جوناثان هيلي / ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -

في أواخر عام 1572 تحت سماء شتوية قارسة لمع نجمٌ لم يكن في الحسبان. كان مستعرًا أعظم (انفجارَ نجمٍ هائل يزداد سطوعه فجأة) يتوهّج في كوكبة «ذات الكرسي» (مجموعة نجوم معروفة لدى القدماء). وقد رصده الفلكي الدنماركي تايكو براهي فحسبَ أنّه يقع أبعد من مدار القمر. عندئذٍ غدت الفكرة الأرسطية عن ثبات الأجرام السماوية موضعَ شكٍّ حقيقي، وبدت إرهاصات الثورة العلمية.

هكذا تُروى الحكاية؛ إذ يفتننا دائمًا أن ينبثق نجمٌ من العدم أو أن تنعطف بنا الطريق نحو عالمٍ جديد. وقد نال ستيفن غرينبلات جائزة بوليتزر عن كتابه «الانعطافة» الذي تناول لحظةً من هذا القبيل؛ إذ ذهب فيه إلى أنّ النهضة الأوروبية بدأت مع اكتشاف مخطوطةٍ كلاسيكية عام 1417. واليوم يصوّب نظره إلى الرجل الذي برأيه أطلق شرارة النهضة الإنجليزية. يكتب غرينبلات في كتابه النقدي الجديد (النهضة المظلمة: الأزمنة الخطِرة والعبقرية المميتة لأعظم منافسي شكسبير) قائلا: «لكي تتقدّم الحياة الثقافية في إنجلترا؛ كان لا بدّ من مجيء شخصٍ يخترق القشرة الصلبة للعقيدة الموروثة الخانقة». ذلك الشخص هو كريستوفر مارلو.

يُعرَف ستيفن غرينبلات -وهو أستاذٌ في جامعة هارفارد- بأنه أبرزُ مناصري «التاريخانية الجديدة». وهو منهجٌ نقديّ يقرأ النصوصَ والكتّابَ في سياقهم الثقافيّ والتاريخيّ لصيقِ الارتباط بالعالم من حولهم. في هذا الأفق يغدو شكسبير عبقريًّا، وعبقريتُه متجذّرةٌ في زمنه وعالمه، ولو تبدّل العالمُ لتبدّل معه نتاجُه. ومع ذلك يقدّم غرينبلات كريستوفر مارلو بوصفه حالةً شاذّة في حداثتها وتأثيرها إلى حدٍّ يفسِّر بمفرده طفرةً مفاجئة؛ فقد أدخل إلى الخشبة «الشِّعر المُرسَل»، وهو شعرٌ بلا قافية على الخماسيِّ اليَمْبي، ووطّد استعمال «حديث النفس» أو المونولوج في الدراما. ويكتب غرينبلات: إن ذلك «كان أشبهَ ما يكون بظهور الأفلام الناطقة في السينما»، مضيفا أنه لولا مارلو لما وُلدت مسرحيّة «هاملت».

ومثل شكسبير خرج مارلو من أصولٍ متواضعة ومن أطراف البلاد. فقد وُلد عام 1564 السنةَ نفسَها التي وُلد فيها شكسبير لابنِ إسكافيٍّ (صانع أحذية) في مقاطعة كانتربري مدينةِ الأزقّة الضيّقة والطُّرق الموحِلة. وكانت -على قِدمها وكاتدرائيتها العتيقة- ملاذًا لجماعاتٍ من اللاجئين البروتستانت الفرنسيين (الهوغونوت)، لكنها كانت تعيشُ زمنَ انحسار؛ إذ انقطع سيلُ الحجاج عن ضريح رئيس الأساقفة الشهيد توماس بِكِت في كاتدرائية كانتربري، وتبدّدت الذخائر منذ زمن، وجَفّ اقتصادُها الوسيط.

كان المألوف أن يتجه أبناءُ الطبقات الشعبية إلى الحِرَف اليدويّة. غير أنّ الموهبة أسعفت مارلو والحظَّ عضّده. ففي الرابعة عشرة تقريبًا نال منحةً إلى مدرسة الملك في كانتربري، فانفتح له عبر مكتبة أستاذه الغنيّة عالَمُ الشعر عند فرجيل وأوفيد. وبرغم رتابة أساليب التعليم آنذاك لم تكن الآداب القديمة حملًا دارسيًّا ثقيلًا عليه؛ إذ أذنت له بمناقشة موضوعاتٍ محظورة من الإلحاد إلى الرغبة المِثلية، وأعانته على التفلّت من قيود طبقته. وببلوغه السابعةَ عشرة كان في جامعة كامبريدج يتدرّب على مجادلة الطرفين في المسألة الواحدة: أفي الوجود جحيمٌ حقًّا؟ وهل وجودُ الله حقيقةٌ أم زعم؟

كان مارلو نزِقًا مستفزًّا مأخوذًا بسحر المخاطرة. وفي لحظةٍ ما استرعى انتباه الدولة؛ فتواصل معه رجال الملكة إليزابيث الأولى الخفيّون -جهازها الاستخباري الوليد-، وتبدّل مسار حياته. استقطبوه للعمل جاسوسًا، أو هكذا تُوحي الشواهد القليلة. ومنذئذٍ صار يقضي شطرًا كبيرًا من وقته بعيدًا عن جامعة كامبريدج -وعلى الأرجح خارج البلاد- محاولًا التسلّل إلى الشبكات الكاثوليكية التي كانت تهدّد البروتستانتية الناشئة الهشّة في إنجلترا.

وإذا صحّ ترجيح غرينبلات أنّ مارلو تعلّم الفرنسية من جيرانه اللاجئين في كانتربري فقد غدا ورقةً لا تُقدّر بثمن. كان التجسّس أشبه بالتمثيل؛ فعلى ذلك الشابّ المتعلّم أن يتقمّص دورًا ويُقنع في هيئةٍ ليست هيئته. وهو دورٌ يبدو أنّه استلذه فوق أنّ الدولة أجزلت في عطائه. ولمّا بدا أنّه سيُحرَم درجة الماجستير كتب المجلس الخاص للتاج (الهيئة الاستشارية العليا للملكة) إلى الجامعة لتسوية الأمر، فنال مارلو درجته في يوليو 1587.

وبحلول خريف ذلك العام بدأ اسمه يلمع ككاتب. انطلقت سلسلةُ نجاحاته التي صنعت شهرته بمسرحية «تيمورلنك العظيم»، ويكتب غرينبلات: «ما عُرض على المسرح من قبل لم يعرف جرأةً كهذه». لغةٌ مشحوذة كالنصل، وحركةٌ خاطفة للأنفاس، ولوازمُ أخلاقية صادمة. شهوةُ تيمورلنك للسلطة تستدعي منطقًا الهلاك واللعنة، غير أنّ الستار يهبط على انتصارٍ كاسح. وتواصلت الاستفزازات بجزءٍ ثانٍ، ثم تعاقبت الضربات الناجحة: «يهودي مالطا»، «دكتور فاوست»، و«إدوارد الثاني».

وفي قراءة غرينبلات تتشبّث مسرحيات مارلو بهاجس الطموح الدنيوي، وبالمنبوذين الذين يخرقون أعراف المجتمع طلبًا للشهرة وإشباع الرغبة. وقد عالج ما لا يُتصوَّر معالجته على خشبة عصره؛ فقد جاور كتابة ميكيافيللي التي رآها معاصروه محرَّمة ملعونة. وفي مسرحية «إدوارد الثاني» قدّم صورةً لـ«حبٍّ مثليٍّ مكتسِح ميؤوسٍ منه يجرّ صاحبه إلى الفناء»، وألقى بجميع المحاذير وراء ظهره.

يريد غرينبلات أن نرى ملامح مارلو في كثيرٍ من شخصياته. ولا ريب أنّ افتتان مارلو بعهد فاوست الشيطاني ينطوي على شيءٍ من مأزقه هو؛ فالشيطان مِفيستوفيليس (روحٌ شيطانية في أسطورة فاوست) يقوم مقام جواسيس الملكة. المساومة التي عقدها معهم -على غرار مقايضة فاوست مع الشيطان لقاء قوى سحرية- كانت قادرةً على جره إلى جحيمه. ففي إنجلترا الإليزابيثية لم تكن علومُ السحر والخفاء إلا جزءًا يسيرًا من خطورة آلة الدولة.

ومضى شغف مارلو بالاستفزاز بعيدًا في نهاية المطاف. زُعِم أنّه أبدى سلسلة آراء اعتُبرت ازدراءً للمقدسات، منها قوله: «الذين لا يحبون التبغَ والفتيةَ حمقى (و«الفتية» في اصطلاح زمنه تُفيد الشبان). أُلقي القبض عليه، ومع أنّه لم يُزجّ في السجن فورًا فقد أخطره المجلسُ الخاصُّ للتاج (الهيئة الاستشارية العليا للملكة) ألا يبتعد عن لندن.

ثم «بالأحداث المفاجأة» التي وسمت حياته انتهى كلُّ شيء؛ فقد قُتل في شجارٍ؛ بسبب فاتورة عشاء في مطعم سنة 1593. ومن الرجال الثلاثة الذين كانوا معه كان اثنان -على الأقل- من موظفي الدولة. ويخمّن غرينبلات أنّ الأمر قد صدر عن الملكة نفسها.

«النهضة المظلمة» كتابٌ آسرُ القراءة يستحضر خوفَ أواخر العهد الإليزابيثي ومخاطره؛ حيث يهوِي بعضُ الأُمراء موتى على الأرجح بالسمّ، وحيث لا يُوثق بأحد، والحكومةُ أوهى من يُعوَّل عليه. وخاتمته تندفع بالقارئ كما تفعل أيُّ رواية تجسّسية مشوّقة.

هل كان مارلو حقًّا العبقريَّ الفذَّ الذي أطلق النهضة الإنجليزية، كما يُقال عن «النجم الجديد» الذي رصده تايكو براهي عام 1572 إنه أشعل شرارة الثورة العلمية؟ الحكم في ذلك لقرّائه. ثم إنّ تصوير غرينبلات لإنجلترا بوصفها هامشًا ثقافيًّا يبدو مبالغًا فيه؛ فحتى العبقرية المتّقدة تحتاج إلى جمهورٍ فَطِنٍ يُحسن التلقّي. ومع ذلك يظل كتاب «النهضة المظلمة» حكايةً مشوّقة متلوّية المسارات تلتقط ببراعةٍ رعبَ ذلك العالم المندثر وإمكاناته في تخوم الغسق.

جوناثان هيلي أستاذُ التاريخ الاجتماعي في جامعة أكسفورد، وصاحبُ أحدث مؤلفاته «الدم في الشتاء: إنجلترا على حافة الحرب الأهلية، 1642».

عن نيويورك تايمز