ترجمة: أحمد بن عبدالله الكلباني 

حمل الخطاب الذي قدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر الحالي ملمحا واضحا عن مدى التناقضات الأساسية لديه، وهذه التناقضات تعصف في الوقت الحالي بالسياسة الخارجية الأمريكية، وقد شملت تلك التناقضات ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تتبع نهجا أكثر قومية. 

لذلك نجد أن منتقدي دونالد ترامب يقومون بالتركيز على أسلوبه المبالغ في الحديث عن الأمور السياسية، كما يركزون على أخطائه فيما يتعلق بالجانب الدبلوماسي، لذلك ينبع سؤال جوهري حول هذا المشهد، هل أداء دونالد ترامب انعكاس لمحاولة إعادة تنظيم استراتيجي واقعي، أم هو مشهد لمسرحية لإخفاء الهفوات السياسية الأمريكية؟! 

لقد انتقد دونالد ترامب الأممَ المتحدةَ، وقال: إنها كيان سياسي غير فعال، ولا يصدر منها إلا ما وصفه بـ «الكلام الفارغ» وكذلك «الرسائل شديدة اللهجة»، وهذا الكلام يعكس مدى الشعور المحبط الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية في ظل القيود التي تضغط عليها من مؤسسة متعددة الأطراف، كذلك يكشف انتقاد ترامب للأمم المتحدة عن مدى التناقض في صميم نهجه في السياسة الخارجية. 

إذا سلمنا بكلام دونالد ترامب، بأن الأمم المتحدة عديمة الفائدة، إذن لماذا تضيع دولنا رأس مالها الدبلوماسي الثمين في محاولة معالجة القضايا المطروحة على طاولتها؟ 

مجرد أن يقوم دونالد ترامب بتوجيه انتقاد وتوبيخ طويل للجمعية العامة للأمم المتحدة يعني أن أمريكا ما زالت تطمح بأن تكون سياساتها شرعية وتتم الموافقة عليها من المؤسسات الدولية. 

ومما أثار دونالد ترامب أن الجمعية العامة للأمم المتحدة لم تعترف بإنجازه فيما يتعلق بـ «إنهاء سبعة حروب»، وهذا هو مثار شكوى ترامب ضد الأمم المتحدة، ولتلك الشكوى دلالة بالغة، إذ تكشف إدارة تستحقر الرأي العام الدولي وتحط من شأنه، وفي الوقت ذاته تسعى إدارة ترامب جاهدة لكي تحصل على تأييد تلك المؤسسات الدولية التي هاجمتها ورفضت موقفها، وهذا السلوك المتناقض لا يجب أن يمثل قوى كبرى من المفترض أن تكون واثقة من نفسها وتعمل من منطلق «قوتها». 

وقد ألقى دونالد ترامب محاضرة طويلة تتعلق بسياسات الهجرة في الدول الأوروبية، وقال لزعماء العالم: «إن بلدانكم سوف تذهب إلى الجحيم»، وهذا الكلام إنما يعكس لسان حاله ومخاوفه الديموغرافية التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي، وهذا النهج إنما يسيء فهم طبيعة الهجرة بشكل أساسي ومعناها، فالهجرة إنما هي استجابة معقدة لما يعانيه الناس من ضغوط اقتصادية وسياسية ومناخية لا يمكن أن تُحل داخل حدود الدولة الواحدة. 

ومن المهم الإشارة إلى أن خطاب دونالد ترامب حول الهجرة يهدم قوة أمريكا الناعمة، وهي أحوج إلى أن تحافظ على نفوذها في عالم متعدد الأقطاب، فمجرد أن يقوم دونالد ترامب بتصوير بلاده بأنها معارضة لحريات الناس في الانتقال، فذلك يعني أن الشركاء المحتملين للولايات المتحدة سوف ينفرون منها، ويعكس أن البلاد سوف تعيش عزلة. 

كذلك قام دونالد ترامب برفض ادعاءات «تغير المناخ»، واعتبرها «أكبر عملية احتيال تم ارتكابها في العالم بشكل مطلق»، صحيح أن هذا الادعاء قد يزيد من شعبية ترامب داخليا، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر خطأ استراتيجيا كبيرا، فتغير المناخ إلى جانب كونه قضية بيئية، فهو بشكل أساسي تحدٍ للأمن القومي، ومن شأنه أن يغير شكل التحالفات الجيوسياسية، وكذلك يغير شكل الصراعات بين الدول، إلى جانب كونها قضية تحدد ما هي الدول التي سوف تزدهر في العقود القادمة؟ 

إن تنازل دونالد ترامب عن زمام قيادة السياسة المناخية، وتركها للصين والاتحاد الأوروبي، يعني أنه يُسلم بشكل فعلي نفوذ بلاده فيما يتعلق بقضايا حاسمة في هذا القرن، ويمكنني القول: هذه ليست أمريكا أولا، بل هي أمريكا بالآخر. 

ربما كان الأكثر وضوحًا في خطاب ترامب هو تناوله للصراعات المستمرة في أوكرانيا وغزة. 

فإقراره بأن إنهاء هذه الحروب كان أصعب مما توقع، ألقى الضوء -عن غير قصد- على حدود نهجه القائم على الصفقات في العلاقات الدولية، فالنزاعات الجيوسياسية المعقدة لا يمكن حلها بمجرد العلاقات الشخصية أو المهارة في عقد الصفقات. 

وقد انتقد ترامب شراء الأوروبيين للطاقة من روسيا، بينما طالبهم في الوقت نفسه بتحمل مسؤولية أكبر عن أمنهم، وهو ما يضع الحلفاء الأوروبيين في مأزق مستحيل، هذا النهج قد يدفع الشركاء الأوروبيين إلى البحث عن استقلال استراتيجي أكبر، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إضعاف النفوذ الأمريكي في المنطقة. 

الذي برز بوضوح من خطاب ترامب في الأمم المتحدة لم يكن قوة أمريكا، بل ارتباكها تجاه دورها في العالم. 

فالخطاب تقلب بين نزعة انعزالية ونزعة تدخلية، بين المطالبة بتقاسم الأعباء مع الحلفاء وانتقاد استقلاليتهم، بين استحقار المؤسسات الدولية ومحاولة الحصول على اعترافات منها بشأن نهجه. 

هذا التناقض يعكس تحديًا أعمق يواجه السياسة الخارجية الأمريكية، وهو أن البلاد لم تطور بعد استراتيجية كبرى مستدامة للعالم «ما بعد الأحادية القطبية»، صحيح أن قومية ترامب تقدم نقدًا للتوافق الليبرالي الدولي، لكنها تفشل في تقديم إطار بديل متماسك لانخراط أمريكا مع العالم. 

على المدى القصير، قد يرضي أداء ترامب في الأمم المتحدة قاعدته السياسية الداخلية ويمنح انطباعًا بقيادة قوية، لكنه من الناحية الاستراتيجية والدولية يمثل فرصة ضائعة لصياغة إطار جديد للانخراط الدولي يحظى بدعم محلي واحترام عالمي في آن واحد. 

والصمت الذي قوبلت به كلمات ترامب، مقابل الضحكات التي رافقت خطابه الأول في الأمم المتحدة، يوحي بأن العالم تجاوز مرحلة الصدمة أو السخرية من تخبط الدبلوماسية الأمريكية، وبدلًا من ذلك، راحت قوى أخرى تبني مؤسسات وشراكات بديلة ستؤدي تدريجيًا إلى تآكل المركزية الأمريكية في الشؤون العالمية. 

وعليه، فإن خطاب ترامب في الأمم المتحدة يشكل مجازًا للتحدي الأوسع الذي تواجهه السياسة الخارجية الأمريكية، وأصبحت بلدًا يتصرف وكأنه ما زال في موقع الهيمنة المطلقة، بينما تتآكل هذه الهيمنة، وإلى أن يطور القادة الأمريكيون رؤية أكثر واقعية لقدرات بلادهم وحدودها، ستستمر مثل هذه العروض الاستعراضية في أن تكون بديلًا عن التفكير الاستراتيجي الحقيقي والمنطقي. 

ولعل السلم الكهربائي المعطل، وجهاز «التليبرومبتر» –الذي يعرض النص في شاشة مدمجة بالكاميرا للقراءة منها أثناء التصوير- الذي اشتكى ترامب من تعطلهما، كانا أكثر رمزية مما أدرك هو نفسه، إذ يشكلان استعارة عن جهاز السياسة الخارجية الأمريكية الذي يعاني صعوبة في العمل بكفاءة في عالم يتغير بسرعة. 

 ليون هادار محلل للشؤون العالمية وصحفي وباحث في معهد كاتو 

 عن آسيا تايمز