محمد بن سليمان الحضرمي -

مقدمة كل كتاب مفتاح تمهيدي له، يجذب قارئها إلى بقية الأبواب والفصول، وتجعلنا نبحث عنه في مضان الصفحات القادمة، وكأنَّ في المقدمة مفتاح سرِّي وسحري لِمَا نبحث عنه، وهناك مقدمات إبداع في الكتابة، حتى أن بعض الكتب تُعرَف بمقدِّمتها، وقد تشتهر المقدمة أكثر من الكتاب، ولا أتحدَّث عن «مقدمة ابن خلدون»، فتلك إبداع فريد في النثر العربي، وتُعَدُّ في مصاف الكتب العالمية الخالدة، إنما عن المقدمات القصيرة التي نقرأها في بداية كل كتاب، تلك التي يسكب فيها الكاتب خلاصة أفكاره، وتترك أثرًا في نفس قارئها.
وكثيرة تلك الكتب التي قرأناها، وأخرى قرأنا مقدماتها فقط، ولم نتجاوزها إلى فصول الكتاب، وكثيرة تلك التي قرأناها ونسينا فحواها، وفي هذا العصف الذهني، أتذكر رواية «البؤساء» للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، ففي المقدمة التي كتبها شيخ المترجمين منير البعلبكي، ما يدفع قارئها إلى مواصلة قراءة الرواية، رغم مادتها الطويلة المنشورة في خمسة أجزاء مطبوعة، ولو قرأنا بعضًا من تلك السطور التي كتبها البعلبكي، لأخذنا الانسجام إلى خيال أخضر، يقول في وصف الرواية: (هي إلى هذا وذاك قارورة طيب، ووعاء فلسفة، وملحمة نضال، إنها نشيد الحرية)، أليس جديرًا بالقارئ بعد هذا التقديم، أن يذوب في قراءة تفاصيل الرواية، ليشم منها عبق الطيب، ويلعق وعاء الفلسفة، ويرتل مع نفسه نشيد الحريَّة؟.
رواية «البؤساء» مرتبطة معي منذ سن العشرين، إذ تعرَّفت عليها في مطلع سنوات التسعينات، واشتريتها كاملة في خمسة أجزاء، من مكتبة صغيرة في مدينة روي بمسقط، وكانت في روي مجموعة من المكتبات العامرة بنفائس الكتب، قبل أن يُغلق بعضها، وتحولت أخرى إلى منافذ لبيع الأدوات المدرسيَّة، هكذا وجدتني أشتري من تلك المكتبة رواية «البؤساء»، دون سابق علم بها، ولا محفِّز دعائي عنها، لكني وأنا أخرج بها من المكتبة، شعرت وكأني أحمل تاريخًا إنسانيا ثرًا، لعل عنوانها «البؤساء» وهو على وزن الفقراء والبسطاء، يتماسُّ مع وجداني، وما زلت أحتفظ بتلك النسخة الثمينة من «البؤساء» تزيِّن مكتبتي طول العقود الثلاثة، وكلما تصفحتها تذكرني بزمن التسعينات الجميل.
ومن المقدمات التي قرأتها أكثر من مرة، مقدمة «في ظلال القرآن»، أعذب تفسير سطَّره سيد قطب للقرآن الكريم، لقد تعلقت بهذا التفسير من مقدمته، التي صاغها بقلم أدبي رفيع، وفي بدايتها يقول: (الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه)، وكنت قد تعلقت بهذا التفسير، حتى أني وصَّيت به أحد الآباء، الذاهبين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، لكنه لم يعد به، حتى اشتريته بعد ذلك بأجزائه الستة، من مكتبة ابن كثير في مدينة روي.
وفي جلسة مع بعض الأصدقاء، جاء الحديث عن الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، وكتبه الرائعة: «النظرات» و«العبرات»، و«ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون»، التي ترجمها من الفرنسية إلى العربية، فأخذ أحدهم يردد عن ظهر قلب، الكلمات الأولى من هذه الرواية الرومانسية، وهو ما لفت انتباهي إليها، وهذا أمر طبيعي، فبعض الكتب تُدرك أهميتها من حديث الآخرين عنها.
بعض المقدمات ينحو المؤلف فيها إلى صياغة جُمَله بطريقة غير اعتيادية، ففي مقدمة تفسير «الكشَّاف» لجار الله الزمخشري، تحدَّث المفسِّر أنه حين بدأ في تفسير القرآن الكريم، كان قد ناهز عمر الستين، يقول: (ورأيتني قد أخَذَتْ مني السن، وتقعقع الشَّنْ، وناهزت العَشْر التي سمَّتها العرب دقاقة الرِّقاب)، ومع هذا الوصف الموحش، والعمر الذي كان قد بلغه، قبل أن يشرع في تفسيره، لم يقف الزمخشري حائرًا، ينتظر الموت متى يأتيه، ولم يقل في نفسه كما نقول اليوم: إننا بلغنا سن التقاعد، ولذلك نتقاعس عن أداء أي عمل، وعلينا أن نستمتع بالحياة أكلًا وشربا كالأنعام، إنما بدأ في ذلك السن بكتابة تفسيره للقرآن، وأنجزه في مقدار مدة خلافة أبي بكر الصدِّيق، أي سنتين وثلاثة أشهر، خلال هذه المدة اليسيرة فقط، أنجز الزمخشري كتابه «الكشَّاف»، الذي يعدُّ من أعظم التفاسير في بلاغة القرآن، وهو مقيم في مكة المكرَّمة، ومجاور لبيت الله الحرام، وقد أشاد به في بيتين مشهورين تُرْوى عنه:
إنَّ التَّفاسيرَ في الدنيا بلا عَدَدٍ
وليسَ فيها لعَمْري مثل كَشَّافِي
إنْ كنتَ تبغِي الهُدَى فالزَمْ قِراءَتَه
فالجَهلُ كالدَّاء و«الكشَّافُ» كالشَّافِي
والكتب العمانية ليست بعيدة عن هذه الرَّشاقة والتأثير والسِّحر في التقديم، ففيها الكثير من اللفتات والاشراقات، في مطالع نظمها ومقدمات نثرها، وسأبدأ بالكتب النظمية، ففي مقدمة منظومة «شمس الأصول»، في علم أصول الفقه، التي تعلمناها في «معهد العلوم الشَّرعية» بمسقط نهايات التسعينات، يقول مؤلفها الشيخ عبدالله بن حميد السالمي:
وطالما قدَّمْتُ رِجْلًا طالِبا
نِظامَهُ ثمَّ فَرَرْتُ هاربا
ثمَّ كَرَرْتُ بَعْدَما فَرَرْتُ
وبِمُرادِي منه قدْ ظَفِرْتُ
في هذين البيتين، يرسم السالمي صورة للإقدام والإحجام، وكأنه في حالة حرب، إذ إنَّ تأليف منظومة تجمع قواعد علم أصول الفقه، قد لا تسهل معانيها لدى كل ناظم، ما لم يكن هو عالم بهذا الفن، ولذلك كان مرَّة يُقْدِم، ومرة أخرى يُحْجِم، ويستخدم مفردتي «الفَر والكَر»، وكأنه في حالة نِزال وسِجال، مع خصم وند قوي، فكان الند الأول هو قواعد أصول الفقه، أما الثاني فهو الرَّغبة الجامحة للشيخ السالمي، أن ينظم تلك القواعد في أرجوزة واحدة، حتى حقق مراده، واكتملت المنظومة في ألف بيت، وسماها «شمس الأصُول»، ثم شرحها وأبَانَ معانيها في كتابه «طلعت الشَّمْس»، فما أروع العنوان للقصيدة الأم، وما أروع عنوان الشَّرْح، وكأنَّ شمسًا دافئة طلعت على وجود العلم، بشرح لغوي وفقهي وعقدي، لقواعد أصول الفقه.
وكذلك مطلع قصيدة «سُموط الثناء»، للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله (ت: 1287هـ/ 1871م)، تأخذ بمجامع القلب، وتعزف على أوتاره من القراءة الأولى:
سُمُوطُ ثناءٍ في سُمُوطِ فَرِيدِ
بكلِّ لِسانٍ قدْ بُثِثْنَ وَجِيدِ
ومن أراد أن يتعرَّف على الجماليات البلاغية لهذه القصيدة، فليقرأها بشرح الشيخ جمعة بن خصيف الهنائي السَّمائلي (ق: 13هـ)، صدر الشرح عن بيت الغشَّام عام 2020م، بدراسة وتحقيق د. هلال بن محمود البريدي، وكذلك قصيدة «القطرة الغيثيَّة» للشيخ خلفان بن جميِّل السيابي (ت: 1972م):
على باب من أهْوَى يَلَذُّ لي الذلُّ
فيا عِزَّ قوْمٍ تحت أعتابهِ ذلُّوا
وقد وجدتني أترنَّم بها في سِرِّي، حينما وقفت على ضريحه، في أطراف مقصورته بسمائل، فأيُّ رشاقة وخفَّة، وأيُّ هيام تحمله مفردات هذا البيت المفتاحي لقصيدة السلوكية الطويلة، لتنساب أبياتها في فؤاد قارئها، كما ينساب الماء في فم العطشان، ويشعر معه بعذوبة تسري في أوصاله، وكأنَّ الحياة بدأت تورق في شجرة ذابلة.
أما الكتب العمانية فهي أكثر من أن تحصى، وفي مقدمة كل كتاب روح مؤلف تتحدث، متجاوزة العصور والسنوات المئوية، لتبلغ في نفس القارئ، مبلغ النسيم في نفس محروقة، أذكر منها مقدمة الكتاب الفقهي «مكنون الخزائن وعيون المعادن»، لمؤلفه موسى بن عيسى البِشْري، ولعلِّي حفظت جملتها الأولى، وهي: (الحَمْدُ لِلَّهِ مُشْرِقِ شُموسِ شَوارعِ الشَّرائِع، في أفق بيانِ لسانِ الشَّارِعِ الشَّائِع)، إلى أن يقول: (وأفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ على سيدِنا خيرُ الأنامِ، محمَّدٌ وآلهِ وصحبهِ الكِرام، ما سَكرَتْ الفلاسِفَةُ بكؤُوسِ خَمْرَةِ مَحبَّة القدُّوسِ قُرْبا)، ورغم تقعُّر الكلمات في هذه الجمل المفتاحية وما يليها، إلا إن نفسي اندمجت معها، ووجدت بيانها ينساب في ذوقي القرائي.
وبلا شك فإن مقدمات الكتب العمانية المعاصرة، تتلائم مع هذا الوصف، وأكثر الكتب تحمل مقدماتها ما يشي بجمال في سبك الكلمات والجُمَل، وتنضيد الأفكار، بمفردات مُصفَّاة ومنتقاة، ففي بعض المقدمات لفتات تشويقية جاذبة، أشبه بمدخل أخَّاذ يحمل بين سطوره خلاصة الكاتب وأفكاره، ويمكن أن تكون خطوتنا الأولى نحو فهم عميق للكتاب، أو البداية لفهم المعرفة التي يحاول الكاتب أن يعرضها، وقد تكشف المقدمة عن معنى أكبر من الكتاب نفسه، وقد تحمل في طياتها إجابة عن أسئلة نطرحها في حياتنا اليومية، وربما تبعث فينا الأمل أو تحدِّي الذات.
وعندما أعود إلى تلك المقدمات التي راقت لي، أجد فيها شيئًا مختلفًا في كل مرة أقرؤها، بوشائِج من الارتباط الذهني مع الكتاب، الذي لا يكتمل إلا من خلال العودة إلى تلك السُّطور الملهمة والجاذبة، وتحمل لي بعضها نفحات مما مضى من العمر.