عقدٌ من الزمن قد مضى بكل ما فيه من أحداث، عمرٌ زمنيّ انفضّت أحرازه أمام صفحات الوقت. قد يكون «الموت» هو القاسم المشترك بين سفر الروح وبقاء الجسد؛ فالأجساد وإن بدت قوية في هيئتها، إلا أنها ستنهار يومًا لتسقط في مكانها المظلم، ثم تبدأ مرحلة أخرى من التحلل رويدًا رويدًا إلى أن تصبح أجزاء ذلك الجسد «ترابًا»، وكأنها خرجت إلى الوجود ثم عادت إلى أصلها ثانية: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى».

إن الأرواح التي تسافر نحو السماء تبقى في ذاكرة البشر عالقةً في أذهانهم، لدرجة أنك قد تسمع شخصًا يحدّثك عن فلان قد غادر الحياة، لكن روحه كانت جميلة؛ فجمال الأرواح شيء عظيم.

طبول الذكرى تعيدني إلى عشر سنوات مضت بـ«الكمال والتمام»، أيام عصيبة قد انطوت في حجرات الذاكرة، وحتى اليوم «لم أتعافَ» تمامًا من ألم الفراق والفقد. كل شيء لا يزال مكانه جامدًا، وفي كل عام هناك تاريخ محدد يتجدّد فيه ذلك الوجع النفسي. يقولون: إن النسيان نعمة عظيمة... لكن كيف أنساك يا أبي؟

في عالم اليقظة، لن أذكر فيض عطائك وتضحياتك، لكن ما زرعته في قلوبنا من حب هو الذي سأذكره دائمًا للآخرين.

بالأمس وقفت على قبرك وحيدًا بين الأموات، لم تنحرف قدماي عن مسار الوصول إلى حيث تختلط بقاياك بالتراب. وقفت وكل جوارحي متعبة جدًّا من هذا الوجد، كل شيء كان مفتوحًا أمام عينيّ؛ المكان الذي وقفت فيه عاجزًا عن الدخول إلى قبرك، يداي اللتان لم تستطيعا أن تحملا رملة واحدة لتضعاها على قبرك. ذكريات وتفاصيل مؤلمة لا يمكن نسيانها حتى بعد مرور هذا الوقت.

وأنا على مقربة منك تذكرت شيئًا مما قد قرأته ذات يوم: «حين ترى التراب يغطي أغلى ما لديك... وقتها ستدرك كم هي تافهة هذه الحياة»، وهو حرفيًّا ما كنت أشعر به في تلك اللحظة.

بعد موتك لم نستطع أن نستوعب ما حدث، كل شيء كان بالنسبة لنا مجرد حلم ليلي سيمحو ضوء الصباح خيوطه، لكن الشمس عندما أشرقت بنور الله لم نستفق نحن من أحلامنا وأمنياتنا التي كنا نريدها أن تصدق. فالواقع كان هو عين الحقيقة وبؤرة الألم التي تنحر أفئدة الموجوعين، أما ما أسرّته الأنفس فهو جزء من التمني لن يعيد شخصًا قد غاب مع الغروب.

في كنفك ورعايتك كنتُ أنا في زمن الغفلة لا أفكّر كثيرًا فيما أقرأه أو أسمعه أو أراه، بل أصنع ما أجد نفسي مقبلًا عليه. الآن حرفيًّا وبعد أن فقدتُ ذلك السند الذي يجعلني أمشي مستقيمًا دون أن ينحني ظهري أو ينكسر من كثرة الاتكاء عليه، أيقنت بصدق من قال هذا القول: «لقد اشتقت لشخص كان يوصيني بأن أنتبه لنفسي كثيرًا، ليتني أستطيع أن أخبره أني فقدتُ نفسي عندما غاب».

في الحياة تبقى الذكريات عبارة عن صور مادية نتصفحها من وقت إلى آخر، لكن زائر الحنين لمن غاب تحت التراب سيظل مجرد ذكريات تنطق بالألم، أما صور الماضي فهي جزء من خيال لا تتلقفه الأيادي حتى وإن بدا لنا كأنه صوت ذو شجن.

في مقبرة تعج بالموتى أجد ثمة دموعًا تائهة، وحزنًا يقف وحيدًا بين هؤلاء الأموات، أما تفاصيل أخرى حزينة فيصعب البوح بها حتى وإن كانت نتاج جرح قديم. في داخلي ثمة صرخات ظلت محبوسة في الجوف لسنوات دون أن يعلم بها أحد.

عجبًا لأمر هذه الدنيا! نحن نبحث فيها عن أشياء كثيرة، لكن هناك شيئًا ما يبحث عنا ويجدنا حين يأتي موعده، ومن بين تلك الأشياء الغيبية هو «الموت». قد لا يفهم البعض لماذا نموت، ولكن الله تعالى ذكر ذلك؛ فالإنسان هو أمانة الله في الأرض، وسبحانه يسترد أمانته، فيأتيك الموت وأنت لم تذهب أو تبحث عنه.

كم أحسستُ بألم عندما نظرت إلى منشور جميل يقول: «يا ليت للغائبين ظلًا يبقى بعدهم، وأثرًا لا تمحوه الريح، وصوتًا لا يخفت مع الزمن. لكنهم حين يرحلون يأخذون معهم حتى صدى خطاهم، ويتركوننا نبحث عنهم في الفراغ».

في نهاية المطاف ستدرك حقيقة لا يتجرّع مرّها إلا من ابتُلي بمصائب الدنيا، ومنها أن الموت هو من المصائب التي علينا أن نتجرّع سُمَّها حتى وإن كنا نعلم أننا لن نفلت منها.