مادلين ليونج كولمان / ترجمة - أحمد شافعي -
أروندهتي روي مثال للمروق. مرت عليها لحظة في عام 1997، حصلت فيها، وهي الكاتبة المقيمة في ديلهي على جائزة بوكر لتكون أول مواطن هندي يفوز بها عن روايتها الرائجة «إله الأشياء الصغيرة»، وأعلن الرئيس الهندي ورئيس الوزراء أن البلد كله فخور بها. كانت آنذاك في السادسة والثلاثين، وإذا بها ثرية على حين غرة، فكان بوسعها أن تركن إلى المال والثناء، لكنها بدلا من ذلك غيرت وجهتها. ففي حماس وإسهاب، مضت تكتب مقالات للمجلات الهندية عن كل خطأ ترتكبه النخبة في بلدها. وفيما كان القوميون يحتفون بالاختبارات النووية الهندية كتبت هي أن «الهواء مثقل بالقبح يعج بنتن الفاشية». وفي مقالة أخرى كتبت أن «النذر، إجمالا، في الهند، وبعبارة ملطفة، غير جيدة». كتبت عن العنف القومي الهندوستاني، والاحتلال العسكري في كشمير، والفقر، والتشرد، ورهاب الإسلام، وجرائم الشركات. وقادها اتجاهها المعادي للوطنية إلى الصحافة ثم إلى القضاء باتهامات تراوحت بين الفحش (بسبب مشهد جنسي عابر بين اثنين ينتميان إلى طائفتين مختلفتين في رواية إله الأشياء الصغيرة) وحتى الاتهام بالإرهاب في أحدث الحالات. بدأت تعرِّف نفسها بأنها مناهضة للصراع. ومثلما تكتب روي في كتابها السيري الجديد الصادر بعنوان (الأم ماري تأتي إليّ): «كلما أمعنوا في ملاحقتي باعتباري معادية للوطنية، ازددت يقينا بأن الهند هي المكان الذي أحببته، وانتميت إليه. ففي أي مكان آخر أكون هذه المشاغبة التي تحولت إليها؟ وفي أي مكان آخر أجد شركاء الشغب الذين أكن لهم عظيم الإعجاب؟». أصدرت منذ ذلك الحين أكثر من عشرين كتابا، منها رواية وحيدة أخرى صدرت سنة 2017 بعنوان (وزارة السعادة القصوى). وبقية الكتب غير خيالية: فهي مجاميع مقالات، وتقارير ميدانية، ومحاضرات مجمعة، ورسائل قصيرة في السياسة، والآن وقد بلغت الثالثة والستين، تنشر روي سيرة ذاتية. ومع ذلك تظل (إله الأشياء الصغيرة) أفضل أعمالها. تتناول القصة -المستوحاة من طفولتها في إحدى قرى كيرالا- أختين توأمتين وأمهما العزباء المارقة، وتمضي القصة عبر الزمن ذهابا وإيابا في جو بالغ الثراء لدرجة أن يشعر المرء بالرطوبة وهي تتصاعد من نهر ميناتشال. لم تكتب روي بعد تلك الرواية شيئا يضاهيها في الانضباط والعمق. وجاء تحولها إلى التحليل السياسي ليغير عملها إلى الأبد. فهي حينما تكتب في السياسة تفضل الاستخدام الكثيف للإحصاءات، والاستعارات المختلطة، وحشر كل قضية ذات صلة قد تخطر لها بالمقالة نفسها. ولما حان الوقت الذي كتبت فيه (وزارة السعادة القصوى) كانت تلك العادة قد ابتلعت تقريبا رغبتها في حكي قصة. فالرواية التي تدور أحداثها بين ديلهي وكشمير تتبع امرأة تنتمي إلى مجتمع الهيجرا -أي الجنس الثالث- في ديلهي، وتحكي الرواية أيضا قصة صحفي فاسد، ومناضل كشميري من أجل الحرية وامرأة تتورط مع كل أولئك السابق ذكرهم. وتنتأ في الرواية شخصيات ثانوية فتوشك أن تنهار مع محاولة الكاتبة أن تخوض في استطرادات مطولة حول حركات احتجاجية لا صلة لها بالرواية. تكره روي وصفها بالناشطة الكاتبة، وتقارن ذلك بالأريكة/السرير. برغم أن أغلب الأسرّة حالها أفضل من تلك الرواية.
واستعمالا لإحدى أدوات روي الأثيرة، أي السؤال البلاغي: هل مهم حقا أن كتابتها أصبحت كتابات تعليمية؟ لقد بقيت ثابتة في مواقفها السياسية. في مقالة لها عام 2002، كتبت أن محاربة الفاشية «تعني وضع المرء أذنه على الأرض والإنصات لهمس الضعفاء حقا»، وجماعة الضعفاء هذه تتألف من الأغلبية. خلافا لكثير من الكتاب الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية والمنتقدين لحكم ناريندرا مودي، لا تزال روي تقيم وتعمل جهارا في بلد تثير فيه آراؤها وشهرتها غضب أصحاب السلطة ويتقبلها الوسط الأدبي الغربي بوصفها مبعوثة راديكالية، فتستعمل فرص الكلام الكثيرة التي تتاح لها في الخارج لإبراز معاناة الآخرين. ففي قبولها لجائزة بنتر من منظمة بن PEN في لندن العام الماضي أدانت «نظام الأبارتيد» الإسرائيلي وأبت أن تلقي اللوم على حماس في ما وصفته بـ«الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتلفزة المستمرة بلا كابح في غزة والآن في لبنان». فمن الواضح أن روي مهتمة، ولو أنها غير مهتمة باستحسان مواقفها من عدمه.
وبرغم هذا، تخصص كتابها (الأم ماري) للشخص الذي أرادت منه الاستحسان حقا: أي والدتها ماري روي. كانت ماري بطلة أروندهتي وخصمها، قدوتها ونقيضها، وقد اشتهرت في نطاق يجاوز أسرتها، إذ أسست في ستينيات القرن الماضي مدرسة سوف تصبح من أرقى المدارس في كيرالا. ولقد كانت أما عزباء مطلقة لكنها تحدت قانونا يمنع أمثالها من النساء المنتميات إلى المسيحية السورية من الحصول على نصيب مساو من الميراث العائلي وغيرت ذلك القانون. ثم جاء موتها في عام 2022 ليدفع روي إلى تأمل مسار حياتها على نحو لم تفعله من قبل قط. فتسنى لها أخيرا أن تقدّر مدى ضخامة ماري. وتتمثل قوة روي الكاتبة -وإن لم تستغلها كثيرا على مدى العقدين الماضيين- في أنها تكتب الجوَّاني والتجريبي والعابر والصغير، وما يجري بين شخصين، وتكتب ضوء الغرفة، ونسيج خوف طفلة. وفي (الأم ماري) تسمح لنفسها أخيرا بالتهدئة. ولا شيء يساعد العقل على التركيز مثل احتياجه إلى إيضاح قصته.
كانت ماري (التي أرغمت ابنتيها على مناداتها بـ«مسز روي» شأن بقية التلاميذ لكي لا تتهم بمحاباتهما) هي المثال لأروندهتي من بعض الأوجه: في الاستقامة والتحدي والاستعداد لتولي السلطة في مجتمع لم يتنازل عنها لأحد قط. وتعترف روي في السيرة بأنها كانت ترهب سلطة والدتها التي كانت تبدو لها ولأخيها الأكبر (ل ك س) غير منفصلة عن قسوتها، فتكتب قائلة: «لقد كان يبدو لها وكأن الإشراق على تلاميذها وإعطاءهم كل ما لديها، يفرض علينا ـ أنا وهو ـ أن نمتص ظلمتها أيضا». وكانت ماري متقلبة المزاج مسارعة إلى العنف. وصفت أروندهتي وهي في التاسعة من العمر بـ«العاهرة». ووصفت (ل ك س) وهو طفل بـ«الخنزير الشوفيني». وفي وقت الاطلاع على الدرجات كسرت ماري مسطرة خشبية وهي تعاقب ابنها على نتائجه «العادية». وفي الصباح التالي، أغرقت ابنتها ذات الدرجات الأفضل بالثناء والعناق النادر. ولم تبرأ روي من إحساس الخزي الناجم عن ذلك. فـ«منذ ذلك الحين، ظل كل إنجاز شخصي يأتيني مصحوبا بنذير شر...ففي مناسبات تكريمي أو الثناء عليّ، أشعر دائما بأن شخصا آخر، شخصا صامتا، يتعرض للضرب في الغرفة الأخرى». بدأت أروندهتي ترى الأطفال الآخرين الذين يحنو عليهم آباؤهم باعتبارهم «أولاد مامي ودادي». تقول: «لم أكن أحفل بهم كثيرا بل كنت أنظر إليهم بشيء من الازدراء الحمائي». وبعد شجار رهيب في أواخر مراهقة أروندهتي، وقعت فجوة طويلة بينها وبين ماري امتدت طوال سنين قبل أن تستردها الأم حتما تحت جناحها. وكانت تلك الفجوة محنة ومنحة في الآن نفسه. فالحياة مع ماري كانت مباراة مصارعة تقول روي إنها لم ترغب «في الفوز بها مطلقا».
وحتى في ما يتجاوز علاقتها بوالدتها، نصف روي مهمة اكتسابها لشخصيتها وصفا حسيا. ففي معرض كفاحها من أجل العثور على صوتها الكتابي تكتب روي: «لقد عرفت أن ذلك لن يأتيني من تلقاء نفسه. كان عليّ أن أصطاده اصطياد الفريسة، وأبقر أحشاءه، وآكله. ولما فعلت ذلك، علمت أن اللغة، لغتي، سوف تيسِّر سريان الدم في جسدي». وبرغم أنها كانت مفتونة على الدوام بالقراءة (باللغة الإنجليزية بإصرار من ماري)، فقد درست العمارة في ديلهي، ثم تخبّطت لبضع سنوات إلى أن التقت بسينمائي أكبر سنا هو براديب كريشن، فاختارها للمشاركة في فيلم في الثمانينيات بعنوان (ماسي صاحب)، وبدأت بينهما علاقة عابرة في موقع التصوير تطورت لاحقا إلى علاقة طويلة. قضت روي وكريشن سنين عدة في العمل السينمائي والعروض التلفزيونية معا، ومن خلال كتابة السيناريو انزلقت إلى الإبداع الذي يمكن أن تمارسه منفردة. وفي مطلع الثلاثينيات من عمرها بدأت العمل على (إله الأشياء الصغيرة).
تصور روي نفسها باعتبارها غريبة أبدية، وذلك جزئيا بسبب نظرة الناس لماري. فمهما ابتعدت عن كيرالا، تظل دائما ابنة المرأة التي رفضتها عائلتها وأسرتها لزواجها المرفوض بوالد أروندهتي و(ل ك س) البنجالي غير المنتمي إلى وسط المسيحية السورية المنعزل. خلال سنوات عدم التواصل بينها وبين ماري، باتت أروندهتي تعرِّف نفسها بأنها «عديمة الأب، عديمة الأم، عديمة البيت، عديمة الوظيفة، عديمة الحكمة» العائشة «على الريح» المطمئنة أشد ما تكون الطمأنينة إلى التسكع في المقهى القريب من شقتها غير المؤثثة تقريبا. ومما يدحض بوضوح بؤس الطفولة أنها نشأت في رعاية والدة متعلمة تعليما عاليا، وأنها هي نفسها متعلمة تعليما عاليا، وأنها طلقة في اللغة الإنجليزية، ومشهورة، وجميلة (ولو أن روي تكتب في سيرتها أنها تصاب بالذهول حينما يشار إلى هذا أحيانا). وهي تعترف بما لها من مزايا، لكنها ترتاح أكثر إلى الاعتراف بأنها ورثت عن ماري أنفتها. فقد حدث في مرحلة ما قبل نشر روايتها الأولى أن واجهت هي وكريشن مصاعب مالية بعد فشل عرض تلفزيوني كانا يعملان عليه. وحينما عرض عليها منتج صفقة جائرة ـ بأن يدفع لها أجرا تافها ثابتا في مقابل امتلاك كل ما تكتبه ـ سألته بالهندية بما معناه «وهل مكتوب على جبهتي أني مغفلة؟». فحتى وهي مفلسة تظل ابنة ماري.
يرجو بعض الآباء لأبنائهم أن يتجاوزوهم. وبعض الآباء لا يبالون (شأن والد روي الذي عاود الظهور وهي في العشرينيات من العمر). ثم هناك من يغضبون من منجزات أبنائهم، ويتمسكون بالهيراركية التي كانوا يشعرون بها حين لم يكن الابن يعرف من الدنيا شيئا. وتعتقد روي أنها تعرف إلى أي فئة من هؤلاء الآباء تنتمي ماري. فبرغم أن نجاح «إله الأشياء الصغيرة» يعوق سردية روي باعتبارها الغريبة الأبدية، فإن بعض الأمور لا يتغير مطلقا. فحينما شاركت روي في أمسية في مدرسة روي بناء على اقتراح من والدتها، قضت ماري وقت الأمسية كلها في حديث جانبي مسموع. وتأذت روي، وإن لم تندهش. تكتب «هي التي قدمتني، وفي الوقت نفسه، دمرتني». ولكن نجاحها ظل يحول الدفة. كانت تعلم أن الاستقلال الذي ظفرت به يفزع والدتها. ونظرا لخوف الوالدة من امتلاء كتاب ابنتها بالأسرار العائلية، أدخلت نفسها مستشفى لتقرأه هناك.
في الغالب يتقدم كتاب «الأم ماري» في مسار مستقيم عبر حياة روي، لكن الكاتبة لا تملك مقاومة التعليق أو الانغماس في مواضيع جانبية، أو إيقاف حدث ما لكي تحكي لقارئ أمرا يجري. فسوف تصبح هذه الشخصية، التي تم التعرف بها للتو، صديقة على مدار عقود. وهذا الفعل، الذي اكتمل للتو، سوف يغير كل شيء. وفي بعض الأحيان تنفق لحظة عابرة في أن تكون امرأة بسيطة. ففي منتصف العمر، سوف تنفصل روي عن كريشن وتشتري شقة لنفسها في حي راق بديلهي. وتكتب: «بين الحين والآخر أقبِّل الجدران وأرفع كأسي وإصبعي الوسطى لمن ينتقدونني الذين يظنون أنني لكي أكتب ما أكتب وأقول ما أقول فلا بد أن أعيش حياة فقر زائف أفرضه على نفسي».
روي في جوهرها معنية بالتفاصيل، وأقوى ما تكون عليه في الكتابة عند الاقتراب الشديد. وفي كتاب (الأم ماري)، تصف كيف انتهت إلى الكتابة السياسية، التي قادها بعضها إلى مناطق متنازع عليها ومواقع تقام فيها سدود عما قريب ومناطق عسكرية. ومع ذلك، فإن هذه الأقسام تفتقر إلى توتر اللحم والدم الذي يسم علاقتها مع والدتها. ومع تقدم ماري في السن، بدأت روي أخيرا وفي حذر تجد طريقة للتعامل معها: «تعلمت أن أدخل فلكها دخول حشرة ذكية تتفاوض مع عش عنكبوت، فأطوي جناحيّ وأقلل حجمي وأنا أخطو إليها». لقد قالت ماري يوما إن أروندهتي «حجر رحى» معلق في رقبتها. ولم تملك أروندهتي من جانبها إلا أن تحبها. وستقضي بقية حياتها وهي تبحث عن خصم جدير بخصومتها مثلما كانت لها ماري.
مادلين ليونج كولمان كاتبة مقالات في مجلة نيويورك
عن مجلة فالتشر