هل نبدو وكأننا نمارس رفاهية الكتابة ونحن نكتب عن الشعراء الغزيين الذين يكتبون الشعر تحت النار، تاركين الحديث الدامي عن الموت السهل هناك وعلى شهداء غزة من أطفال ونساء وشباب وكهول؟ هل نبدو مجانين ونحن نفعل ذلك؟ أبدا بالعكس تماما، نحن نحتفي بأدب غزة الجديد الذي ُيكتب تحت ضربات الجوع والخوف والتشرد والقتل. كُتب الكثير عن شعر الإبادة وسردها، وبرز كثير من الشعراء الذين ذابوا في الكتابة حد الجنون، ليس للكاتب الغزي الآن سوى خياله وكلماته، وهاتان النعمتان ليس بمقدور سلاح الطيران المحتل قصفها وقتلها. في حوار مع جريدة الأيام الفلسطينية قال الشاعر الغزي حيدر غزالي إن( كل غزي شاعر)، وهذا مشهد يمكن ملاحظته بسهولة، ثمة المئات من الشعراء والساردين ظهروا فجأة في غزة في هذه المرحلة الدامية، بعضهم موهوبون ويكتبون نصوصا متماسكة وذكية والبعض الآخر لا يعتبر نفسه شاعرا لكنه يرى أن من حقه أن يكتب عما يحدث له ولعائلته ومدينته فيما يشبه اليوميات التي توثق الأحداث ولا ترتقي إلى مصاف الأدب الذي سيبقى بعد مرحلة الإبادة هذه، وهناك الشعراء والأدباء المكرسون أصلا الذين استأنفوا الكتابة بعد فترة صمت مصدوم، لكن تحولات عميقة ظهرت في بنية ومضمون نصوصهم وهذه ظاهرة تحتاج من يرصدها ويحللها، ومن هؤلاء برزت الشاعرة نعمة حسن، التي هُدم بيتها وسكنت خيمة مع بناتها، لم ننتبه وحدنا لموهبة نعمة حسن فالعالم نفسه انتبه، وتمت وتتم ترجمة نصوصها، كان آخر كتبها المترجمة، كتاب : الفراشة الأخيرة، ترجم إلى اللغة السويدية عن (دار داكنزنهيتر،) وقرأ المسرحيون أشعارها في المسارح والأمسيات الأدبية، في أكثر من بقعة في العالم.
لم تكتب نعمة حسن نصوص الإبادة من منطلق السيدة الغزية الضحية أو المعذبة أو من زاوية استجداء التعاطف أو من رؤية التحريض والسخط المباشر، ثمة في شعرها (الإبادي) الجديد أبعاد فلسفية عميقة ولغة ذات رؤية إنسانية كونية، تخرج من قفص صدري هش لطفل غزي على وشك الموت جوعا وتحلق في فضاءات معنى الحياة، وأسئلتها ولغزها تقول:
(في حياة أخرى أريد أن أصبح راقصة باليه
عندما يحلق الأطفال نحو السماء
سأبتسم لهم كبجعة لا تعرف اتجاه البحيرة
مشهد يجبرك على التصفيق
الراقصات يتبعن نظام حمية
لا قمح في قائمة الطعام
يمكنك إلغاء وجبة اللحم
الصحون الفارغة تصنع الجميلات
أريد حذاء من قماش
لامعا كوجه خيمة لامعة
ثوبا أحمر لا تخيفه رصاصة
وأمي تجلس في الصف الأول
تراقب الضوء حولي
كأني لا أموت، ولا أنطفئ).
آخر كتب نعمة التي صدرت قبل أيام هو (حتى لا يتركني الضوء) الكتاب الشعري صادر عن دار الناشر برام الله، بـ88 صفحة من القطع الصغير، ويضم مجموعة من الأشعار التي كتبتها الشاعرة خلال العام الثاني من الإبادة. قدمت الكتاب أستاذة الأدب الانجليزي في جامعة بيرزيت، والباحثة في الثقافة الفلسطينية رانية جواد. كتبت:( دون أي صيغ اعتذارية تكتب نعمة حسن ما تشعر به وما تراه وما تسمعه وما تفكر فيه، تكتب للعموم تقريبا كل يوم من أيام الإبادة وتسهم كلماتها في ميراث الألفاظ، التي غدت وتغدو الكيفية التي من خلالها نعرف معنى تجربة النكبة. وتضيف : لا تسمح نعمة أن تطغى الصيغ الإيديولوجية والتشكيلات الخطابية الجاهزة، هي تكتب عن امرأة تضع أحمر الشفاه وقوارير العطر الفارهة والمدن التي لا تعرف ذاتها وحزن الأمهات.
وموت بائعة الورد، قصيدتها تصبح حيزا لتوسع الحياة، تصير عينا ترى وتتخيل ما يتجاوز التدمير الماضي والآتي في غزة، وما يتجاوز واقعية الإبادة).
وهكذا تواصل الشاعرة الغزية الذكية والخبيرة مقاربة جريمة الإبادة( بكل همجيتها وجنونها) من مكامن غير معهودة في ثقافة النص الأدبي الفلسطيني، بحيث أصبحت الشاعرة - الظاهرة.