تغطية - ماجد الندابي

شهدت قاعة الإمام أبي سعيد الكدمي بكلية العلوم الشرعية بالخوير محاضرة علمية حملت عنوان «السياسة الشرعية من خلال رسالة أبي مسلم البهلاني إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي»، ألقاها الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري الأستاذ المساعد بقسم الفقه وأصوله بالكلية، المحاضرة التي حضرها عدد من الأساتذة والباحثين وطلبة العلم، جاءت لتفتح نافذة على واحد من النصوص الفكرية والفقهية والسياسية التي تعكس العمق التاريخي للمدرسة العُمانية في تناول قضايا الحكم والسياسة الشرعية.

منذ البداية شدد الدكتور الأغبري على أن الحديث عن السياسة الشرعية في التراث العُماني لا يمكن أن يفهم بمعزل عن النصوص التأسيسية التي تركها الأئمة والعلماء والشعراء، وفي مقدمتهم الشيخ أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني، المعروف بلقب «شاعر العلماء وعالم الشعراء»، فقد جمع البهلاني بين الفقه والفكر والأدب، وكان في كتاباته ووصاياه ورسائله يستند إلى رؤية دينية راسخة، ويستحضر في الوقت ذاته البعد السياسي والاجتماعي، في توازن فريد قلّما اجتمع في شخصية واحدة.

وأوضح المحاضر أن الرسالة التي بعثها أبو مسلم البهلاني إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي تمثل وثيقة بالغة الأهمية، إذ تكشف عن فهم عميق لمعنى الإمامة، وعن تصور متكامل للسياسة الشرعية باعتبارها أمانة ومسؤولية كبرى، وقد تضمنت هذه الرسالة نصائح وتوجيهات وتذكيرا بالعدل والرفق ومراعاة مصالح الرعية، وضرورة الجمع بين الحزم والرحمة، كما تضمنت إشارات صريحة إلى كيفية التعامل مع شؤون الحكم، والعلاقة بين الراعي والرعية، ومكانة العلماء في توجيه القرار السياسي.

توقف الدكتور الأغبري مطولا عند استخدام المصطلحات المرتبطة بالحكم في النصوص الإسلامية، مشيرا إلى أن الرسالة عالجت مسألة الألقاب والمسميات التي تطلق على الحاكم، مثل «الإمام»، و«الخليفة»، و«أمير المؤمنين»، و«السلطان»، وقال: إن النص يوضح أن المسمى في ذاته ليس محل إشكال أو خلاف، وإنما العبرة بجوهر الحكم وعدالته.

كذلك بيّن المحاضر أن الرسالة شدّدت على أن الحاكم لا يحكم بغير بشر، بل يحكم بأناس لهم مشاعر وعقول وحقوق، فلا يُتصوّر أن تكون هناك إمامة مجردة بلا رعية، ولا حكم بلا إنسان، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة في الرسالة: «الناس على دين ملوكها»، في إشارة إلى أن سلوك الرعية في كثير من الأحيان مرآة لسلوك الحاكم، فإذا كان الحاكم عادلًا اتجه الناس إلى العدل، وإذا جار مالوا إلى الجور.

وتطرقت المحاضرة أيضا إلى مبدأ العدل والرفق باعتبارهما أساس السياسة الشرعية، فقد جاء في الرسالة: «إنك لا تزيل أحقادها إذا شمأزت بمثل الرِّفق، ولا تكشف لك عن سوء غيبة ضمائرها بمثل الخلق»، وقد فسّر الدكتور الأغبري هذا المقطع بأنه دعوة واضحة إلى معالجة القلوب باللين، والابتعاد عن العنف الذي لا يجلب إلا العناد والتمرد، وأن السياسة الشرعية الحقة ليست قهرا واستبدادا، وإنما هي قدرة على جمع الناس بالعدل والخلق الحسن.

ثم أشار إلى أن الرسالة قدّمت توصيفًا بليغا لطبيعة الرعية، إذ قسّمتهم إلى ثلاثة أصناف: صنف يعرف الحاكم وصلاحياته ويؤيده بالحق، وصنف فيه خير وشر يحتاج إلى الترغيب والترهيب، وصنف ثالث لا يرده إلا الحزم والحزم الشديد، وهذا التصنيف بحسب المحاضر يعكس رؤية واقعية للطبائع البشرية وكيفية التعامل معها في إطار السياسة الشرعية، بحيث لا يُعامل الجميع بنفس الأسلوب وإنما بما يناسب أحوالهم وطبائعهم.

واصل الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري حديثه عن رسالة أبي مسلم البهلاني، موضحا أن الوثيقة ليست مجرد وصايا عامة أو مواعظ أخلاقية، وإنما هي معالجة دقيقة لقضايا الحكم والإدارة، وتوجيه عملي للإمام سالم بن راشد الخروصي في كيفية إدارة شؤون الدولة، ففيها توجيه صريح بأن الحاكم لا بد أن يجمع بين القوة والحكمة، وأن يوازن بين استعمال السلطة وبين مراعاة مشاعر الناس وحقوقهم.

وفي موضع من الرسالة، أورد أبو مسلم نصائح مباشرة تؤكد أن السياسة الشرعية ليست مجرد أحكام جامدة، وإنما هي فن إدارة المجتمعات بما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، قال فيها: «متى قدرت على أن تقول قدرت على أن تصول، وإنما أيديها تبع لألسنتها، فلن تملك ألسنتها حتى تملك بسومها، ولن تملك بسومها حتى تملك قلوبها»، وفسّر الدكتور الأغبري هذا المقطع بقوله: إن الرسالة تؤكد أن الكلمة تسبق الفعل، وأن السيطرة على الألسنة وضبطها شرط أساسي للسيطرة على القلوب، فإذا تمكن الحاكم من ضبط الخطاب والتواصل الحسن مع الرعية، استطاع أن يضمن ولاءهم، ومن ثم يستقيم حكمه.

كما أشار أبو مسلم في رسالته إلى أن العقل هو أداة الحاكم الأولى في إدارة الدولة، وأن القرارات التي لا تستند إلى العقل والحكمة مآلها الفشل، وقد علّق الدكتور الأغبري على هذا الجانب موضحًا أن البهلاني كان يدعو الإمام إلى أن يزن كل أمر بميزان العقل قبل أن يُقدم عليه، وأن يجعل المشاورة أساسا لقراراته، ومن هنا جاء الاستشهاد بقول عبدالله بن وهب الراسبي: «خمير الرأي خيرٌ من فطيره»، أي أن الرأي الذي تولد عن مشاورة وتمحيص وتدقيق خير من رأي سريع متعجل.

وتوسعت الرسالة أيضا في الحديث عن أهمية التعليم باعتباره أساسا من أسس السياسة الشرعية، فقد نقل أبو مسلم رغبة صريحة في أن يتعاون العلماء مع الحاكم على إلزام الناس بتعليم أبنائهم، حتى لو كان ذلك بقدر من الإجبار؛ لأن التعليم مصلحة عامة للأمة، ولا يجوز أن يبقى الجهل مسلطا عليها بسبب تقصير الآباء أو زهدهم في التعليم، وورد في النص قوله: «ووددت لو ساعدني العلماء على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعليم، وهي لعمري مصلحة عظيمة، ثم تُبْقَع النفقة الفقراء منهم على بيت المال»، وقد علّق المحاضر على هذا الجانب بأن الرسالة سبقت عصرها في الدعوة إلى التعليم الإلزامي، وربطت ذلك بمسؤولية الدولة في رعاية الفقراء وتحمل نفقاتهم التعليمية.

وتطرقت المحاضرة إلى رؤية أبي مسلم في الإعلام والخطاب الديني، حيث دعا إلى استثمار منابر الجمعة وسائر المحافل في توعية الناس وتوجيههم، من خلال خطب مركزة وهادفة، وأشار الدكتور الأغبري إلى واقعة تاريخية ذكرها البهلاني، تعود إلى القرن الثاني الهجري في صحار، حين خطب خطيب الجمعة وذكر قولا منسوبا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقام الإمام محمد بن محبوب بن الرحيل، وقال للمصلين: «أعيدوا صلاتكم فقد بطلت خطبتكم»، لأنه لم يلتزم بالاكتفاء بالآيات والأحاديث، وهذا التشدد في الاستدلال يكشف عن رؤية المدرسة الفقهية في الاقتصار على النصوص الشرعية دون غيرها، لكن البهلاني، كما لاحظ الدكتور الأغبري اتخذ موقفا آخر، إذ دعا إلى توظيف المنابر والخطب بما يخدم السياسة الشرعية ويوجه الناس نحو الصلاح والإصلاح.

وفي جانب آخر من الرسالة، شدد أبو مسلم على أهمية الاستقرار السياسي، مشيرا إلى أن الحاكم بحاجة إلى أن يرمي كل حادثة بحجرها، ويعالج كل جرح بمرهمه، أي أن يتعامل مع الأحداث بما يناسبها دون تهويل أو إهمال، وهنا توقف الدكتور الأغبري ليؤكد أن هذه العبارة تحمل دلالة عميقة على ضرورة المرونة السياسية، ومعالجة المشكلات بالحلول الخاصة بكل منها، لا بالحلول العامة الجاهزة.

كما تناولت الرسالة البعد الخارجي في السياسة الشرعية، إذ أوصى أبو مسلم بضرورة مصادقة أمراء نجد وأمراء الساحل الفارسي، ومكاتبة شريف مكة وإمام صنعاء، والتواصل مع سلاطين الجزيرة العربية، من أجل توحيد الصف والكلمة، أو على الأقل ضمان علاقة قائمة على الصداقة والتعاون، واعتبر الدكتور الأغبري أن هذه التوصية تكشف عن وعي البهلاني بأهمية العلاقات الدولية والإقليمية، وأن السياسة الشرعية لا تقتصر على الداخل فقط، بل تمتد لتشمل بناء شبكة من التحالفات التي تحمي الدولة وتدعم استقرارها.

ومن الأسماء التي أوردها البهلاني في سياق هذه الرسالة الشيخ سليمان الباروني، الذي كان له حضور بارز في تلك المرحلة التاريخية، حيث شارك في مجلس الأعيان بإسطنبول بعد حرب طرابلس، وكان من الأصوات البارزة في الدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، واستحضر الدكتور الأغبري ذكر الباروني ليبين كيف كان أبو مسلم يتابع الأحداث السياسية الكبرى في العالم الإسلامي، ويرى أن على الإمام أن يستفيد من رجالات الفكر والسياسة في تعزيز موقع الدولة العمانية بين دول المنطقة.

وانتقل الأغبري بعد ذلك إلى تحليل البنية الفكرية التي تقوم عليها رسالة أبي مسلم البهلاني، مؤكدا أنها ليست نصا عابرا في تاريخ السياسة الشرعية، بل وثيقة متكاملة يمكن أن تُدرّس في كليات الفقه والفكر السياسي الإسلامي، فقد جمعت بين النصيحة الشرعية المباشرة، وبين الرؤية الواقعية التي تستحضر معطيات الاجتماع والسياسة والعلاقات الدولية.

وأشار المحاضر إلى أن الرسالة لم تكن مجرد تنظير، بل جاءت في ظرف تاريخي حرج، عندما تولى الإمام سالم بن راشد الخروصي الإمامة باختيار أهل الحل والعقد، وكان الإمام نور الدين السالمي -رحمه الله- أحد أبرز من زكّاه وقدّمه، وقد ضرب الإمام سالم مثالا في الورع والتقوى والبأس، حتى استشهد غدرا في خضراء بني دفاع، فخلّد التاريخ سيرته بوصفه إماما ضُرب به المثل في الشدة والعدل، ومن هنا نفهم كما قال الدكتور الأغبري أن رسالة أبي مسلم لم تكن كلمات عامة، بل كانت إعدادا فكريا وسياسيا للإمام حتى يقوم بمسؤولياته الجسيمة.

وأكدت المحاضرة أن البهلاني دعا الإمام إلى عدم الانشغال بالنوايا والسرائر؛ لأن الحكم لا يقوم على ما في القلوب، وإنما على ما يظهر من الأعمال، فالعدل هو الفيصل، والإنصاف هو الأساس، فإذا تحقق العدل استقامت الدولة، وإذا غاب انهارت أركانها، وقد صاغ البهلاني هذه الحقيقة بعبارة بليغة حين قال: « أيها العبد الصالح: العدل، العدل، وما لم يعمر السلطان ملكه بإنصاف الرعية خرّب ملكه بعصيانها».

ولم يغفل البهلاني في رسالته البعد النفسي والاجتماعي للرعية، حيث دعا الحاكم إلى مراعاة طبيعة الناس وأمزجتهم، فبعض الشعوب جبلت على الشدة والصلابة، وأخرى على اللين واللطافة، ومن ثم يجب أن تتنوع أساليب السياسة بحسب ما تقتضيه طبيعة الرعية، كما أوصى الإمام بأن يحرص على إكرام الأشراف، ورحمة الضعفاء، وإغاثة الملهوفين، وكف العدوان عنهم، واعتبر الدكتور الأغبري أن هذا التوجيه يمثل خلاصة الفكر السياسي الإسلامي، حيث يربط الولاء والمحبة للسلطان بمدى عنايته بالضعفاء وإنصافه للمظلومين.

واستعرض الدكتور الأغبري في محاضرته أثر أبي مسلم البهلاني في الفكر الإباضي خاصة، والفكر الإسلامي عامة، مشيرا إلى أن مكانته لم تكن مقتصرة على كونه شاعرًا، بل كان فقيهًا ومفكرًا سياسيًا، لُقّب بـ«شاعر العلماء وعالم الشعراء»، ومن مؤلفاته «نثار الجوهر في علم الشرع الأزهر»، و«العقيدة الوهبية»، و«النشأة المحمدية»، فضلًا عن ديوان شعري زاخر بالنفَس الثوري والروح الإصلاحية، وأضاف المحاضر أن البهلاني استمد كثيرا من فكره من مدرسة النهروان، إذ كان يستشهد بأئمتها ويستحضر مواقفهم.