عندما نتساءل عن الحواجز الأكثر تأثيرًا على استدامة ونمو واستمرارية المواهب غالبًا في مجتمعاتنا بالتأكيد ستكون هناك إجابات متعددة منها ما يرتبط بأدوات ووسائل اكتشاف تلك المواهب، ومنها ما يرتبط بوجود التسهيلات والدعم المادي والتجهيزات اللوجستية التي تتيح لتلك المواهب ممارسة ذاتها، والتدرب والنمو ومضاعفة الخبرات. وبعض تلك الحواجز يرتبط بفكرة (الخطوة التالية) أي ما هي المكاسب المتحققة من تلك الموهبة في سياق تصميم النظام الاقتصادي والمهني، أو بفكرة أخرى (هل يمكن لذلك النظام الاقتصادي والمهني أن يجعل من الموهبة مساحة جيدة لتأمين الدخل، وتجويد مستوى الحياة؟). ولكن واحدًا من أهم الحواجز التي تقع في سياق هذه المسألة حاجز (التفضيلات والاختيارات الاجتماعية Social preferences and choices). لنفرض أن طالبًا موهوبًا في ممارسة رياضة ما، واستطاع عبر سنوات الدراسة الأولى إيجاد المساحة المعقولة لتنمية تلك الموهبة بالإضافة إلى الوقت والتركيز في الحد الأدنى المطلوب لتلك الممارسة. غالبًا عند التقدم إلى السنوات الأخيرة في التعليم هناك عملية إعادة تفكير كبرى في تلك المساحة والوقت والتركيز لصالح التحصيل العلمي؛ لأن التحصيل العلمي ضامنٌ لإيجاد مسار أكاديمي لاحق يمكن من التحصل على فرص وظيفية واضحة، وبالتالي تحقيق فكرة أمن الدخل وبناء الذات - هذا لا يلغي وجود استثناءات محدودة للتفكير خارج هذا السياق في المحيط الاجتماعي -؛ وبالتالي فإن تلك التفضيلات والاختيارات الاجتماعية ليس فقط في حالة الطالب الموهوب، ولكنها تمتد إلى حالات أخرى هي التي توجه بشكل أكبر من غيرها مسار نمو واستدامة تلك الموهبة.
لذلك تبدو عملية صنع السياسات العامة المرتبطة برعاية المواهب أحد أكثر السياسات العامة تعقيدًا؛ نظير عدة عوامل من أهمها أن إيجاد نظام متكامل لرعاية الموهبة يقتضي عملًا على التوفيق بين المسارات الدراسية ومسارات رعاية الموهبة داخل النظام التعليمي نفسه، وإيجاد آليات وطنية فاعلة ومنهجية لاكتشاف تلك المواهب إضافة إلى القدرة على تصميم مسارات أكاديمية لاحقة توفق بين المحتوى العلمي وبين الطبيعة الحرة للموهبة من ناحية، وبين ما يحتاجه الموهوب من معارف وقدرات وسمات محددة ينميها في ذاته ومسارات موهبته، وفي عامل لاحق ضرورة بناء نظام اقتصادي ومهني يتمحور حول الموهبة ورعايتها، ويوفر للموهوبين الأمان المادي والتنظيمي الذي يمكنهم من التركيز على الموهبة وتنميتها؛ فكيف يمكن أن نكيف السياسات والتنظيمات التي تسمح للرياضي بالانخراط والاستمرار في مواصلة ممارسة رياضته دون عوامل أخرى مشتتة أو ارتباطات أخرى مرهقة؟ وكيف نضمن لمنتجات الحرفي والفنان أن يتشكل لها بنية تجارية وسوق معتبرة تمكنه من تحقيق أمان الدخل؟ وكيف يؤخذ بيد الأديب لينخرط في صناعات أدبية لها نظامها المؤسسي، ولها سوقها الإبداعي المنظم والجاذب؟ وبالإضافة إلى كل تلك العوامل التي عرجنا عليها والتي تجعل من عملية صنع سياسات رعاية الموهبة عملية معقدة؛ فإن قدرة هذه السياسات على بناء وتطوير وترقية الثقافة الاجتماعية المرتبطة بالاعتراف وتقدير الموهبة عبر آليات حشد الوعي، وتمكين التأثير، وتغيير المفاهيم يشكل استحقاقًا آخر صعبًا أمام هذه السياسات.
في عديد دول العالم جُسّر بعض تلك التحديات بإنشاء نظم تعليمية متكاملة تضمن رعاية الموهبة وتنميتها عبر ما يُعرف بـ«مدارس الموهبة». بعض هذه المدارس تعمل بالتآزر والربط مع التعليم والمؤسسات الجامعية على غرار مدارس كلية هانتر في الولايات المتحدة، وبعضها على يعمل على تكوين نظام تعليمي مجزء ويدمج التعليم التقليدي بمسارات مبتكرة للمتعلمين للحصول على بعض الشهادات مثل برنامج (The Integrated Programme IP) في سنغافورة، وبعضها ركز على مراحل تعليمية معينة لتعزيز مسارات اكتشاف الموهبة ورعايتها فيها مثل مدارس Landesgymnasium für Hochbegabte في ألمانيا. المشترك في أغلب التجارب هو التركيز على دور آليات ومحكات بيئة التعليم المدرسي، والانطلاق منها في السياسات العامة الموجهة لرعاية وتنمية الموهبة. وفي سلطنة عُمان يمكن البدء بصورة جزئية في تجربة نمط جديد على مستوى الولايات؛ بحيث تقسم مدارس معينة في كل ولاية لمسارات رعاية مواهب معينة، فتكون على سبيل المثال هناك مدرسة تعنى برعاية ونمو المواهب الرياضية في لعبة معينة، ومدرسة أخرى تعنى برعاية ونمو المواهب في الفنون التشكيلة والمسرحية، ويتم تزويد هذه المدارس بالتركيز على مدارس المرحلة الأولى ببرامج متكاملة موازية للمسارات التعليمية التقليدية تعنى برعاية وتنمية وتطوير التجارب والإلهام في مجال الموهبة الذي تتخصص فيه المدرسة. كما يمكن التفكير في إيجاد مسار أكاديمي جديد لإعداد المعلمين لوظيفة اختصاصي رعاية موهبة؛ بحيث يكون الشخص المؤهل لهذه الوظيفة معنيًا بهذه البرامج وتطبيقها ومواءمتها مع رحلة التعلم بالنسبة للطلبة.
وهذا في المجمل قد يكون مبادرة جزئية، لكنها لا تعفي عن وجود نظام وطني متكامل لرعاية الموهبة؛ يأخذ الدورة المتكاملة للموهبة من الاكتشاف إلى التأسيس والتنمية وتوفير الإلهام والتجارب وصولًا إلى الانتاج والاستدامة. وهو ليس مسؤولية لمؤسسة بعينها، بل إن نجاحه يرتبط بمدى قدرة كافة الجهات – من زاوية اختصاصها – على خلق بيئة متكاملة لرعاية تلك المواهب سواء كان من ناحية التشريعات أو السياسات أو البنى المؤسسية والتجيهزات أو التدابير أو الحوافز الموجهة أو تهيئة البنى الثقافية، أو تصميم منظومة اقتصاد إبداعي يرعى الموهبة ويسهم في تشجيع إنتاجها واستدامتها. ففي الوقت الذي يشهد فيه العالم سباقًا محمومًا لتصميم سياسات وبرامج لاجتذاب المواهب وإدماجها في الدورة الاقتصادية الوطنية نعتقد إلى جانب أهمية ذلك أن تصميم نظم وطنية متكاملة لرعاية الموهبة جهدٌ يعبر عن الاستدامة ويرسخ لفكرة تعاقبها على الأجيال، والأهم بناء الثقافة الاجتماعية الداعمة لها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان