تودع محافظة ظفار فصل الخريف، موسم الغيوم والرذاذ المنعش، لتستقبل فصلًا آخر لا يقل سحرًا، بل ويعدّه الكثيرون الأجمل وهو موسم الصرب. وفلكيًا، ينتهي موسم الخريف في 21 سبتمبر، وفي هذا التاريخ تحديدًا يبدأ موسم "الصرب" أو الربيع في ظفار، حاملًا معه أجواء مختلفة وميزات فريدة.
بعد أن كسَت أمطار الخريف الأرض باللون الأخضر البهيج، وجرت العيون في العديد من أودية ظفار، وخبأت الشمس خلف غيومها لأسابيع، يأتي الصرب ليعيد النور والدفء إلى جبال ظفار حيث تبدد الشمس وشاحات الضباب عن قمم الجبال، وتشرق بضيائها لتضيء السهول والأودية. وتهب نسمات عليلة تبدد رطوبة الخريف عن رمال بحر العرب، فتعود إليها لمعتها الفضية وملمسها الحريري الناعم. وتهدأ أمواج البحر الهادرة لتصبح صافية وادعة، وتفتح ذراعيها لاستقبال عشاقها من الصيادين والبحارة.
وجه آخر من الجمال
يُعرف موسم الربيع في ظفار محليًا باسم "الصرب"، وهو فصل يكتنز عادات اجتماعية رائعة وأجواء طبيعية لا تُنسى. ففي هذا الموسم، تزهر النباتات وتفوح عطورها في الأودية والتلال، وتتاح الفرصة للتجول في الطبيعة لساعات طويلة دون عوائق مثل الحشرات المزعجة أو الضباب الذي يحجب الرؤية. تصبح التلال الخضراء والأودية ملاذًا للعائلات والأصدقاء لقضاء أوقات ممتعة، وأحيانًا للمبيت في ليالي الربيع الهادئة، خاصة في الليالي القمرية.
وتعد منطقة "جبجات" التابعة لولاية طاقة واحدة من أبرز الوجهات التي تستقطب الزوار خلال موسم الصرب. وتصبح جبجات واحة خضراء تسر الناظرين، حيث يقيم الزوار الولائم والسهرات التي تمتد حتى الصباح في أيام الإجازات، مستمتعين بنسمات الهواء العليل تحت أشجار الطلح الظليلة. وقد أطلق عليها لقب "نجمة الصرب"، لما توفره من أجواء مثالية للتجمع والاستجمام.
خير وفير
تتجدد الحياة في محافظة ظفار مع قدوم الصرب، حيث يفتح البحر أبوابه بعد أن كان خطيرًا بسبب ارتفاع أمواجه طيلة موسم الخريف، ويعد هذا الموسم فرصة للبحارة والصيادين للعودة إلى مزاولة حرفة الصيد. ويعرف اليوم الأول الذي يبدأ فيه الصيادون نشاطهم بيوم "الفتوح". وتعود "الضواغي"، وهي مجموعات من الرجال تصطاد سمك السردين بشكل جماعي، لتزاول حرفتها التقليدية التي تعد مصدرًا للرزق.
وهناك مثل دارج في ظفار باللغة الشحرية يقال قديمًا لوصف موسم الصرب وهو: "إصرب بِش آفلوك، إيدفر يسينود إنوف"، والذي يعني أن الخير في موسم الصرب وفير حتى إن من هو عالة على المجتمع يستطيع أن يسد نفسه ولا يكون عالة على غيره. وهذا المثل يدل على القيمة الكبيرة التي يحملها هذا الموسم في نفوس أهالي ظفار. فبالإضافة إلى خيرات البحر، تدر المواشي حليبًا وافرًا في هذا الفصل، وتنتج أجود أنواع السمن البلدي الذي يعتمد على المراعي الطبيعية الغنية. كما تُحصد المحاصيل الزراعية الموسمية مثل الفاصوليا، والخيار، والذرة، التي اعتمدت في ريها على أمطار الخريف.
خطلة الإبل
وتعد "خطلة الإبل" من أبرز ملامح موسم الصرب في ظفار. فبعد أن كانت قطعان الإبل محاصرة في السهول أو في مناطق خلف الجبال (المعروفة جغرافيًا بمصطلح "ظل المطر") خلال موسم الخريف، تبدأ في أواخر سبتمبر رحلتها الموسمية إلى الأودية والجبال الخضراء، حيث تسرح قطعان الإبل في أودية شهيرة مثل وادي قوصد، وجنين، ووادي نحيز، ودربات، وغيرها. وترافقها مجموعة من الرعاة الذين يقضون شهرًا أو شهرين في رحلة ترحال ممتعة. كانت هذه الرحلة قديمًا مناسبة اجتماعية يشارك فيها الرجال والنساء والأطفال، حيث يرتدون ملابس جديدة ويعطرونها، ويتبادلون الأحاديث والقصص، ويرددون الأغاني الشعبية مثل "النانا" و"الدبرارت" حول مواقد النار. ورغم تغير بعض العادات اليوم بسبب ارتباط الأبناء بالمدارس والوظائف، فإن مربي الإبل ما زالوا يحرصون على قضاء عطلاتهم السنوية في هذا الموسم لمرافقة قطعانهم والاستمتاع بالحياة في أحضان الطبيعة.
البضح
إلى جانب المحاصيل الزراعية التقليدية، يُنتج موسم الخريف "البضح"، وهي ثمرة برية موسمية تنمو بشكل طبيعي في الجبال. تُزهر نبتة البضح في الخريف، وتُحصد في موسم الصرب. يقوم الأهالي في ولاية ضلكوت وغيرها من المناطق بحصاد هذه الثمرة عن طريق الحفر واستخراجها من جذور النبتة.
وتعد عملية الحصاد نشاطًا اجتماعيًا وترفيهيًا، حيث يتجمع الأفراد في مجموعات لجمع البضح. وتطبخ الثمرة بطريقة تراثية فريدة، حيث توضع في قماش، ثم تغلف بالسماد في علبة معدنية وتُطهى على النار لعدة ساعات. تقدم هذه الوجبة المميزة بعد تقشيرها، وما يتبقى منها في الأرض يصبح غذاءً للطيور.
أهلًا بالربيع
ترحل الغيوم، ويتبدد الضباب، ويسود الهدوء والصفاء. هكذا هي ظفار في موسم "الصرب"، جنة من صنع الله. تتراقص الأغصان مع النسيم العليل، وتتنقل الفراشات بين الزهور الملونة. تصبح الجبال أكثر وضوحًا وشموخًا، ويتحول البحر الهائج إلى بحر هادئ ذي شواطئ فضية.
هذه هي ظفار، أرض تحتضن الجمال في كل فصولها. فإذا كان الخريف قد منحها رذاذه وأمواجه الهادرة، فإن الصرب يهديها شمسًا دافئة، ونسيمًا عليلًا، وحياة جديدة لكل من عليها، سواء كانوا أهلًا أو زوارًا. إنها دعوة للاستمتاع بهذا الفصل الفريد، الذي يعيد السكينة إلى النفوس ويجدد الإحساس بجمال الطبيعة الخلابة.

**media[3140368,3140367,3140366]**