لا أظنني سأكون مبالِغًا إذا قلتُ إن أمامة اللواتية كانت حديث كل بيت عُماني في اليومين الماضيين، بين قَلِق عليها بعد تواتُر أنباء اختطافها وزملائها من قبل بحرية الاحتلال، وفخرٍ بأن سفينتها تمكنت قبل هذا الاختطاف من دخول مياه غزة، لتمثّل كل العُمانيين الذين تمنوا هذه اللحظة. وعندما أقول كل بيت، فلا أعني المواطنين فقط، بل الحكومة أيضا، التي أعلنت عبر وزارة الخارجية بأنها «تتابع باهتمام بالغ أوضاع المواطنين العُمانيين المشاركين في أسطول الصمود العالمي»، وأنها حريصة على سلامتهم تمهيدًا لعودتهم إلى أرض الوطن سالمين. وقد أثلج صدورنا انضمام سلطنة عُمان إلى قائمة الدول التي نددت بقرصنة إسرائيل، وأفرحتنا دعوتُها «إلى ضمان سلامة جميع المشاركين في الأسطول وعدم تعريضهم لأي مخاطر»، وحثُّها المجتمع الدولي على «تحمّل مسؤولياته القانونية والإنسانية، والضغط على قوات الاحتلال لوقف انتهاكاتها المتكررة، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون عوائق». 

صحيح أن ما حدث كان متوقعًا حتى قبل أن يتحرك أسطول الصمود العالمي الذي ناهز عدد أفراده الخمسمائة من أكثر من أربعين دولة. نعم، كان متوقعًا الاعتداء عليه ومنعه من إكمال طريقه إلى غزة، إلا أنه مع ذلك يمكننا القول إن مجهود أمامة ورفاقها لم يذهب سدى. فلم يكن إيصال المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبية إلى أهلنا في غزة هو الهدف الوحيد، على أهميته، بل إن الهدف الأهم - الذي نجح فيه الأسطول بامتياز مع مرتبة الشرف - كان تسليط الضوء على هذا الحصار الجائر المفروض على غزّة منذ سنين طويلة، ومواصلة محاولات كسره التي بدأت منذ إبحار سفينة «مافي مرمرة» التركية إلى غزة عام 2010، والتي استشهد عشرة من المشاركين فيها بعد أن أطلقت البحرية الإسرائيلية النار عليهم بدم بارد، وفضح سياسة الاحتلال القائمة على القرصنة والاعتداء على سفن مدنية في أعالي البحار في مخالفة سافرة لكل القوانين الدولية. 

الصدى الواسع الذي أحدثه الأسطول في العواصم العالمية والمؤسسات والمنظمات الحقوقية يشهد بأن المهمة نجحت. بل إن نجاحها فاق التوقعات. إذْ لم أتوقع شخصيًّا أن تُفرَض إجراءات عقابية حقيقية ضد إسرائيل، لكن كولومبيا فعلتْها فأنهت اتفاقية التجارة الحرة مع الكيان المحتل، وطردت ما تبقى من دبلوماسيين إسرائيليين في بوجوتا، وقبلها بأيام فرضت إسبانيا بقانون بيع السلاح لإسرائيل أو شرائه منها، وتابعنا شخصيات برلمانية وحكومية في إيرلندا واليونان وفرنسا وهي تُعلي الصوت بالاحتجاج، وتطالب بالضغط على إسرائيل لإطلاق سراح المحتجزين، كما تابعنا المظاهرات الضخمة في إيطاليا، والإضرابات التي نفذتها اتحادات عمالية رفضًا لاحتجاز أعضاء الأسطول، ودعوة نقابات النقل البحري والجوي إلى مقاطعة التعامل مع شحنات السلاح إلى إسرائيل، وإدانة منظمة «مراسلون بلا حدود» اعتقال أكثر من عشرين صحافيًا كانوا يؤدون عملهم في الأسطول، معتبرة ذلك انتهاكًا خطيرًا لحرية الإعلام، وإدانة اتحاد عمال النقل الدولي اعتراض السفن المدنية السلمية في أعالي البحار، وتأكيده أن ما جرى خرق واضح للقانون الدولي. 

هذه الشجاعة من أسطول الصمود مَثَّلها خير تمثيل البرازيلي «تياجو أفيلا» عضو اللجنة التوجيهية للأسطول، عندما اقتربت السفن الأولى في الأسطول من مياه غزة، فأرسلت البحرية الإسرائيلية تحذيرًا مليئًا بالصلف والغطرسة: «إذا حاولتم اختراق الحصار البحري فسنوقف سفينتكم ونتصرف لمصادرتها»، هنا رد «أفيلا» الذي سبق أن شارك قبل ثلاثة أشهر فقط في سفينة «مادلين» وتعرض مع زملائه للخطف والزج به في سجن «أيالون» الإسرائيلي قبل أن يُفرَج عنه ويُرحّل إلى البرازيل، رد بمرافعة سياسية وقانونية تستحق التدريس في المناهج التعليمية، إذ تنضح بالشموخ والعزة والإباء من جهة، وبفهم عميق للقضية الفلسطينية ومقتضيات القانون الدولي من جهة أخرى: «نفيدكم بأننا مهمة تضامن إنساني سلمي لكسر الحصار غير القانوني المفروض من قبل إسرائيل منذ ثمانية عشر عاما على الشعب الفلسطيني في غزة، ولإنشاء ممر إنساني». وطفق يشرح للضابطة الإسرائيلية التي أرسلت له التهديد (في الحقيقة هو يشرح للعالم، بما أن الموقف مصوّر بالفيديو) أن هذه السفن لا تحمل إلا مساعدات غذائية، ومرشحات مياه، وعكاكيز: «نحمل حليب أطفال للناس الذين تجوعونهم حتى الموت. أكرر أنتم ترتكبون إبادة جماعية منذ ثمانية عقود، وتطهيرًا عرقيًّا ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما يتعارض تماما مع القانون الدولي». وذكّر أفيلا الضابطة الإسرائيلية أن أعلى سلطة قضائية في العالم؛ وهي محكمة العدل الدولية، ذَكَرت بوضوح في أحكامها في القضية المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة جريمة الإبادة الجماعية أنه محظور على الكيان المحتل إعاقة أي مهمة إنسانية للوصول إلى غزة.

وإذن؛ فقد برهن فيلا وأمامة ورفاقهما في أسطول الصمود أن التضامن العالمي يمكن أن يتجدد بأشكال مبتكرة، وأنه يمكن بالاتحاد والتكاتف إحراج المعتدي ومن يسانده، وفتح آفاق سياسية وقانونية جديدة تتنفس منها رئة القضية الفلسطينية. بدا الأمر وكأن البحر الذي حاولت إسرائيل إغلاقه، أبى إلا أن يكون منفتحًا على العالم، وشاهدًا على أن الصمود لا يقف في وجهه شيء. 

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني