حوار - فيصل بن سعيد العلوي

شهد الأدب العُماني في السنوات الأخيرة حضورا مميزا في المشهد الثقافي العربي والعالمي، حيث بدأت ترجماته تضعه على رفوف المكتبات الأجنبية وتقدمه لقراء لم تكن أسماؤهم مألوفة لديهم، ومن بين هذه الترجمات مؤمل أن تصدر قريبا رواية «دلشاد» للكاتبة العُمانية بشرى خلفان والتي تُقدَّم إلى القارئ الإنجليزي من خلال مترجمة خبرت التعامل مع الأدب العربي في تجلياته المتعددة، وراكمت خبرة في نقل الأصوات الهامشية والمغايرة إلى لغة عالمية... 

**media[3143298]**

في هذا الحوار نقترب من تجربة المترجمة البريطانية آليس غوثري وترجماتها... نستكشف كيف واجهت التحديات الفنية والثقافية في ترجمة نص قادم من بيئة خاصة، وكيف ترى دور الترجمة في إعادة تشكيل صورة المنطقة في المخيال الغربي، وفي حفظ الذاكرة الأدبية، وفي بناء جسور التفاهم بين الثقافات؟ ويضيء الحوار أيضا على علاقتها الشخصية بالترجمة، وطريقة اختيارها للنصوص، وما الذي يشغلها اليوم في مشهد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.. 

نبدأ من رواية «دلشاد» كيف وصلت؟ وما الذي جذبك لترجمتها تحديدا من بين الأعمال العُمانية؟

حين رُشّحت رواية «دلشاد» للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2022م، كنت قد قرأت مقطعا قصيرا منها بترجمة نانسي روبرتس إلى الإنجليزية، ويومها استوقفتني الرواية وأثارت فضولي، فاشتدّ شغفي لأن أقرأها كاملة بالعربية.

وفي أواخر ذلك العام، ساقتني الأقدار إلى زيارتي الأولى لسلطنة عُمان، حيث بدأت هناك مشروعي الآخر في تدوين مفصّل لتاريخ القبائل والعائلات في كتب شخصية عائلية خاصة ضمن إطار «سيرتنا»، وإذ بي أحرص فور وصولي إلى مسقط على اقتناء نسخة من «دلشاد»، وكان من حظي أن التقيت الكاتبة بشرى خلفان في تلك الرحلة الأولى، فخصّتني بكرم وقتها وفتحت أمامي أبواب عالمها، شارحة لي بإسهاب خلفيات عملها، لتكون تلك بداية مثالية للدخول في أجواء الرواية.

ما شدّني آنذاك هو إصرارها على البحث الدقيق وشغفها بموضوعها، وحين سنحت لي الفرصة لاحقا لقراءة الرواية كاملة، وقعت أسيرة لسحرها... أعجبتني نافذتها الفريدة على حقبة بالغة الأهمية من التاريخ العُماني، كما استوقفتني بشدة التعددية اللغوية والإثنية التي تجسّدها، وهو بُعد أراه ذا قيمة خاصة في عالم اليوم الممزق سياسيا، وأحببت شخصياتها الكثيفة والغريبة أحيانا، وكيف تتقاطع مصائرها وتتشابك.

لكن أكثر ما أسرني في «دلشاد» هو جسدية النص، ذلك الارتباط الوثيق بالجسد وبالتجربة الحسية الملموسة للحياة، وبخاصة مسألة الجوع والرغبات، وما تفعله بالإنسان من دفع إلى خيارات وأفعال.. كل هذا جعلني أوقن أنني أمام عمل خارق للعادة، وأن ترجمته إلى الإنجليزية ستكون إضافة رائعة للأدب العالمي.

ولا يفوتني هنا أن أتوجّه بخالص الشكر لوزارة الإعلام العُمانية، على دعمها الكريم لتمويل ترجمة هذا العمل، وهو دعمٌ ثمين يساهم في تيسير إنجاز هذا المشروع الثقافي المهم، ولا سيما بجهود معالي الدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام، الذي يُعد أحد أبرز الخبراء في مجال الترجمة، وكان حريصًا على أن يرى هذا المشروع النور.

**media[3143301]**

.. لكن كيف ترين أهمية ترجمة روايات من بيئات غير معروفة عالميا؟ وهل تعتقدين أن القارئ الغربي مستعد لتلقي هذا النوع من السرد؟

أعتقد أنه كلما استطعنا في الغرب أن نصغي إلى أصواتٍ لم يُتح لها أن تُسمع عالميا من قبل، كان ذلك أفضل، فثمة نزعة مهيمنة نحو تفوق البيض كما نعلم، وما من سبيل لمواجهة ذلك سوى بالانفتاح على تنوّع الثقافات، فالتنوع بركة جميلة وكلما احترمنا اختلافاتنا الإنسانية واقتربنا من الإصغاء لها، اقتربنا أكثر من تحقيق سلام حقيقي على هذه الأرض.

أما عن استعداد القارئ الغربي لتلقّي مثل هذا السرد، فثمة قراء شغوفون بالأدب القادم من أماكن مجهولة أو أقل حضورا في المشهد العالمي، ويتطلعون إلى قراءته مترجما، وربما لا يبلغ عدد هؤلاء القراء مئات الملايين (على الأقل ليس بعد)، لكنهم يكفون لكي تجد رواية مثل «دلشاد» مكانها المستحق على رف المكتبة العالمية الناطقة بالإنجليزية، وهو المكان الذي أؤمن أنها تنتمي إليه.

حين تبحرين في نص غني بالتعابير الثقافية المحلية والأصوات السردية المتعددة، ما طبيعة التحديات التي تواجهينها على المستويين اللغوي والتأويلي؟ وكيف تُدار الفجوة بين ما تنطوي عليه اللغة المصدر من دلالات مضمرة، وبين ما يتاح للقارئ في اللغة الهدف من إمكانات للفهم والتلقي؟

أستطيع القول إنني ما زلت أعيش في قلب التجربة ولم أبلغ نهايتها بعد، وبالتالي فأنا على يقين أن أمامي الكثير من التحديات المقبلة. لكن حتى الآن، أجد متعة في التوغل داخل الأصوات المتعددة التي تحتضنها الرواية؛ فهي نصّ متعدد الأصوات، ولكل راوٍ نبرة خاصة تميّزه، ففي المراحل المبكرة من الترجمة، أركّز على تطوير الأصوات الإنجليزية للأصوات المتنوعة العربية لكي أمنحه حضورا متماسكا ومقنعا.

أما على المستوى اللغوي العملي، فالرواية (دلشاد أعني) تعجّ بالمفردات البلوشية والتعابير الغنائية، إلى جانب كمٍّ من المفردات العُمانية الخاصة، فضلا عن أسماء أماكن وعائلات غير عربية.. كل ذلك يفرض عليّ أن أبحث وأتقصى عبر المصادر اللغوية المتاحة، والتي لحسن الحظ هناك منها الكثير القيّم، وإن استعصى الأمر فإنني ألجأ دوما إلى الكاتبة نفسها كما أفعل عادة مع كل مؤلف حي أترجم له.

لكنّ التحدي الأكبر في رأيي لا يكمن فقط في المفردات الغريبة أو الواضحة الدلالة التي تستدعي بحثا فيما أسميه «الأفخاخ الخفية»: الكلمات التي نظن أننا نعرف معناها، بينما تحمل في السياق الثقافي دلالات أخرى قد تفلت من المترجم المستعجل، وهذه هي المناطق الزلقة التي قد يقع فيها من لا يقرأ النص بوعي شديد، لذلك أضع لنفسي مهمة أساسية هي الانتباه اليقظ لتلك الطبقات المضمرة، ومحاولة الإمساك بها قبل أن تتسرّب من بين السطور.

أما عن مسألة نقل الدلالات أو الإشارات المحلية إلى القارئ الإنجليزي، فذلك في نظري هو الجزء الممتع حقا من العملية فهو ميدان الإبداع الذي أجد فيه نفسي، حيث أستطيع أن أُعمل ذهني وأطلق مهارتي.

نعم، هو أمر شاق بطبيعة الحال، لكنني أؤمن أن كل شيء ممكن إذا امتلك المترجم قدرة على القراءة العميقة للنص، وحسا رفيعا بالكتابة في اللغة الهدف، إضافة إلى محرر كفء يرافقه في المراحل الأخيرة ... فالكثير يمكن أن يتغير في مرحلة التهذيب النهائي للعمل، بعد أن تكون المعاني قد ترسّخت في ذهن المترجم.

وهنا تكمن فرحتي بالعمل مع ناشر راسخ مثل دار نشر جامعة جورجتاون في واشنطن، لما أعرفه عن صرامة معاييرهم التحريرية وجودتها؛ فالأمر يختلف تماما عن التعامل مع دور نشر صغيرة أو حديثة التأسيس لم تُختبر في هذا المجال. أنا على ثقة أن عملي سيزداد صقلا وقوة في مرحلة التحرير، وأطمئن أن هذا الكتاب الاستثنائي، بين جهدي وجهد الدار، سيكون في أيدٍ أمينة.

في سياق ترجمة أعمال عُمانية أخرى.. هل ترين أن الحكايات المحلية الخاصة تمتلك القدرة على أن تكون بؤرًا سردية صالحة للترجمة والانفتاح على الآخر؟

نعم، أشعر بإلهام كبير يدفعني إلى التعمّق أكثر في التاريخ والثقافة العُمانية، وترجمة السرديات العُمانية تمنحني طريقا جميلا للقيام بذلك، لفتتني على وجه الخصوص القصص العُمانية المرتبطة بالقرن العشرين، سواء تلك التي نجدها في الروايات بوصفها أعمالا تخييلية، أو تلك الحكايات الواقعية التي أسمعها ضمن عملي الآخر في تدوين السير العائلية الخاصة (مشروعي الآخر الذي يحمل اسم سيرتنا).. فإذا ما أتيحت لي رواية مناسبة بعد إتمام «دلشاد» وبعد إنجاز الترجمتين القادمتين المدرجتين في برنامجي (إحداهما لكتاب سوري والأخرى لكتاب فلسطيني)، فسأكون متحمّسة للشروع فيها، غير أن ذلك سيستغرق بضع سنوات بعد.

أما على نحو أكيد، فسأواصل عملي في مشروعي (سالف الذكر)، وهو عمل أجد فيه متعة وفائدة بالغة، إذ يعلّمني الكثير، ويتيح لي المساهمة في صون التراث الثقافي العُماني الفريد من خلال حفظ الحكايات العائلية قبل أن تُطوى في النسيان، وهذا جانب أشعر بحماسة كبيرة لمواصلته.

... وهل تعتقدين أن الترجمة يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل صورة المنطقة في المخيال الغربي؟

إذا كان السؤال يتعلّق بالترجمة الأدبية تحديدا، فالإجابة ـ يا للأسف ـ أنها لا تملك إلا أثرا محدودا، إذ يظلّ فعل القراءة الأدبية لا يزال نشاطًا تمارسه أقلية محدودة من المهتمين. فالروايات، مهما بلغت من شهرة، لا تصل إلى جمهور واسع بالقدر الذي تفعله أعمال بصرية جماهيرية مثل مسلسل على «نتفليكس»، أو أغنية شهيرة، أو مقطع قصير ينتشر على «إنستجرام».

ولعلّ مثال فلسطين أوضح شاهد على ذلك: التحوّل الملحوظ الذي نشهده اليوم في الرأي العام الغربي باتجاه تضامن واسع مع فلسطين، والغضب إزاء الإبادة المستمرة، لم يكن ـ برأيي ـ نتيجة مباشرة لترجمة الأدب الفلسطيني، بقدر ما كان ثمرة تأثيرات ثقافية أخرى، مثل الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي، أو أصوات فنية وأدبية عالمية نافذة «في السياق البريطاني والإيرلندي، مثل فرقة Kneecap الموسيقية أو الكاتبة سالي روني، على سبيل المثال» ومع ذلك، تبقى الترجمة مهمة من أجل الفن، ومن أجل الأرشيف العالمي.

ما الذي يدفعكِ لاختيار نصوص تُعنى بالأصوات المهمشة أو المُقصاة؟

ثمة منابر عديدة متاحة لما هو مألوف ومكرّس ويُنظر إليه بوصفه «عادي»، لكن الأصوات المهمشة إن لم نجد من يقدّم لها الميكروفون فلن تُسمع أبدا، وأنا أؤمن أن الإصغاء إلى المختلف والجديد يفتح لنا أفقا للتعلّم والتعرّف على بعضنا البعض في اختلافاتنا المتعددة، وهو أمر جوهري لبناء التفاهم الإنساني... ثم إنني، كامرأة بيضاء تنتمي إلى «الشمال العالمي»، وُلدت في بيئة تحمل امتيازات لم أخترها، لكنني أشعر أنها تضع عليّ مسؤولية أخلاقية لمساندة من لم تُتح لهم فرص مماثلة.

كمترجمة نشطة في ترجمات تحمل طابعا إنسانيا ونضاليا، كيف تتقاطع اهتماماتك الشخصية مع اختياراتك الأدبية؟

أحاول أن أحرص على أن تكون النصوص التي أترجمها منسجمة مع قيمي الأخلاقية والسياسية، فلا أقترب من عمل أراه مريبا أو يتعارض مع ما أؤمن به.

صحيح أن بعض مشاريعي تنطلق من دافع نضالي مباشر أو من التزام سياسي واضح، لكن ليس كل اختياراتي الأدبية محكومة بهذا البعد وحده، فأحيانا أترجم نصا لمجرد أنه مكتوب بجمال استثنائي أو لأنه يفتح أمامي تحديات لغوية مثيرة، وبطبيعة الحال، ميولي تنحاز أكثر نحو الأعمال التي تلتقي مع موقفي الأخلاقي، وعلى سبيل المثال تلك التي ترفد قضية فلسطين وتدعم حريتها أو تلك التي تمثل الشعب السوري الحر الذي أطاح بالنظام السابق.. لكن هذا لا يلغي انحيازي الجمالي للنصوص ذات البنية اللغوية البديعة والأسلوب الأخّاذ، إذ أحب الفن من أجل الفن.

وهل يمكن النظر إلى الترجمة إلى أنها عمل سياسي؟ وكيف أثرت تجربتكِ مع الأدب العربي على وعيكِ الثقافي والسياسي؟

نعم، بالتأكيد... الترجمة عمل سياسي، أما عن تجربتي الشخصية، فأظن أن الأمر يجري على العكس: وعيي الثقافي والسياسي هو الذي دفعني لتعلّم العربية أولا، ومن هناك انفتحت أمامي أبواب قراءة الأدب العربي وترجمته، لقد كان الدافع الأصيل سياسيا وثقافيا، ثم تحوّل إلى ممارسة أدبية.

ما موقفكِ من مسألة «أمانة» الترجمة مقابل «حرية» المترجم؟

أرى أن المسألة الأهم من كل ذلك هي جودة الترجمة، فالترجمة الجيدة تتطلب قدرا كبيرا من التواضع؛ إذ يعاني حقل الترجمة من العربية إلى الإنجليزية من مشكلة متكررة، تتمثل في أن كثيرا من المترجمين لا يعترفون حين يعجزون عن فهم مقطع أو دلالة معينة، ولا يجدون في المقابل دعما تحريريا قويا من دور النشر، وهذا المزيج من غياب التواضع وقلة البحوث من قبل المترجم وقلة المراجعة التحريرية من قبل الناشر يؤدي في النهاية إلى إشكالات خطيرة في جودة الترجمة.

... وهل تجدين في عملك مساحة لإعادة تشكيل النص الأصلي؟

لا أتعمد أبدا السعي إلى ذلك، فمهمتي ليست إعادة كتابة النص الأصلي أو تشكيله من جديد. لكن، ما يحدث أحيانا أن قراءتي الدقيقة للنص الأصلي تدفعني إلى الدخول في حوار مع الكاتب نفسه، وهو حوار قد يُلهمهم إدخال تعديلات على نصهم الأصلي، فالترجمة تتطلب مستوى من الانتباه والقراءة المتفحصة قد لا يحظى به النص الأصلي من قبل أي شخص بنفس الدقة التي نقرأه بها نحن المترجمين، لذا فإن بعض الاقتراحات التحريرية هي نتيجة طبيعية لهذه القراءة الدقيقة.

كيف تتعاملين مع الفجوات الثقافية أو المساحات «غير القابلة للترجمة»؟

أؤمن أن ما يُسمّى بالـ«غير قابل للترجمة» نادر جدا؛ فبشيء من الإصرار والتفكير الخلّاق غالبا ما نجد حلا مناسبا، أما الهوامش والحواشي فهي أدوات مقبولة في النصوص الأكاديمية، لكنها غير واردة في النصوص الأدبية بالإنجليزية، إذ يتعيّن أن يحتوي النص نفسه على كل ما يحتاجه القارئ لفهمه... أستمتع بابتكار هذه الحلول داخل المتن، ما دام ذلك لا يبدو مصطنعا أو مفتعلا.

وفي الوقت ذاته، هناك بعض الكلمات التي من الأفضل أن تبقى بالعربية داخل النص الإنجليزي ـ قليل منها، طبعا، لكن لها دورها.. شخصيا أستمتع بوجود معجم أو ملحق في نهاية الكتاب، كما فعلت في كتابي المغربي Blood Feast ، حيث أعددت مسردا مفصلا لمساعدة القارئ، ومع ذلك، أعلم أن بعض القراء لا يطيقون المعاجم ويعتبرونها أمرا مزعجا، أو حتى يرونها مسيئة سياسيا لما قد توحي به من وجوب شرح كل شيء.. أرى أن الأمر مسألة ذوق وخيار جمالي قبل أي شيء آخر.

في ظل تركيزكِ على العدالة اللغوية، كيف تقرئين واقع الترجمة من العربية إلى الإنجليزية؟

يا للأسف، واقع الترجمة الأدبية من العربية إلى الإنجليزية لا يزال هشّا ومخيّبا للآمال في كثير من جوانبه. فعدد الأعمال التي تُنقل إلى الإنجليزية محدود للغاية، وحتى بين هذا العدد القليل نجد أن نسبة غير قليلة من الترجمات تأتي ضعيفة، مليئة بالأخطاء، وتفتقر إلى التحرير الجاد والدقيق الذي يمنح النص المترجم حياة تليق به.

آمل بصدق أن يتغيّر هذا الواقع في حياتي، وأن نشهد نقلة نوعية في جودة الترجمات من العربية. لكن الأمر ليس أمنية فحسب، بل يحتاج إلى استثمار وتمويل حقيقي في هذا القطاع: دعم مؤسساتي، وتوفير مناح وبرامج تدريبية للمترجمين، والالتزام بدعم التحرير الثنائي اللغة من قبل دور النشر الغربية. عندها فقط يمكن أن نرى ترجمة عربية-إنجليزية تليق بما يكتبه المبدعون في عالمنا العربي.

وهل ترين في المشهد العالمي انحيازا نحو ثقافات معينة على حساب أخرى؟

في حقل الترجمة الأدبية هناك بلا شك انحياز نحو بعض المشاهد الثقافية التي تُعد أكثر «الموضة» أو أكثر جاذبية عالميا من غيرها، ويكفي أن نأخذ الأدب الياباني مثالا؛ فهو يعيش اليوم ما يمكن تسميته بـالموضة الثقافية، وهي مكانة لم يصلها الأدب العربي بعد.

هذا التميّز الياباني لا يعود فقط إلى الشعبية العالمية لثقافتهم في مجالات مثل الطعام والسينما، بل إلى حقيقة أن كتبهم تُكتب وتُحرّر وتُنتج بجودة عالية جدا.. فالأهم من ذلك أنّ الترجمات من اليابانية مدعومة بشكل كبير من مؤسسات ثقافية كبرى استثمرت على مدى عقود في تصدير أدبها إلى اللغات العالمية، وهو ما أثمر حضورا لافتا في المشهد الأدبي العالمي.

أما الأدب العربي، فلا يزال يفتقر إلى مثل هذا الدعم المؤسسي الكبير، مما يجعله أقل انتشارا رغم غنى مضمونه وتنوّع بيئاته... لكن ثمة أملا أن نشهد مبادرات مشابهة قريبا تفتح للأدب العربي أبوابا أوسع نحو العالمية.

هل تشعرين بأن الترجمة من العربية اليوم باتت أكثر جذبا للناشرين الغربيين؟ أم أن التحديات لا تزال قائمة؟

الحالتان صحيحتان معا: لا شك أن الأدب العربي صار أكثر حضورا وجاذبية للناشرين الغربيين اليوم، لكن التحديات ما زالت قائمة أيضا، سواء فيما يتعلق بانتقاء النصوص وترجمتها أو بالدعم التحريري أو بالقدرة على الوصول إلى جمهور واسع.

كيف تصفين تجربتك كمترجمة ومحررة تعملين بين ثقافتين، إحداهما تحاول أن تُفهم، والأخرى تسعى للفهم؟

لا أميل إلى النظر إلى ثقافتين وكأنها كيانات صلبة متقابلة تتحاور فيما بينها كما قد يوحي السؤال؛ فداخل كل ثقافة تتعدد الأصوات وتتشابك الاختلافات، هناك تنوعٌ هائلٌ ـ بل إن التنوع قد يكون داخل المدينة الواحدة أو حتى بين أفراد المجتمع نفسه. وفي المقابل، أجد أن هناك قواسم إنسانية كبرى تتجاوز الحدود: ما يشغل البشر في جوهر حياتهم، وما يعتريهم من مشاعر وآمال، هو في الغالب مشترك عالمي.. لذا، لا أجد معنىً لفكرة «ثقافتين».

صحيح أن هناك تفاصيل لا نجدها إلا في سياق محدد ـ رائحة البخور والعطور في هواء مسقط مثلا، والتي تغيب تماما عن مدينتي في إنجلترا ـ لكن الاختلافات الكبرى بين البشر أقل مما يُظن، فيما التنوع الداخلي ضمن أي ثقافة قد يكون أوسع مما نتصور.

فالأشياء الكبيرة حقًا، الأشياء التي يهتم بها البشر أكثر من غيرها، تبدو لي أنها هي نفسها في كل مكان، والاختلافات الأصغر في كيفية تفكير الأفراد أو عيشهم تبدو لي متنوعة للغاية بين الأفراد داخل أي مكان، بغض النظر عن ثقافتهم المفترضة.

من هنا، لا أرى نفسي أعمل «بين ثقافتين» بقدر ما أعتبر نفسي لاعبة في الفريق العالمي أو جزءا من جهد إنساني أشمل، هدفه أن نتعرّف على ذواتنا وعلى بعضنا بعضا بصورة أعمق، إن لم يكن هذا ادعاءً مبالغًا فيه! هذا ما أطمح إليه بالتأكيد: أن يساعدنا أن نتعلم كيف نحب أنفسنا ونقبل بعضنا البعض ونقبل اختلافاتنا. وربما أجد في قول الله تعالى مرجعية بليغة لهذا المعنى: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».

إلى أي حد يمكن للترجمة، خصوصا حين تنطلق من نصوص قادمة من التهميش أو الجرح، أن تكون أداةً مقاومة ثقافية وبناء خطاب بديل؟

أعتقد أن الطريقة الأهم التي تخدم الترجمة كأداة للمقاومة الثقافية لا تكمن، في الواقع، في الترجمة الأدبية، بل في الترجمة الإعلامية عالية الجودة.. فمن بين أكثر الأعمال التي أعتز بها في هذا السياق ترجمتي للخطاب الذي تم تهريبه من سجن عدرا للناشط والمعتقل السياسي السوري مازن درويش عام 2014، الذي نُشر في صحيفة الجارديان وغيرها من الجرائد والمواقع العالمية، وقد شكّل نداء إنسانيا صارخا من داخل مأساة سوريا، يسعى إلى إيقاظ ضمير العالم، كما كان شرف العمل على القسم السوري من مشروع المتحف الأمريكي للهولوكوست بعنوان «من فضلكم، لا تنسوا سوريا»، ما كان له أهمية كبيرة من حيث قيام مؤسسة الهولوكوست الأمريكية بتسمية ما كان يحدث في سوريا تحت حكم النظام السوري السابق بالهولوكوست.

... وهل يمكن للترجمة أن تكون جسرا للعلاج أو إعادة السرد للهوية؟

أتمنى ذلك! بطبيعة الحال، الموضوع حساس، لأن هناك دائما من يخشى من «الأفكار الوافدة» التي يُنظر إليها على أنها تهدد ما يعتبرونه التقاليد الراسخة. نرى هذا اليوم مثلا في بريطانيا، حيث غذّت بعض وسائل الإعلام خطابا ساما ضد اللاجئين، فأنتجت حالة خوف من الإسلام. وبالطريقة نفسها، تُقدَّم أحيانا قضايا التنوع الجندري وكأنها «صادرات غربية»، بدل أن تُفهم باعتبارها جزءا أصيلا من التجربة الإنسانية الكونية.

غالبا ما توصف الترجمة بأنها «جسر»، لكنني أحببت كثيرا اقتراحك أن تكون جسرا للعلاج تحديدا! أعتقد أن أي شخص واعٍ في عام 2025 يسعى للإسهام في شفاء عالمنا الممزق، فإذا كان عمل المترجمين يفتح الطريق نحو هذا الشفاء عبر إعادة سرد الهويات وإتاحة التلاقي، فأنا سعيدة بالاستمرار في هذا الدور.

أخيرا.. ما النص أو التجربة التي شكّلت منعطفا في مسيرتك المهنية كمترجمة؟

اللحظة الفارقة كانت في عام 2008، حين نُشرت أولى ترجماتي، كانت قصة قصيرة للكاتب الفلسطيني علاء حليحل، ظهرت ضمن أنطولوجيا عن القصص الحضرية في الشرق الأوسط... أن أرى عملي مطبوعا بعد كل ذلك الجهد الخفي في تفاصيل اللغة واستيعاب القصة كان أمرا استثنائيا، ومحطة لا تُنسى في مسيرتي المهنية.

**media[3143300]**