استطاعت سلطنة عُمان أن تبني، على مهل مدروس، قدرة نادرة في السياسات الدولية تتمثل في تحويل صدقها السياسي إلى نفوذ كبير وقوة ناعمة تنعكس إيجابا على استقرارها وعلى المنطقة في الكثير من اللحظات التي كان يمكن أن تثور فيها براكين البارود أو تتحول المواجهات المحدودة إلى مواجهات طاحنة يعلم الله وحده إلى أين يمكن أن تأخذ المنطقة. وما بقي من ذاكرة المنطقة يمكن أن يحكي عن الكثير من اللحظات الحاسمة التي ساهمت عُمان في نزع فتيل اشتعالها. وليس المقصود هنا ذلك الخطاب الأخلاقي الذي يعلو على الوقائع، ولكن تلك الممارسة المتسقة التي جعلت من قواعد محددة في السياسة العمانية -مثل احترام السيادة والامتناع عن التدخل في شؤون الآخرين وتفضيل العمل السياسي والدبلوماسي على الفعل العسكري وضبط المصالح الآنية في سبيل عدم إفساد مهمة الوساطة- إطارا تشغيليا ثابتا لا يتغير بتغير اللحظة.

وأكدت سلطنة عُمان في غير موضع ومناسبة أن هذه السياسة التي تتبناها ليست حيادا سلبيا، إنه بمعنى من المعاني حياد المشارك الذي يشتغل على إدارة المساحات التي يبتعد عنها الجميع حتى لو بدا أن مكاسبها بسيطة أو تحتاج إلى مزيد من الصبر والمثابرة. ولذلك فإن نتائج المدرسة السياسية العمانية تقاس بقدرتها على تجنيب المنطقة والإقليم والإنسانية المزيد من الكوارث، وفتح المزيد من الاحتمالات الأخرى البعيدة قدر الإمكان عن المآسي، ولا تقاس، حتما، بكثرة الضجيج الإعلامي.. وليس غريبا أن الكثير من جهودها غير ظاهرة أو مسكوت عنها، وهذا يحدث غالبا لأسباب تتعلق أيضا بمسارات نجاحها وجعلها بعيدة عن التجاذبات والمساومات السياسية.

ورغم أن سلطنة عُمان تنطلق في مدرستها السياسية هذه من قيم ومفاهيم أخلاقية تؤمن بها الدولة في عُمان منذ عقود طويلة إلا أن الأمر له بعد آخر لا يقل أهمية عن البعد الأخلاقي والقيمي وهو ما يمكن أن يسمى بـ«العقلانية السياسية» التي تتبنها عُمان. وبنيت هذه العقلانية نتيجة فهم طويل بالمنطقة، ومشاركة حقيقة في صناعة أحداثها وتأثيرها وتأثرها بمسار التفاعلات الحضارية والسياسية في الإقليم.

وفي الآونة الأخيرة حيث يزداد المشهد العربي والإقليم تعقيدا وتشابكا فإن الكثير من الأطراف العربية والعالمية تبحث عن الرأي العماني الصريح والصادق المنطلق من فهمها بديناميكيات المنطقة وقواعدها وثقافتها وأيضا التجاذبات السياسية التي تحيط بها.

ويثبت حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- للعالم، وفي كل المناسبات، صدق مسارات السياسة العماني وأخلاقها وثباتها وعقلانيتها. وأنه -أعزه الله- يعمل على تكريس نجاح هذه السياسة وتمكينها من أدواتها رغم التحديات الكبيرة التي تحيط بها نتيجة التحولات الكبرى المتلاحقة في العالم والإقليم.

وهذا النجاح لا ينعكس إيجابا على عُمان وحدها ولكن الجميع يحصل على مكاسبه من هذه المدرسة السياسية الفريدة التي تجمع بين المبادئ والأخلاق والقيم وحسن النوايا وبين الواقعية التي تقرأ المعطيات والممكنات بشكل دقيق وصادق.