كل هذه الكتب!
كنت أحسب أنني سأرى معرضا عاديا للكتاب، توقعت أن يكون أكبر من معارض الكتاب التي زرتها في القدس، ولكن أن يكون بحرا من الكتب فهذا الذي لم أتوقعه، كان ذلك في شتاء أواخر الثمانينيات، حيث أصبحت على مدار سنوات الدراسة لا زائرا فقط، بل مقيما، أتنقل بين القاعات الكبرى. ثم أصبحت لي طقوس عاما بعد آخر، فمن استعراض للكتب القديمة، حيث تم إنشاء المكان لمحاكاة سوق سور الأزبكية الشهير، حيث وفدوا إلى المعرض. وكنت أقتني منها كتبا مهمة بأسعار زهيدة، ثم لأدخل كل يوم إلى بعض القاعات، ثم لأذهب إلى ندوة الشباب التي أسسها اتحاد الكتاب هناك لتشجيع الشباب تحت اسم المقهى الثقافي، وأذكر الكاتب محمد سلماوي الذي كنت أرى حرصه على الكتاب الشباب. ثم لأتناول «الكشري» بسعر زهيد، ثم لنتجول ثانية هنا وهناك انتظارا للأمسيات الشعرية: نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم وفاروق جويدة وتوفيق زياد. بعدها نعود إلى مكان إقامتنا وقد ملئنا بكل ما هو جميل وعميق. وما زالت بصمة معرض القاهرة الدولي للكتابة على مكتبتي التي غزت مساحات البيت، فصار البيت مكتبة. تلك رحلة العين مع عالم المعرفة العظيم. وتلك رحلة القلب والفؤاد.
وقتها تذكرت مكتبة مدرسة بيت دقو الابتدائية، التي كانت بضع رفوف لقصص الأطفال، حيث أوكل لي مرارا المعلم الراحل جمعة بدر دور أمين المكتبة، أسجل الطلبة وما استعاروا، في حين كنت أقرأ في الحصة الواحدة عدة قصص. كان عددنا قليلا، وكنا كل صفين تضمنا غرفة واحدة.
لم يكن في قريتنا الصغيرة في جبال القدس «روضة أطفال»، لكني تعرفت على شكل الحروف والأرقام من كتب إخوتي وأختي. كان ذلك وأنا ابن أربع سنوات، كانت الحروف والأرقام رموزا مبهمة لي، وكنت متعجبا منها، وتعجبت من الأكبر مني وقتها وهم يقرأون ويكتبون، أعظمت فيهم فك الشيفرة، لذلك كنت أترك الحروف لأتفحص الصور الموجودة في الكتب. وظل تعظيمي للحروف كبيرا، دون أن أعرف عنها شيئا، إلى أن سنحت لي الفرصة بعد ذلك بعام، حيث توفرت لي فرصة مصاحبة أخي سعيد وأختي يسرى إلى المدرسة، بعد أن طلب مني مدير مدرستنا الصغيرة المعلم الراحل رفيق مرار القدوم صباحا إلى المدرسة، ولعلي أفرد شيئا عن تلك التجربة التي استمرت شهرين أو أكثر، كونها حملت البذور الأولى لتعاملي مع الناس خارج فضاء الأسرة.
كان من الطبيعي أن أجلس كطالب مستمع في الصف الأول، الذي كان يشاركه الصف الثاني الغرفة. وهكذا بدأت الملامح الأولى لفك الشيفرة، ولو في الحدود الدنيا، ووقتها، وقد وهبت قلما ودفترا، صرت أحاكي الأطفال في كتابة الحروف، التي كان يتم تعليمها من خلال منهج المربي خليل السكاكيني؛ فقد كان يخصص لكل حرف درسا، ويتم بذلك تكوين الكلمات المتاحة من تجميع الحروف التي مرّت على المتعلمين.
في تلك الفترة، كان المعلم الراحل فائق معلم الاجتماعيات يقصّ على أولاد وبنات الصف الثاني قصصا من السيرة، وكان يعنّ له أحيانا سرد إحدى القصص الشعبية علينا، حيث كنا نحبها، «كان يا ما كان...»، وكنا جميعا نربط بين مهارة المعلم والأمهات والجدات في سرد القصص الشعبية.
انتهى صيف 1972، وما إن جاء أول سبتمبر 1973، حتى انتظمت رسميا في الصف الأول، وبدأت رحلة القراءة والكتابة، التي صارت فيما بعد حياتي.
بدأنا بتجريد حروف «راس روس»، حتى أن كتاب القراءة اشتهر وقتها بذلك. وصرنا يوما بعد يوم، نتعرف على الحروف، والكلمات، ثم بدأت لعبتنا في تكوين كلمات من حروف نعرفها، أو قراءة كلمات، وكنا كثيرا ما نقرأ كلمة دون معرفة المعنى ما جعلنا، ونحن أولاد 6 سنوات نبحث عن المعنى أيضا.
لم يكد الصف الأول ينتهي حتى أصبحنا على ألفة مع كل الحروف، وحينما انتقلنا إلى الصف الثاني، تم تعليمنا «ال التعريف» وكان سحرا آخر ربط الكلمات.
وهكذا ولدت القراءة والكتابة في حياتنا، ولما كانت الكتابة ثقيلة، كون المعلم رحمه الله كان يطلب منا كتابة النص من خلال تكرار كتابة الكلمة ثلاث مرات، فقد كنت نكتفي بذلك. وهكذا رحت مثلي مثل الأطفال نقرأ كل ما تقع العين عليه، وكنا نسعد حين نفهم معنى ما نقرأه، في حين كنت دائم السؤال عما لا أعرفه من معاني الكلمات. وسيصعب التعبير عن فرحتي بل بقوتي حين صرت أفك شيفرة الحروف والأرقام. كان ذلك مدهشا إلى أبعد مدى.
كانت المدرسة والنظام التربوي يركز كثيرا على القراءة والكتابة والحساب، وكان المعلم يقسو على الطالب المهمل، فيعنفه قائلا: «لا أنت قارئ ولا متبع». تعلمنا من خلال كتبنا وكتب المدرسة والمكتبة أن هناك كتبا كثيرة جدا لا نعرفها، ومن المهم الاطلاع على ما نستطيع منها. وهكذا، فإن نتيجة العلاقة مع المعرفة تتلخص في أننا نعرف والآخرون يعرفون، ولكن هناك معارف كثيرة لا نعرفها ومن المهم استمرار التعلم لامتلاك الحدّ الأدنى من المعرفة طلبا للحكمة.
كثيرا ما رددت: «فَقُلْ لِمَنْ يَدَّعِي في العِلْمِ فلسفةً: حَفِظْتَ شَيئا وغابتْ عنكَ أشياءُ» للشاعر أبي نواس الذي عاش في القرن الهجريّ الثاني. وقد قصد هنا أن مدعي العلم والفلسفة، رغم ادعائه المعرفة، فإنه يجهل الكثير من الأمور، وأن علمه محدود وضئيل مقارنة بحجم ما لا يعرفه.
وأبو نواس الحكيم، الذي يعدّ صاحب رؤية نقدية، قد ظلم حين تم تنميطه في غرض معين من الشعر، وهو الذي كان أحد أهم المجددين المنتمين للعصر الذي عاشه، فكان أول من نهج للشعر طريقة حضرية وأخرجه من مما كان سائدا من نظم الشعر التقليدي ومواضيعه، وربما هذا يحتاج مقالا آخر ينحاز للموضوعية، ويبين جوانب أخرى من فكر شاعر كانت له رؤية سابقة لعصره تجاه منظومة الشعر ومنظومة المجتمع والحكم بشكل عام.
المتعلم والباحث دوما متواضع، لأنه يعرف أنه عرف شيئا وغابت عنه أشياء، لذلك ترى ذلك في حديثه وكتابته، حين يذكر ما لديه مشجعا على البحث في جوانب أخرى، وقد تراه هو بنفسه رغم تقدمه بالعمر يتنقل بين المكتبات.
وليست القراءة هي قراءة كتب، بل هي الاستماع والإصغاء، وهي المشاهدة البصرية، وهي تأمل الكون والنفس. لذلك يتعمق لدينا دوما ما ابتدأ به الذكر الحكيم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى(7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى(8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى(11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (19)
صدق الله العظيم
معجز فعلا كلام الله الخالق والمصوّر، وهو ما يدفع الإنسان لتأمل الخلق، والتعلم من كتابة الأقلام التي تعلمنا ما لا نعلمه، بهدف الخير لا الطغيان؛ فحين نضع جباهنا ساجدين، فإن العقل يسمو، فالتواضع علو لأنه يدفعنا للارتقاء.