(1)
أتصور أن صدور هذه الطبعة الجديدة من الديوان الكامل لإمام الحداثة الشعرية في العصر العباسي الشاعر الكبير أبي تمام (وشرحه للعالم واللغوي الخطيب التبريزي) أتصور أنها مناسبة مهمة تستحق الاحتفاء والاهتمام. نحن بإزاء مصدر أصيل من مصادر الشعر العربي في أزهى عصوره وأرقاها؛ وأحد المجموعات الشعرية الكاملة مستوفاة النص والخط والشرح، ومحققة وفق أرقى أساليب التحقيق والنشر العلمي الموثق للتراث العربي، وثانيا تأتي هذه الطبعة في إطار بعث كنوز ونوادر سلسلة «ذخائر العرب» العريقة التي يمتد عمرها إلى ثلاثة أرباع القرن!
«ذخائر العرب» هي السلسلة التي تصدرها دار المعارف في مصر، منذ أربعينيات القرن الماضي، وهي أهم ما تم إصداره عربيا من سلاسل مختصة بنشر التراث العربي نشرا راقيا قائما على أسس علمية بالغة الدقة والعمق‏،‏ وهي بإجماع المتخصصين وكبار محققي التراث "أرقى وأعظم سلسلة تراثية عربية ظهرت حتى الآن"، واتبع في إخراجها أرفع ما وصل إليه علم تحقيق التراث على يد شيوخه الأفذاذ العظام، و"تولت دار المعارف بمصر إخراج كتب السلسلة في قطع متميز وطباعة فاخرة وجودة لا تنافس"، كما كان يشار إلى صنيع الدار في ذلك الوقت على أغلفة الكتب والمجلات في ذلك الزمان. والبقية تأتي بمشيئة الله..
(2)
من أجلّ وأعظم ما أخرجته سلسلة (ذخائر العرب) من نفائس التراث الشعري العربي، تلك المجموعة من الدواوين الكاملة لأعلام الشعر العربي عبر عصوره أو شروحات لدواوين فحول الشعراء في منذ الجاهلية وحتى نهاية القرن الخامس الهجري، منها: «الأصمعيات» و«المفضليات» و«مختارات ابن الشجري» وهي المجموعات الثلاث الأكثر أصالة وثبوتا وتحققا من قصائد الشعر الجاهلي. ومنها «ديوان امرئ القيس» كاملا بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، و«شرح ديوان صريع الغواني»، و«ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب»، «ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني»، و«ديوان البحتري» في 5 مجلدات بتحقيق محمد كامل الصيرفي، بالإضافة إلى «شرح ديوان المتنبي» المنسوب إلى أبي العلاء المعروف والمشهور بـ «معجز أحمد».. وغير ذلك من عيون الشعر العربي وشروحاته الثمينة..
«ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي»؛ واحد من عيون دواوين الشعر العربي في العصر العباسي لرائد تيار الحداثة الشعرية العباسية. وهو يحتوي على نصين أو كتابين كاملين معا؛ أولهما النص الكامل لديوان أبي تمام. والثاني شرح الخطيب التبريزي على الديوان بما يمثله من ثروة أدبية ولغوية وبلاغية لا نظير لها.
طبعة (ذخائر العرب) في أربعة أجزاء كبار، هي الطبعة الأكمل والأتم من الديوان وشرحه بتحقيق وعناية محمد عبده عزام، الذي أثراها بتعليقاته الثمينة وحواشيه الكاشفة الثرية، لتنضم إلى شقيقاتها من مجموعات الشعر العربي والدواوين الكاملة وشروحاتها التي حفظتها لنا (ذخائر العرب) على مدى ثلاثة أرباع القرن..
عن هذا النص النادر (الديوان + شرحه) يقول أستاذ الأدب والناقد الراحل أحمد كمال زكي:
"وأما أكمل شرح لديوان أبي تمام، فلأبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502هـ/ 1109م، وقد اعتمد فيه على الآمدي صاحب الموازنة، وعلى الصولي على أساس أن شروحه كانت أقرب عهدا بأبي تمام من غيرها، كذلك اعتمد التبريزي على أستاذه أبي العلاء، ورمز إليه بالرمز (ع)، جاعلًا كتابه «ذكرى حبيب» سندًا له. وذكر أيضا المرزوقي وعلامته (ق)، وأبا عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب وعلامته (أبو عبد الله)".
(3)
ومكانة أي تمام وشعره ليست محل جدل أو نقاش في تاريخ الأدب العربي، وفي تاريخ الشعر العربي، فطه حسين على سبيل المثال يرى أن النابهين في القرن الثالث من الشعراء [كانوا] قليلين جدًّا، وأصبح الذين يفرضون أنفسهم على الناس فرضًا لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، فيظهر في أوله أبو تمام والبحتري، ثم يظهر في آخره ابن المعتز وابن الرومي.
وفي أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراه سنة ‏1942‏ عن «الفن ومذاهبه في الشعر العربي» لخص الدكتور شوقي ضيف تاريخ الشعر العربي في أربع حركات كبرى:
أولاها؛ حركة "الطبع" التي انفرد بها الشعر الجاهلي الذي لم يكن يعرف الصنعة في أغلبه‏.‏ وثانيتها؛ حركة "الصنعة" التي بدأت جذورها من شعر زهير بن أبي سلمى ومدرسته‏،‏ واستمرت تكبر عبر العصور‏. وثالثتها؛ حركة "التصنيع" التي ازدهرت في العصر العباسي‏، ومع شعر أبي تمام وأضرابه من أصحاب البديع‏.‏ ورابعتها؛ حركة "التصنع" التي صعدت إلى ذروتها الإبداعية مع أبي العلاء في «لزوم ما لا يلزم‏»، وانحدرت بعده إلى "بديعيات" فقد فيها الشعر روحه ومعناه‏.‏
يضع الدكتور شوقي ضيف "أبا تمام" على رأس الحركة الثالثة ويعده زعيم هذه المدرسة من التجديد والتحديث الشعري؛ وهي التي عرفت باسم مدرسة البديع أو شعر المحدثين.
(4)
هذه مجرد أمثلة على المكانة السامقة التي احتلها أبو تمام في تاريخ الشعر العربي، فلا يمكن تجاهله ولا تجاوزه ولا إهماله! ولولا توفر جمّاع الدواوين ورواة الشعر والشرّاح على جمع هذه الثروة الشعرية، وهذه الأعمال الأصيلة التي خلفها لنا أبو تمام (توفي في 238 هـ) عن 59 عاما على أرجح الأقوال، لما توفر بين أيدينا هذه المادة الشعرية الهائلة بشروحاتها التي توالت منذ رحيله في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وحتى نهاية الخامس أو السادس..
وقد شكلت في مجموعها ثروة شعرية ولغوية وبلاغية ودلالية مهولة أتاحت للدارسين المحدثين ومؤرخي الشعر والأدب والثقافة العربية في العموم أن يقدموا دراسات وقراءات وافرة القيمة والجودة للشاعر أولا وحياته وسيرته، ولشعره الذي احتل مكانته العالية ضمن شعر الكبار في الأدب العربي منذ الجاهلية، وحتى نهاية القرن الخامس الهجري.
فلا يذكر اسم شاعر من الفحول في أي عصر من العصور إلا ويذكر أبو تمام ويذكر مذهبه الذي صار علما عليه ورائدا له وأصبح موضوعا للدرس النقدي بل الموضوع الأساسي والرئيسي والمركزي في حركة النقد العربي القديم التي دارت حول الشعر، وأقصد هنا كتب الموازنات والسرقات وبحث مشكلة اللفظ والمعنى وقضية عمود الشعر العربي والالتزام به أو الخروج عليه.. إلخ تلك المسائل والقضايا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس على مدى قرون ازدهار الحضارة العربية والإسلامية (على الأقل القرون من الثالث إلى نهاية الخامس الهجري).
(5)
ولعل طه حسين في كتابه المشهور «من حديث الشعر والنثر»؛ قد التفت بذكاء وحساسية عالية ليس فقط إلى مكانة أبي تمام وشعره بل إلى خصوصيته وفرادته في الثقافة العربية، والأدب العربي، والشعر العربي. يقول طه حسين:
"والواقع أننا لا نستطيع أن نفهم شاعرًا كأبي تمام إلا إذا عرفنا هذه المؤثرات العلمية المختلفة التي تأثر بها هذا الشاعر، فليس أبو تمام كغيره من الشعراء الذين سبقوه، وليس هو الشاعر الذي يعتمد على الطبع وحده، كما كان شعراء القرن الأول، أو على الطبع مع ثقافة واسعة ولكنها سطحية، كشعراء القرن الثاني، ولكنه رجل عالم مفكر قبل أن يكون شاعرًا، وهو عالم بكل ما يدل عليه لفظ عالم في هذا العصر، فهو راوية، نحوي، فقيه، وهو عالم بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية، والثقافات الأخرى.
وآثار كل هذه الثقافات والعلوم واضحة في شعره، ولا يمكن أن يُفهَم إلا إذا رُدَّ إلى هذه الثقافات، ومثل هذا يمكن أن يُقال في ابن الرومي وابن المعتز، وإذن فلا بد أن نلم بهذه الثقافات التي كانت شائعة منتشرة أيام هؤلاء الشعراء".