية الكلاسيكية في مستهل القرن العشرين، من قبيل الدادية مثلا التي مضت بفنانين عظماء إلى اللاشيء لأنهم أهملوا المضمون فكانت تلك غلطتهم، أولئك العباقرة البائسين. أما حينما تفكر في الكتابة باعتبارها شعيرة تؤديها، ولو أنك قادر على رؤية نفسك في الوقت نفسه، رؤية أنك على الأرض تكتب الكلمة بعد الكلمة...فيصير لديك كتاب. فتتوقف. وتغلق الكتاب. وتفتح غيره، فارغ الصفحات. وتكتب من جديد، وتكتب من جديد، وتكتب من جديد. كلمة بعد كلمة. جملة بعد جملة. وتغلق الكتاب. والتالي له... هذا شعائريّ. قد لا يكون هذا تصورك عن الكتابة، لكن لعله هو عين ما تفعله.
لكن هذه هي النقطة التي يجدر بنا عندها أن نتذكر قراءنا. لأن القراء في ما أرجو يحتاجون إلى كتاباتنا. وفي هذا المكان الصغير ـ الذي نؤلف فيه الكتب والروايات والقصائد ـ ثمة أيضا مكان لقرائنا. هذا التعاطف، هذا الإحساس شديد الأهمية، العثور على جوهر مشترك بين الكتاب الذين ينشئون القالب والقراء الذين يحتاجون إلى ما نفعله. يضفي هذا بعض المعنى على هذا الفضاء الصغير، الذي نراه من مستوى أعلى هراءً محضا. فلعل الكون مليء بالفضاءات الصغيرة، ولكل زمنه وجوهره وشخصياته وإبداعه وأحداثه وما إلى ذلك. أفكار مختلفة عن الزمن في فضاءات مختلفة. تماما كما أننا هنا، داخل فضائنا البشري الصغير.
كيف وصلت إلى أسلوبك ـ هذه الجمل الشاسعة الضخمة؟
لم يكن العثور على أسلوب صعبا قط عليّ لأنني لم أبحث عنه قط. لقد عشت العزلة. كان لي دائما أصدقاء، صديق واحد في الفترة الواحدة. ومع كل صديق، كانت العلاقة تقوم على أن نتكلم عبر مونولوجات فقط. ففي يوم ما، أو ليلة ما، أتكلم أنا. وفي اليوم التالي أو الليلة التالية، يتكلم هو. أما الحوار فيختلف، لأننا نريد أن نقول شيئا شديد الأهمية لشخص آخر، ولو أنك تريد أن تقول شيئا شديد الأهمية، ولو أنك تريد إقناع شريكك بأن هذا شديد الأهمية، فأنت لا تحتاج إلى نقاط في نهايات الجمل، بل إلى توقفات وإيقاع، إيقاع ونبرة ونغمة. وهذا ليس خيارا واعيا، فهذا النوع من الإيقاع والنغم وبناء الجملة جاء من رغبة في إقناع شخص آخر.
لم يكن أدبيا مطلقا؟ أو متصلا بأساليب أخرى، مثل أسلوب بروست أو بيكيت؟
ربما حدث وأنا مراهق، ولكن ذلك كان تقليدا لحياتيهما، وليس للغتيهما، أو أسلوبيهما. عندي علاقة خاصة بكافكا، لأنني بدأت قراءته مبكرا جدا، مبكرا لدرجة أنني لم أكن أفهم عن أي شيء تدور «القلعة» مثلا. كنت صغيرا للغاية. وكان لي أخ يكبرني، وأردت أن أكون مثله، فكنت أسرق كتبه وأقرؤها. لذلك كان كافكا كاتبي الأول، الذي لم أستطع أن أفهمه، لكنه أيضا الكاتب الذي تساءلت عنه إنسانا. من الكتب المفضلة لدي وأنا في الثانية عشرة من العمر أو الثالثة عشرة كتاب «أحاديث مع كافكا» لجوستاف جانوش. بهذا الكتاب كانت لي قناة خاصة إلى كافكا.
ولعلي لهذا درست القانون، لأكون مثل كافكا. فوجئ أبي بعض الشيء. كان يريد أن ألتحق بمدرسة القانون لكنه كان على يقين من أنني سأرفض لأنني لم أكن مهتما إلا بالفن، بالأدب والموسيقى واللوحات والفلسفة وكل ما عدا القانون. لكنني وافقت، وذلك جزئيا، في ما أعتقد، لأنني كنت أريد أن أدرس علم نفس الجريمة. في ذلك الوقت، في مطلع السبعينيات، كان علما ممنوعا في المجر. فقد كان غربيا ومن ثم مشبوها. لكن السبب الأساسي في ظني هو كافكا. بالطبع، بعد ثلاثة أسابع لم أستطع احتمال المناخ، فرحلت، لا عن كلية الحقوق فقط وإنما عن المدينة كلها.
أي مدينة تلك؟
مدينة سيجيد. بسبب نظام الخدمة العسكرية لم يكن الرحيل سهلا. فلو رحلت، يكون لزاما عليّ الرجوع لأداء الخدمة العسكرية. والطبيعي أن الخدمة العسكرية كانت سنتين، وإذا تخرجت تكون عاما واحدا فقط. أما إذا تركت الجامعة مبكرا يكون عليك أن ترجع لأداء السنة الثانية. لذلك طلبت تأجيل الدراسة وعشت لفترة في بودابست أدرس الدين وفقه اللغة. وواصلت دراساتي لليونانية واللاتينية، لكن الامتحانات كانت صعبة لأنني لم أكن ملتحقا فعليا بالجامعة. وأخيرا، بعد سنتين، أنجبت. وإنجاب الأطفال حل تلك المشكلة، لأن من ينجب أطفالا يكون قد تخلص من هذا الالتزام الرهيب.
كانت الخدمة العسكرية بالنسبة لي أقرب إلى الموت. فعلى مدار السنة كلها لم أحصل على تصريح بمغادرة المعسكر. لم أكن بطلا أو داعية سلام، ولكن من يجد نفسه في برج مراقبة، وعليه أن يبقى فيه بالسلاح دون أن يفعل أي شيء. وفي بعض الأحيان يأتي ضابط لمراقبتي، فإن وجدني أقرأ كافكا، ولم أكن أملك التوقف، لأن كافكا كان أشد إثارة للانتباه من أي ضابط أبله، فكنت أتعرض دائما للعقاب في سجن المعسكر. ولم يكن ذلك شديد البشاعة، لكنه كان يعني دائما ألا أحصل على تصريح بمغادرة المعسكر. وذلك كان الأمر الرهيب، أن أظل هناك على الدوام.
كانت بداية خدمتي العسكرية هي الأشد صعوبة. حينما ركبت قطار الليل، مع بقية الجنود المستجدين، وأنا محطم تماما. لم أستطع الحديث مع أحد. الجميع كانوا يريدون المزاح، في ما عداي أنا.
اكتشفت شخصا آخر، شابا، كان من ولايتي نفسها، فتكلمنا قليلا. واتفقنا أن يزور أحدنا الآخر إذا ما سنحت الفرصة. وبعد قرابة أسبوع، حينما توفر لي قليل من وقت الفراغ، ذهبت إلى المبنى الذي يعمل فيه وسألت أين أعثر على الشخص الفلاني؟ فقال لي أحدهم، بالطابق الثالث. وفي الطابق الثالث، سألت مجددا أين أعثر على هذا الشخص؟ وقال لي أحدهم إنه في مخزن الذخيرة معاقبا. كان ينظف البنادق، وفيما أفتح الباب، أطلق رصاصة في فمه. في اللحظة نفسها. فتحت الباب وأطلق صديقي الرصاصة على نفسه. كنت طفلا. كنا أطفالا. كنا في الثامنة عشرة لا أكثر.
قل لي، عن أي شيء كان سؤالك؟
المصدر: مجلة ذي باريس رفيو الأمريكية، عدد 225 ـ صيف 2018ـ الحوار رقم 240 في سلسلة حوارات (فن القص)