قد يبدو هذا العنوان غريبًا على الأسماع؛ فالرائج والمتداول عبر نشرات الأخبار وعلى ألسنة القادة والزعماء في إسرائيل وأمريكا- بل في كل مكان- هو أن حماس هي سبب الصراع الدائر الآن في الأراضي الفلسطينية أو بالأحرى العدوان المتواصل الذي ترتكب فيه إسرائيل المجازر الوحشية؛ وذلك باعتبار أن حماس هي التي بدأت العدوان على الشعب الإسرائيلي المسالم المسكين في السابع من أكتوبر منذ سنتين! تلك هي السردية التي طالما روجت لها إسرائيل والولايات المتحدة، وكانت موضع تصديق واسع عبر العالم.

وعلى الرغم أن قطاعًا واسعًا من العالم- شعوبًا وحكوماتٍ- قد أصبح يدين إسرائيل؛ لأنها ترتكب مجازر وحشية وحرب إبادة ضد الفلسطينيين، حتى أصبحت إسرائيل في النهاية دولة شبه منبوذة عالميًّا-؛ فإن هناك شيئًا قد بقي من السردية، ولا يزال يلقى تصديقًا واسعًا عبر العالم، وهو القول بأن حماس هي بؤرة الصراع مع إسرائيل؛ ولذلك فإن إسرائيل تستهدف تصفية حماس. ذلك ما بقي من السردية الإسرائيلية، وهو ما نجح الصهاينة بامتياز في ترويجه في النهاية.

ولكن تلك المقولة التي لا تزال موضع تصديق لا ينبغي تصديقها حينما نتأمل الأمر في عمقه أو حقيقته المخفية عن الأذهان؛ وذلك للأسباب التي يمكن إجمالها فيما يلي:

-الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يبدأ (على يد حماس) في السابع من أكتوبر سنة 2023، بل هو يمتد عبر قرن من الزمان السابق على هذا التاريخ. وما حماس سوى شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية للعدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه، والتوسع الدائم لهذا الاحتلال من خلال إنشاء المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية.

-حماس ليست سوى شكل من أشكال المقاومة حتى في الوقت الراهن؛ لأن هناك بجانب حماس كتائب القسام وسرايا القدس. حقًّا إن حماس تظل الحركة الأكثر امتدادًا وتنظيمًا، والتي تنطوي على قيادات المقاومة الأكثر تأثيرًا والتي لذلك استهدفتها إسرائيل فضلًا عن أن حماس تمثل السلطة الحاكمة في قطاع غزة؛ وهذا كله هو ما يبرر تصديق القول بأن حماس هي بؤرة أو لب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الدائر الآن.

ولكن الحقيقة أن هذا القول غافل عن أن حماس لا يمكن أن تشكل أية قوة عسكرية في مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية التي هي قادرة على سحق حماس، وليس فقط التقليص التام لقدراتها العسكرية المحدودة، وهو ما حققته إسرائيل بالفعل.

ولكن حماس تظل تجسيدًا قويًّا لروح المقاومة الفلسطينية، وهي الروح التي ينبغي قتلها في الشعب الفلسطيني نفسه؛ تمهيدًا للاحتلال الكامل لأرض فلسطين، ومن ثم لتحقيق المشروع الصهيوني في مجمل منطقة الشرق الأوسط.

وعلى هذا فقد استهدفت إسرائيل الترويج للقول بأن حماس هي العدو المستهدف، وذلك من باب خلق العدو أو تجسيده في صورة ما؛ من أجل تبرير العدوان، وتلك سياسة إمبريالية معروفة عبر التاريخ (ويكفي مثالًا على ذلك السياسات الأمريكية في شيطنة العراق بزعم أنها دولة مارقة تمتلك تسليحًا نوويًّا تمهيدًا لغزو المنطقة، وكذلك دعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في أفغانستان؛ لمواجهة التمدد السوفيتي، وفي بعض بلدان المنطقة العربية؛ بهدف تغيير الأنظمة القائمة، أو كورقة للضغط على الأنظمة القائمة؛ بهدف ترويضها، أو تحقيق الانقلاب عليها، وفي ذلك يمكن أن يعتبر كل مُعتبِر)! -الشاهد على ذلك هو ما يجري بالفعل في الأراضي المحتلة؛ فلو كانت حماس هي لب ومناط الحرب على قطاع غزة في المقام الأول فلماذا يقتل جيش الاحتلال الأطفال والشيوخ والنساء والرجال والشباب من المدنيين، حتى في أثناء تهجيرهم من منازلهم، بل حتى في أثناء سعيهم للحصول على الطعام وفي أثناء لجوئهم للمستشفيات.

ولماذا يقوم بتدمير البيوت السكنية وتجريف الأراضي الزراعية، خاصةً الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون التي تمثل جزءًا من الهوية الفلسطينية؟ ذلك لب الأمر: القضاء على الشعب الفلسطيني نفسه؛ ليس فقط من خلال تقليص عدده بالقتل المتواصل والتجويع الدائم، وتهجيره، وإنما أيضًا من خلال السعي للقضاء على هويته؛ ذلك أن تجريف البشر والزرع والحجر لا يُبقي لمن تبقى من البشر وعيًّا بالهوية؛ إذ لا يصبح لهم مأوى يسكنون فيه، أو حتى حلم بالعودة إلى مأواهم الذي لم يعد له وجود على الأرض، وبذلك فإن وعيهم بمأواهم ومساكنهم وشوارعهم وأساليب حياتهم اليومية كل ذلك يصبح مجرد ذكريات مفقودة لا سبيل إلى العودة إليها أو تحقيقها مجددًا؛ ولهذا أقول دائمًا: إن من يفقد ذاكرته يفقد هويته، وذلك هو أحد الأهداف الأساسية لتحقيق المشروع الصهيوني المُعلن صراحةً.

مجمل المراد من كل ما ذكرت فيما سبق هو التأكيد على القول بأن حماس ليست هي لب العدوان الإسرائيلي على فلسطين، خاصةً على قطاع غزة، وإنما هي مجرد تكأة أو ذريعة تستخدمها سياسة حكومة الصهاينة في تبرير العدوان الإسرائيلي؛ تمهيدًا لتبرير المشروع الصهيوني في مجمله. فالحقيقة أن هذا القول ليس سوى أكذوبة من الأكاذيب العديدة التي تروج لها حكومة الصهاينة داخل المجتمع الإسرائيلي وخارجه.