يمكن الآن، وبعد مرور ثلاث سنوات على إطلاق برنامج «شات بي جي» التوليدي في أواخر عام 2022، وبعد وصول عدد مستخدميه إلى قرابة المليار شخص، أن نقول، كباحثين في الاتصال، إن تغييرا كبيرا في اقتصاديات الإنترنت يحدث الآن، ويؤثر سلبا على طريقة تصفح الملايين من البشر للإنترنت ومواقع الويب المنتجة للمحتوى، وهو ما يشكل في النهاية تهديدا كبيرا للشبكة العالمية التي تقوم على توظيف حركة المرور على هذه المواقع للحصول على عائدات إعلانية. ويفتح هذا التغير الباب واسعا أمام تزايد المخاوف المشروعة التي عبر عنها البعض من أن يؤدي نمو تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى موت حركة النشر على الشبكة، ومن ثم موت الإنترنت كما عرفها العالم لسنوات طويلة.
من المؤكد أن ظهور وانتشار الذكاء الاصطناعي وتزايد استخدامه بدأ في تغيير طريقة تصفح الناس للإنترنت، إذ أصبح قطاع كبير من المستخدمين يفضل طرح أسئلتهم واستفساراتهم على روبوتات الدردشة بدلًا من البحث عن المواقع عبر محركات البحث التقليدية، ويحصلون من هذه الروبوتات على إجابات ومعلومات تغنيهم عن الذهاب إلى المواقع واستخدام الروابط التفاعلية للوصول إليها. وتشير الدراسات الأولية في هذا الجانب إلى أن مواقع منتجي وناشري المحتوى على «الويب» كالمنصات الإخبارية، والمنتديات الإلكترونية، ومواقع التحرير المشترك المرجعية مثل «ويكيبيديا»، تشهد انخفاضًا مثيرا للقلق في زيارات المستخدمين التي كانت الدجاجة التي تبيض ذهبا من خلال نشر الإعلانات الإلكترونية عليها. هذا التطور السريع، الذي لم يخطر على بال أحد قبل سنوات قليلة، أنتج ما يشبه «الفوبيا» الخوف الشديد أو المفرط أو غير العقلاني والتوجس المبالغ فيه من الذكاء الاصطناعي خاصة لدي مؤسسات الإعلام وصناع المحتوى.
الواقع أن هذه المخاوف تبدو مشروعة، خاصة إذا علمنا أن مواقع بعض الصحف والمجلات الشهيرة في العالم تشهد تراجعا كبيرا في عدد الزيارات، نتيجة عمليات السرقة التي تقوم بها شركات الذكاء الاصطناعي للمحتوى الذي تقدمه، وعزوف المستخدمين عن استخدام الروابط التي تظهر في إجابات أسئلة المستخدمين. وعلى هذا الأساس فإن الذكاء الاصطناعي أصبح يعوق بالفعل حركة المرور على معظم مواقع المحتوى، ويحرمها بالتالي من الحصول على عائدات مجزية من شركات محركات البحث مثل «جوجل» وشركات الإعلانات.
وقد تفاقمت معاناة هذه المواقع مع قيام «جوجل» التي تسيطر على حوالي 90 بالمائة من سوق البحث التقليدي على الويب، بإضافة ميزات الذكاء الاصطناعي إلى محرك البحث الخاص بها، وإطلاق نسخة من محركها تشبه روبوتات الدردشة. في البداية أطلقت «جوجل» روبوت الدردشة التوليدي الرسمي لها باسم «بارد» في عام 2023، ثم أعادت تسميته إلى «جيميني» في العام الماضي بعد دمجه من نماذج الذكاء الأحدث لديها. ويمكن لهذا الروبوت كتابة النصوص والترجمة والتلخيص وتوليد الرموز والإجابة عن الأسئلة البحثية. وقدمت منه نسخة مدفوعة باسم «جيميني ادفنسد» تستخدم نموذج أكبر وأقوى يمكنه تحليل البيانات الضخمة والمستندات الكبيرة، ويتكامل مع منتجاتها الرقمية الأخرى المهمة والتي لا غنى عنها، مثل «الجيميل، والدرايف»، والوثائق، والشرائح». ومن شأن هذا التحول أن يمكن «جوجل» من السيطرة على سوق برامج الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب، خاصة وأن دمج كل هذه الخدمات مع الذكاء الاصطناعي قد يصرف الناس عن زيارة المواقع التي تُجمع منها المعلومات.
كان من الطبيعي أن تدفع هذه التغيرات منتجي المحتوى إلى البحث عن طرق جديدة للحصول على العائدات، غير أنها لم تجد أمامها سوى الدخول في مفاوضات شاقة ومجهدة مع شركات الذكاء الاصطناعي للحصول على حصة من عائدات هذه الشركات مقابل المعلومات التي تنتزعها روبوتات الدردشة من مواقعهم. وسعيا إلى الحفاظ على تدفق الزيارات والإعلانات على المواقع والاستفادة من شركات الذكاء الاصطناعي تستخدم الشركات المنتجة للمحتوى مثل الصحف الكبرى استراتيجية وصفها البعض بـ «التودد والتقاضي» للوصول إلى اتفاقات ملزمة مع هذه الشركات. وعلى سبيل المثال فإن شركة «نيوز كوربريشن» المالكة لصحيفتي «وول ستريت جورنال» و«نيويورك بوست» الأمريكيتين وقعت اتفاقية شراكة مع شركة «أوبن إيه آي» المالكة لشات جي بي تي، في نفس الوقت الذي تقاضي فيه شركة ذكاء اصطناعي أخرى. وأبرمت صحيفة «نيويورك تايمز» صفقة مع شركة «أمازون في الوقت الذي تقاضي فيه «أوبن آيه آي»، وسمحت مجلة «الإيكونيميست» الشهيرة لشركة «جوجل» باستخدام مقالات مختارة منها لتغذية خدمات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها في مقابل مبلغ محدد.
في تقديري أن شركات الذكاء الاصطناعي ستكون أكثر استعدادًا للدفع مقابل الوصول المستمر إلى المعلومات والأخبار الموثوقة التي يوفرها صناع المحتوى الإعلامي والمعلوماتي. وتبدو الاتفاقات التي تمت حتى الآن، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول غرب أوروبا وأستراليا واليابان، جيدة ومجزية للمؤسسات الإعلامية الكبرى ويصل بعضها إلى عشرات الملايين من الدولارات سنويا، ولكن ماذا عن المؤسسات الأصغر ومؤسسات الإعلام في الدول النامية التي لا تستطيع حماية حقوقها، ولا تلتفت لها شركات الذكاء الاصطناعي؟ لقد أصبح من الضروري أن تقوم المؤسسات الإعلامية، خاصة الكبيرة منها، في هذه الدول بالضغط على شركات الذكاء الاصطناعي لمنعها من استخدام محتواها مجانا، وذلك من خلال استراتيجية التودد والتقاضي. صحيح ليس لدينا أرقام محددة لعدد مستخدمي خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الدول النامية، ولكن من المؤكد أن العدد، أيا كان، في تزايد مستمر، وهو ما يمنحنا الحق في مخاطبة هذه الشركات ومقاضاتها إذا لزم الأمر، لإجبارها على تخصيص جزء من أرباحها لدعم المؤسسات الإعلامية ومؤسسات صناعة المحتوى. لقد أصبحت الدردشة مع الروبوتات باللغة العربية، على سبيل المثال، ممكنة وميسرة في جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وتظهر نتائج هذه التطبيقات روابط لمواقع عربية كثيرة تم استخلاص المحتوى منها. هذه المواقع سواء كانت لمؤسسات إعلامية أو غير إعلامية من حقها أن تدافع عن محتواها وتطلب ثمنا عادلا له يدعم استمراريتها.
إن حل أزمة الإعلام العربي المالية تحديدا يبدأ بالبحث عن مصادر جديدة للدخل بعد أن تراجعت عائدات الإعلان، وتوقف أو كاد الدعم الحكومي لوسائل الإعلام، وأمامنا مصدر جديد يمكن بقليل من الجهد المطالبة به بالود أولا ثم بالتقاضي ثانيا أو بهما معا.
لقد تنبأ البعض بانتهاء عصر الصحافة بعد ظهور وانتشار الإنترنت، ثم انتهاء الإنترنت بظهور شبكات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الهواتف الذكية، إلا أن هذا لم يحدث في الواقع. وعلى المنوال نفسه يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي، وإن كان يُشكل تهديدا كبيرا للإنترنت ومواقع صناعة المحتوى، فإنه في الوقت نفسه قد يكون طوق النجاة لها وللمؤسسات الإعلامية بوجه عام إذا أحسن استغلاله وتوظيفه للحصول على مصادر جديدة للدخل، من خلال مشاركة عائدات شركات الذكاء الاصطناعي مع صناع المحتوى.
في ظل هذه التطورات التي غيرت المشهد الاتصالي العالمي، تجعلنا نطالب المؤسسات الإعلامية العربية بأن تبادر دون إبطاء، ودون أن تنتظر طويلا كعادتها، لتأمين حصتها العادلة من اقتصاد الذكاء الاصطناعي.