(1)
أعود بذاكرتي إلى سنوات ما قبل الدراسة الجامعية؛ كنت مفتونًا بجمال الغيطاني، وأتابع كل ما يكتب وينشر ليس فقط من القصص والروايات التي خلبت الألباب (فقد كان هذا مما هو معلوم بالبداهة والضرورة!) بل أيضًا متابعة كل ما كان ينشره في دائرة التعريف بالتراث العربي، وقد كان من كبار عاشقيه والمتعمقين في قراءة مصادره ومظانه، وكان كذلك مهتمًا بفتح الباب لأمثالي من الصغار الذين لم يكملوا الخامسة عشرة بعد من أعمارهم -آنذاك- ليعرفهم بمصادر هذا التراث وأهميته، وتعدده وتنوعه،
ولم يكتف الغيطاني بذلك بل دلَّهم أيضًا على ما يمكن أن يستعينوا به كمفاتيح تمكنهم من استيعاب هذا الكم المهول من الكتابات والمخطوطات والمجاميع الضخمة التي وصلتنا من الشعر والنثر والمعارف المختلفة وعلوم اللغة والأدب والبيطرة والطب والبيزرة... إلخ.
جمع الغيطاني حصيلة ما كتب في هذه الدائرة ونشرها في كتابٍ بديع اقتنيته في طبعته الفخمة الأنيقة عن دار الشروق في تسعينيات القرن الماضي، وكان عنوانه «منتهى الطلب في تراث العرب» جمع فيه فصولًا شائقة عن التوحيدي والنويري والأصفهاني والعاملي، وغيرهم من مؤلفي التراث العربي في مجالاته كافة..
لكن أثار فضولي وبشدة أنه خصص الفصلين الأخيرين من كتابه للإشارة والتنويه بموسوعتين عظيمتين أرختا للتراث العربي والثقافة العربية منذ القرن الأول الهجري وحتى مطالع العصر الحديث؛ والغريب والمدهش أن مؤلفي هاتين الموسوعتين لم يكونا عربيين بحال!
الأولى؛ موسوعة «تاريخ الأدب العربي» للألماني كارل بروكلمان التي صدرت ترجمتها الأولى في ست أجزاء عن دار المعارف المصرية قبل ما يزيد على نصف القرن! وهي تقريبًا الترجمة التي فاقت الأصل الألماني ترتيبا وتبويبا وإضافة وتدقيقا بصورة مدهشة!
والثانية؛ موسوعة «تاريخ التراث العربي» لفؤاد سزكين، وكانت مغامرة كبرى من مغامراتي (ربما أرويها في يوم ما) للحصول على هذا الكتاب، ولم أنجح في مطالعته وقراءة أجزاء منه إلا وأنا في الجامعة خلال الفترة (1997-2001).
(2)
في الجامعة؛ تنامت معرفتي بتراثنا الأدبي والتاريخي والفلسفي واتسعت وتعددت روافدها في قاعات الدرس وقاعة المكتبة التراثية العتيقة التي قرأت فيها أهم دواوين الشعر العربي عبر عصوره المختلفة، وعرفت منها مجموعاته الأساسية الكبرى؛ مثل «المفضليات» و«الأصمعيات» و«مختارات ابن الشجري» وكتب (الحماسة) بأنواعها وشروحها ومؤلفيها المتعددين.
وكانت قاعة مكتبة كلية الآداب العتيقة (وقد كانت في ذات الوقت هي مكتبة الجامعة المركزية) تتميز -في ذلك الوقت- بما تضمه من الكتب المطبوعة في أوروبا التي أعدّها المستشرقون الذين أفنوا حياتهم في خدمة التراث العربي الإسلامي، وقدموا له ما لم يستطع أن يقدمه أبناء هذا التراث نفسه.. والأمثلة على ذلك عدة؛ وقد رأيتها بعيني عندما أتصفّح مكتبتي التراثية التي تشكلت على مدى الأعوام والسنين فأجد (معجم ألفاظ الحديث) الذي نهض به المستشرق فنسنك، وذلك إلى جنب كتابات بروكلمان وجولدتسيهر وكرنكو وبلاشير وإغناطيوس كراتشكوفسكي، وغيرهم من الذين يدين لهم تراثنا بخدماتهم الجليلة في الجمع والتصنيف والتحقيق والفهرسة والنشر العلمي الموثق والحصر والاستقصاء.. إلخ.
وكان الألماني كارل بروكلمان من بين هذه الأسماء جميعًا؛ قد استحوذ على اهتمامي بكتابيه الكبيرين المهمين: «تاريخ الشعوب الإسلامية»، الذي يقع في ما يقرب من الألف صفحة. ثم موسوعته الغنية المذهلة «تاريخ الأدب العربي»، التي كانت تعني حرفيًّا (تاريخ التراث العربي) من شعر ونثر وتاريخ وفلسفة ولغة وقص وموسيقى وكل أنواع المعارف والفنون التي عرفها العرب والمسلمون منذ ظهور الإسلام وقبله بقرن ونصف أو قرنين، وحتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وهو هنا يقصد "الأدب" بمعناه الواسع كما كان يتداول في الثقافة الغربية عموما والألمانية خصوصًا؛ أي كل أشكال الإنتاج الأدبي والسردي والمعارف والعلوم والفنون التي تمت صياغتها لغويا في نصوص منشورة أو غير منشورة (مخطوطة كانت أو بأي صورة دونت عليها)، وسأعود إلى جلاء هذا المفهوم بعد قليل.
(3)
كانت هذه (هي) البداية التي عرفت فيها هذه الموسوعة الجليلة؛ موسوعة كارل بروكلمان المسماة (تاريخ الأدب العربي) والتي عكف على ترجمتها حفنة من خيرة العقول المصرية والعربية كان على رأسهم المرحوم عبد الحليم النجار، وجاء التعريف بها كالتالي:
هذا الكتاب موسوعة أدبية تاريخية وثقافية ضخمة تتناول تاريخ الأدب العربي بأوسع معاني الأدب، من أقدم عصوره وحتى العصر الحديث، ويقدم الكتاب/ الموسوعة ثمرة تجارب المستشرق الكبير في حياته العلمية الخصبة. والكتاب يقع في ستة أجزاء كبار، تعتبر دائرة معارف حقيقية، محيطة ومستوعبة ووافية بكل فنون وأشكال التعبير اللغوي والأدبي والإنتاج المعرفي والثقافي للعرب والمسلمين الذي تم تدوينه وكتابته باللغة العربية، وذلك عبر عصوره التاريخية منذ أقدم نقطة استقر عليها الكشف الأثري والتاريخي وحتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، تقريبا، وتستقصي بدقة كنوز ومعارف التراث العربي كله في مظانه المنشورة والمخطوطة على السواء.
مؤلف هذا العمل العلمي "الببيلوجرافي" غير المسبوق هو المستشرق الألماني الكبير کارل بروکلمان (1868-1956) أحد أعلام الاستشراق العظام الذين تركوا خلفهم آثارًا في الدرس المقارن، ونحو الساميات، والأدب العربي والتراث بصورة بقدرة ما تثير الإعجاب الكبير بعلمه وعمله وإنجازه الضخم، بقدر ما تثير الدهشة والتأمل من هذا الإصرار والدأب على إنجاز ما أنجزه خلال مشوار حياته..
(4)
كان لدى بروكلمان مفهوم واضح للأدب ينسجم مع مفهوم المدرسة الألمانية بعامة؛ كما يحاول أن يجعله منسجمًا أيضًا مع المهمة التي ندب نفسه لها؛ فعنده أنه يمكن "إطلاق لفظ الأدب بأوسع معانيه على كل ما صاغه الإنسان في قالب لغوي ليوصله إلى الذاكرة..
ولكن كما جمع علم اللغة القديم تحت مدلول "الأدب" آثار المعرفة إلى آثار فن القول، أراد "فلهلم شيرر" الباحث الألماني المرموق أن يدخل تاريخ العلوم في دائرة البحث الأدبي التاريخي.. ومن ثم ينبغي على مؤرخ الأدب العربي أن يدخل كل ظواهر التعبير اللغوي في دائرة عمله، ولا يجوز له الاقتصار على فن القول في نطاق أضيق إلا في العالم الحديث.. ويهدف علم الأدب إلى العناية بفهم ما كتبه شعب من الشعوب على أنه حلقة من حلقات حضارة ذلك الشعب، كما يهدف إلى تفهم الكتاب الواحد من خصوصية المؤلف ومن مؤثرات المحيط الذي يعيش فيه".
إن بروكلمان يريد لنا فهما محددا للأدب يسوّغ به المنهج الذي اتبعه في الكتاب، وفي الوقت نفسه ينفي قدرة الشعر العربي وحده على تمثيل الحياة العربية بل الحضارة العربية... إن الأدب هو كل ما صاغه الإنسان في قالب لغوي ليوصله إلى الذاكرة، ومن ثم يكون منطقيا أن يختلط النتاج الأدبي الخاص بالنتاج المعرفي العام؛ لأنهما معا يساعدان على فهم التطور الحضاري لشعب ما. وبذلك فإن بروكلمان يكون منحازًا للمفهوم العام للأدب الذي يقترب به من مفهوم الثقافة والحضارة.
(5)
أخيرًا؛ وبعد غياب هذه الترجمة ما يزيد على أربعة عقود متصلة، لم تعد متاحة ولم متوفرة في صورتها الورقية التي صدرت عن دار المعارف؛ أعادت الدارُ طبع الأجزاء الستة كاملة ومعا، في صورتها الأصلية، بحرفها الدقيق وفهارسها الجامعة الكاشفة، وأتاحتها أخيرًا بين يدي طلاب الثقافة العربية ودارسي الأدب العربي والمهتمين بالتراث ومظانه في خطوة طال انتظارها لكن تحققت أخيرًا وها هي هذه الطبعة الجديدة تظهر إلى النور.