ترجمة: نهى مصطفى
حتى وقت قريب، لم يتوحد الديمقراطيون والجمهوريون سوى على أدوات سياسية محدودة، مثل ضوابط التصدير. ثم أصبحت القيود على انتشار التكنولوجيا الأمريكية ذات الاستخدام المزدوج، كأشباه الموصلات، الأداة المفضلة في سباق التكنولوجيا مع الصين، ووسيلة لمعاقبة روسيا على غزوها الشامل لأوكرانيا. فلو وصلت أشباه الموصلات وبعض التقنيات الأمريكية الأخرى إلى الأيدي الخطأ، فقد تشكل تهديدًا للأمن القومي. ورغم الخلاف حول التفاصيل، ظل هناك توافق واسع بين الحزبين على ضرورة تنظيم الحكومة الأمريكية لحركة هذه التقنيات.
تبنت إدارة ترامب أيضًا ضوابط التصدير، لكنها أضافت إليها بُعدًا جديدًا. ففي أغسطس، توسطت في اتفاق لتقاسم الإيرادات مع شركة إنفيديا، المصممة الأمريكية لرقائق أشباه الموصلات المُستخدمة في تشغيل تقنيات الذكاء الاصطناعي. وبموجب الاتفاق، تحصل الشركة على تراخيص لتصدير رقاقة H2O الخاصة بها إلى الصين، مقابل تخصيص 15% من إيرادات تلك المبيعات للحكومة الأمريكية.
في السابق، كانت الحكومة تكتفي بمراجعة طلبات الترخيص للتأكد من خلوها من مخاطر غير مقبولة. أما الآن، فقد استُبدلت هذه الآلية ببطاقة سعر، بحيث تُعطى الأولوية للمدفوعات التي تصب في خزينة الحكومة على حساب الاعتبارات الأمنية.
على الرغم من أن بكين حظرت الأسبوع الماضي على الشركات الصينية شراء رقائق إنفيديا بعد اتهامها بانتهاك قوانين مكافحة الاحتكار، فإن صفقة إدارة ترامب تبقى جزءًا من اتجاه مُقلق: تسييل الأمن القومي. فبدلًا من التعامل مع الأمن باعتباره قيمة لا تتجزأ ولا تُقدّر بثمن – شأنه شأن الانتخابات الحرة والنزيهة أو حرية التعبير والمعتقد – جرى التعامل معه كما لو كان محفظة من الأصول القابلة للتجزئة والتسعير. ما كان يومًا مرادفًا للأمان أصبح يقدر بأوراق مالية، والأسوأ أن هذه الأوراق خاضعة للتفاوض؛ إذ كشف الرئيس في مؤتمر صحفي أن الإدارة سعت أولًا إلى اقتطاع 20% من مبيعات إنفيديا، قبل أن تستقر على 15%.
لا يشوه اختزال الأمن القومي إلى دولارات وسنتات معنى المصطلح فحسب، وإنما يُقوّض أيضًا أمن الولايات المتحدة نفسه. فاستبدال التراخيص بصفقات تقاسم الإيرادات، والتوسع في أنواع محددة من الاستثمارات المباشرة، والضغط على الحلفاء والشركاء، قد يملأ خزائن الحكومة على المدى القصير، لكنه يفتح الباب لمشكلات أمنية جديدة ويُبقي القديمة بلا حل. النتيجة أن التكنولوجيا الأمريكية تصبح متاحة بسهولة أكبر أمام الخصوم، فيما تُثقل كاهل الحكومة بمسؤولية إدارة أموال دافعي الضرائب، وتُضعف قدرة واشنطن على تشكيل النظام الدولي من حولها.
منذ بدايات القرن العشرين ارتبط مفهوم الأمن القومي بالاقتصاد، فقد أعاد فرانكلين روزفلت صياغته خلال حملته عام 1932، مؤكدًا أن الأزمات الاقتصادية تهدد أمن المجتمع، وأن التحرر من الخوف مرهون بالتحرر من العوز، لكن مع مرور الوقت اتسع المفهوم ليأخذ طابعًا عسكريًا، مدفوعًا بصناعة السلاح وصعود المجمع العسكري– الصناعي، حتى شمل العالم بأسره. ومع دخول القرن الحادي والعشرين، ظل التركيز على القوة العسكرية والأيديولوجية، وإن بدأت واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر في استخدام الأدوات المالية لمواجهة الإرهاب والدول المارقة.
ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، عاد البعد الاقتصادي ليتصدر مفهوم الأمن القومي الأمريكي، فأكدت استراتيجيات أوباما (2015) وترامب (2017) وبايدن (2021) أن «الأمن الاقتصادي هو الأمن القومي». وفي عهد بايدن، توسع دور وزارة التجارة ليشمل سلاسل التوريد، والأمن السيبراني، والتكنولوجيا، والمناخ، والاستثمار، والدبلوماسية التجارية، وحتى سياسات الفضاء التجاري. وقد برز إجماع حزبي على هذا النهج، إذ دعم الجمهوريون خصوصًا ضوابط التصدير، واقترح رون ديسانتيس عام 2023 إنشاء مكتب فيدرالي للأمن الاقتصادي والمنافسة على غرار المكاتب المستحدثة في إدارة بايدن.
أصبحت السياسات الاقتصادية والتكنولوجية والتجارية عناصر محورية في الأمن القومي الأمريكي، حيث اتفق الحزبان على أن الأمن لا يقتصر على الحماية العسكرية بل يشمل تقليل المخاطر الاقتصادية. ويُنظر إلى تراجع الصناعات وفقدان الريادة التكنولوجية كتهديد يعرّض البلاد لابتزاز خارجي، وهو ما أكّدته أزمة سلاسل التوريد خلال جائحة كوفيد-19. لذلك برزت أولوية التصنيع المحلي وتقليل الاعتماد على الخارج، من سياسات ترامب ضد هواوي وتيك توك وصولًا إلى بايدن.
صحيح أن حلول الديمقراطيين والجمهوريين لم تكن متطابقة دائمًا – مع استثناءات مثل ضوابط التصدير – لكن ظل هناك اتفاق واسع على ماهية المشكلة وجوهر التهديد.
تتحدى إدارة ترامب الثانية هذا الإجماع. فبينما ارتبط الأمن القومي تقليديًا بالحد من التهديدات، تسعى الإدارة اليوم إلى استغلالها، تحت شعار تقليص الضرائب لصالح المصلحة العامة. وتُجسد صفقة إنفيديا هذا النهج، إذ سمحت الإدارة للشركة، التي تُشكل تعاملاتها مع الصين تهديدًا للأمن القومي، ببيع منتجاتها مقابل تخصيص 15% من إيراداتها للحكومة الأمريكية. وبرر ترامب الصفقة بالقول إن هذه الشرائح «عتيقة» تمتلكها الصين بالفعل، وبالتالي لا تمثل خطرًا على الولايات المتحدة. غير أن هذا الادعاء يظل موضع جدل، خاصة وأن الحكومة اعتبرت هذه الرقائق ذات مخاطر أمنية قبل أشهر فقط، وحظرت تصديرها في أبريل. ولهذا السبب، يمنع القانون الأمريكي (الباب 50) دفع مقابل للحصول على تراخيص مراقبة الصادرات، تفاديًا لتقديم العوائد المالية على حساب اعتبارات الأمن القومي.
تحويل ضوابط التصدير إلى أداة مالية، لا إلى معيار أمني، يفتح الباب أمام وصول التكنولوجيا الأمريكية الحساسة إلى جهات خبيثة. ومع ذلك، لم تُثنِ هذه التعقيدات القانونية الإدارة عن المضي في هذا النهج، فقد عقدت بالفعل اتفاقًا مماثلًا مع شركة AMD، تحصل بموجبه الحكومة على 15% من عائدات مبيعات معالجات MI308 في الصين، في خطوة وصفها وزير الخزانة سكوت بيسنت بأنها «اختبار تجريبي» رغم أن وزارته لا تشرف على صادرات التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام.
قد يتوسع هذا النموذج ليشمل مجالات أخرى غير ضوابط التصدير. فمثلًا، يمكن للإدارة أن تقبل مدفوعات مقابل تمرير الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الشركات الأمريكية، حتى تلك التي تثير مخاوف أمنية مثل أمن البيانات، وهو ما يعني عمليًا تجاهل الخطر لمجرد أن أحدهم دفع الثمن المناسب، وهذا النهج يفاقم المشكلة.
ولم يقتصر الأمر على صفقات تقاسم الإيرادات، إذ استكشفت الإدارة خيار الاستثمار المباشر في الشركات الأمريكية؛ ففي أغسطس، أعلنت الحكومة شراء حصة قدرها 10% (نحو 8.9 مليار دولار) في شركة إنتل، أكبر مُصنّع لأشباه الموصلات في البلاد، ورغم أن الاستثمار الحكومي المباشر ليس شائعًا، إلا أنه ليس غير مسبوق، وقد تبرره ظروف خاصة، مثل إنقاذ شركة استراتيجية متعثرة مهددة بالإفلاس أو الاستحواذ الأجنبي، أو دعم شركة ناشئة حيوية تفتقر إلى التمويل الخاص. لكن ما لا ينبغي أن يحدث هو جعل الربح الهدف الأساسي، أو تفضيل مدفوعات شركة واحدة للحكومة على حساب المصلحة الأمنية القومية الأوسع.
تجسد صفقة إنتل هذا الخطر بوضوح، فقد حصلت الشركة أصلًا على تمويل فيدرالي من خلال منح «قانون الرقائق والعلوم» لعام 2022، وكانت تلك الأموال مشروطة بخدمة المصلحة العامة. أكبر المنح دعمت مشاريع تصنيع في أريزونا ونيو مكسيكو وأوهايو وأوريجون، مع التزام إنتل بتقديم تقارير مرحلية عن التقدّم، والالتزام بقيود أمن قومي تحدّ، من بين أمور أخرى، من تعاونها مع دول مثيرة للقلق. كما تضمّن برنامج المنح بندًا لاستعادة الأموال لصالح دافعي الضرائب في حال تحقيق أرباح غير متوقعة، فيما عُرف بـ«تقاسم الأرباح».
لكن بدلاً من الاستمرار في صرف المنح والحفاظ على هذه الضوابط، اختارت الحكومة الأمريكية شراء أسهم في إنتل، هذا الخيار وفّر للشركة سيولة أكبر، ووعد الحكومة بإيرادات مستقبلية محتملة، لكنه في المقابل مثّل خسارة كبيرة في الرقابة على كيفية استخدام أموال دافعي الضرائب؛ فإنتل قد تستثمر الأموال بما يخدم الأمن القومي، وقد لا تفعل.
لم يتوقف توظيف الأمن القومي كأداة مالية عند هذا الحد، فقد تبنت الإدارة المنطق نفسه في التعامل مع الدعم العسكري والمساعدات الخارجية، ففي عام 2024، قال ترامب، حين كان مرشحًا:»على تايوان أن تدفع لنا مقابل الدفاع عنها، نحن لا نختلف عن شركة تأمين». وبعد انتخابه، رفعت تايوان بالفعل إنفاقها على شراء الأسلحة الأمريكية، وفي الأشهر الأولى من ولايته، دفعت ضغوط ترامب المتكررة حلفاء آخرين إلى خطوات مشابهة.
واتبعت الإدارة منطقًا مرتزقًا كذلك في السعي إلى صفقة معادن استراتيجية مع أوكرانيا مقابل استمرار دعم واشنطن لمجهودها الحربي، وكذلك في إلغاء المساعدات الخارجية التقليدية، فبدلاً من «النموذج الخيري» للمساعدات الإنمائية، كتب وزير الخارجية ماركو روبيو في يوليو أن الإدارة ستسعى إلى فرص استثمارية تحقق «تأثيرًا مضاعفًا» يفيد القطاع الخاص الأمريكي.
ومع ذلك، فإن تشبيه المساعدات ببوليصة تأمين أو صفقة تجارية يُغفل القيمة الاستراتيجية الجوهرية لدعم الآخرين؛ فمساعدات التنمية، مثلًا، لا تقتصر على بعدها الإنساني المتمثل في تخفيف المعاناة، بل تشكل أيضًا حصنًا ضد التلاعب الأجنبي، وظهور ملاذات إرهابية، ونمو الأسواق السوداء، وغيرها من التهديدات التي يولدها الفقر والصراع المزمن. هذه المصالح، شأنها شأن منع الانتشار النووي أو الحفاظ على تحالفات قوية أو دعم الديمقراطية، بعيدة عن منطق العوائد المالية الفورية.
إن وصف نهج إدارة ترامب بالصفقات التجارية يُفوّت النقطة الأساسية، فالمعاملات تفترض تبادلًا متكافئًا، أما الإدارة فقد استبدلت غير الملموس بالملموس: مصالح الأمن القومي مقابل المال، وكأنها تفترض أن الأمن يمكن أن يُسعَّر. والنتيجة، في أحسن الأحوال، إلهاء واشنطن عن المخاطر الحقيقية؛ وفي أسوئها، تعميقها. بل إن التسييل المالي قد يخلق ثغرات جديدة عبر تشجيع اللاعبين الأثرياء على الدخول في اللعبة.
المعضلة الأعمق أن هذا النهج يتناقض مع جوهر الأمن الاقتصادي، الذي يعني حماية الاقتصاد والبنية التحتية ورفاه المواطنين، وبناء القدرة على الصمود أمام الأزمات، وضمان ازدهار مستدام، ويتطلب ذلك سياسة بعيدة المدى تدرك المفاضلات، وتعي نفوذ الآخرين، وتبني شراكات طويلة الأمد.
الحفاظ على هذه الرؤية الشاملة أساسي لاتخاذ قرارات رشيدة، فإجراءات الأمن القومي الاقتصادية، مثل ضوابط التصدير، قد تُكبح النمو والابتكار من دون قصد. وبالمثل، قد تُعرّض سياسات تشجيع التعاون العلمي أو التوسع التجاري الأمنَ القومي للخطر إذا استُغلت نتائجهما ضد الأمريكيين. والتحدي الحقيقي هو تفادي أن يؤدي علاج خطرٍ إلى خلق خطرٍ أكبر.
مثال ذلك الرسوم الجمركية العقابية التي فرضتها إدارة ترامب في بداياتها: خطوات قاسية أربكت الأسواق وأدخلت الاقتصاد في دوامة من عدم اليقين لم يستطع حتى الرئيس تقبلها. كان يمكن لإجراءات أكثر دقة واستهدافًا أن تقلل من الآثار السلبية على المستهلكين والمنتجين والمستثمرين، وتوفر في الوقت نفسه ما يحتاجه الحلفاء والأسواق: الوضوح، والشفافية، والقدرة على التنبؤ.
تتطلب سياسات الأمن الاقتصادي الناجحة فهم توازن القوى؛ فالولايات المتحدة لم تعد تعيش في عالم أحادي القطب تهيمن فيه على سلاسل التوريد والمنافذ الاقتصادية. وكل محاولة للتظاهر بذلك، عبر فرض تعريفات جمركية قسرية مثلاً، تتيح للدول الأخرى تعزيز قدرتها على موازنة النفوذ الأمريكي. وقد ساهمت هذه السياسات في إحياء منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم أكثر من 40% من سكان العالم وتسعى لتكون ثقلًا استراتيجيًا موازنًا لأمريكا في آسيا.
يقوم النهج الفعّال للأمن الاقتصادي على التنسيق الدولي والشراكة مع الصناعة لبناء سلاسل توريد آمنة وتطبيق القواعد بجدية، بعيدًا عن الصفقات الاستعراضية. كما أن الأمن الاقتصادي عملية طويلة الأمد؛ أدواته تحتاج سنوات لتُحدث أثرًا، لكن قيمته تكمن في إحداث تحولات مجتمعية عميقة، وهو ما يجعل مساعدات التنمية استثمارًا استراتيجيًا يقلل من الأزمات المستقبلية.