رحمة المغيزوي -

1- يوسف

بحبل كان معلقا بين المنحدر الوعر والسماء البعيدة.

وفيما كان مملس الحجر الصلد القريب منه -والذي أصبح يلعنه في كل حين- يحتك بقدميه مع كل حركة يقوم بها.

-لم نعرف في وقتها ما إذا كان ذلك المعلق بالحبل الذي نمسك طرفه بين أيدينا «ولد العسال»، أم أن روح طائر جارح خلقت في جوفه.

هكذا وصفه لي من كانوا معه، وزادوا على كلامهم بأن قالوا إنهم ربطوه بحبل ثخين من وسطه، ووضعوا حوله الليف الرطب وشيئا من ملابسهم؛ حتى يخففوا من ضغط الحبل على بطنه، ثم وقفوا على حافة الجرف، وأنزلوه بهدوء وخوف وصمت، وأنه كان في فترات نزوله من أعلى الجبل إلى أسفله كان يتأرجح في المساحة الفاصلة بين الحجر الأملس الذي استقر عليه جسد «يوسف» وبين الفراغ الذي يشرف على منحدر سحيق، فظل هكذا قريبا وبعيدا عن ذلك الجسد، ولكنه صمد، وشعروا به يتجاوز الصدمة والخوف الذي شاهدوا أثرهما عليه عندما كان واقفا معهم في أعلى الجبل. وكان وبين اللحظة والأخرى ينثر الماء من قربة صغيرة حملها في يده على الوجه الذي ظهر جانب منه بعين مغمضة فيما انكفأ الباقي منه معانقا ذلك الحجر الأملس. وتمدد بقية الجسد على طوال ذلك الحجر الأملس دون أن يترك مكانا حتى له –هو والده - ليقف على شيء من الصخر ويهز الجسد الساكن عليه.

كان الإزار الذي لبسه «يوسف» قد انحسر عن ساقه حتى وصل إلى منتصفها، فظهرت أمامه الشامة الكبيرة التي قالت عنها زوجته إنها من أثر الوحام على حبة برتقال، والذي مرت فيه في فترة حملها به، وبقيت الساق الأخرى مثنية في ضعف تحت أختها. ولولا تلك العلامة الواضحة لكذب من حملوا إليه خبر سقوط «يوسف»، ولأنكر أن يكون ذلك الجسد لابنه الأصغر. جازف ورفع يده إلى فمه، ونادى عليه:

- يوسف.. يوسف.

لم يسمع إلا صوت الريح باردا يمر قرب أذنه، ثم شعر بحركة سريعة تسببت في أرجحته بطريقة مباغتة في الهواء، وتلتها انفلات للحبل الذي يمسكه لبرهة حتى أيقن أنه سيهوي إلى ذلك الجرف العميق، ولكنه شعر بقوة الرجال من فوقه تجذبه إلى الأعلى. كان الأمل يحدوه بأن ينهض صاحب ذلك الجسد، ويمد له يدا فيخرجان من ذلك المكان، ولكن اليدين بقيتا ساكنتين دون حراك. ثم انتظر أن يشاهد أي حركة تصدر منه، وركز بصره على حركة صدره؛ لعلها تشفي ذلك الوجع المتأجج في داخله الذي يزداد كلما تهيأ له أن شاهد حركة تصدر من ذلك الجسد المسجى في هدوء أمامه. ولكن حركة الريح كانت تخدعه، فلم يتحرك من «يوسف» إلا الشعر الناعم والكثيف والمنسدل على كتفه كلم نفسه بمرارة:

- ليس هنالك دم. فقط بعض الرضوض والخدوش وربما كسر أو كسرين قابلين للجبر.

أزعجته تلك الإغماءة التي أخذت من ابنه بهاءه الذي عرف عنه، فقرر أنه عندما يضع «يوسف» بين يديه سيحتضنه برفق، ويكلمه بحب، ثم سيعالجه بمرهم العسل الذي استخلصه أخيرا من نفت العسل التي جمعها من رحلاته في البحث عن العسل، أو بوخز إبر النحل الذي رباه في خلية في فناء داره؛ فهو يعرف أبنه جيدا، ولن يحتاج إلا للحب والعسل؛ ليعود كما كان.

رفع رأسه إلى الأعلى وكأنه يكلم الرجال في الأعلى: -إذن «يوسف» بخير. نعم «يوسف» بخير

لكن الرجال لم يردوا عليه، فشعر بصمت غريب في داخله بعد ندائه الثالث. وبدموعه تناسب دون إرادة منه، وبكلتا يديه الحرتين حاول أن يفك الحبل من وسطه؛ ليسقط على الحجارة في الجرف أسفله، ويجرب الشعور الذي أحسن به ابنه عندما زلفت قدمه. ووقع على تلك الصخرة، ولكن من كان معه قالوا إنهم شعروا بذلك الخاطر، فشدوا الحبل وجذبوه إليهم فيما جسده يتخبط بي الهواء صارخا بكل قوته، ثم احتضنوه، وجروه بعيدا عن الجرف الهار، وهو يحاول التملص من بين أيديهم.

عند ذلك الحد وقفت أسئلة «ولد العسال» تلك، ولم يجرب بعدها أن يسير إلا بعين مفتوحة تماما. ووصية أرادها أن تكون أمانة معي.

2- وصية واجبة

«هذا ما خطته يد العبد الفقير الذليل إلى الله تعالى «محمد بن مهنا» مما أملاه عليه لسان العبد الحقير إلى ربه «سويدان بن عبدالله» والمعروف لدينا بـ«ولد العسال» وهو في كامل صحة بدنه وجواز عقله وصية واجبة التنفيذ بعد مماته «أوصى لنفسه من ماله بعد وفاته بجميع جهاز الموتى، وأن يدفن في سفح الجبل القريب من القرية التي يسكنها بعيدا عن مقبرة البشر المعتادة، وبما يرزأه ويحتاج من يحضر عزاءه أو مأتمه من البشر من مأكل أو مشرب أو غيرهما، وأوصي من ماله بعد موته بحجة يحج عنه بيت الله الحرام ومناسكه ولوازمه من وقوف ورمي الجمار وذبح وزيارة قبر نبيه محمد -عليه السلام- الذي بيثرب، وإبلاغه وصاحبيه أبو بكر وعمر السلام. كما أوصى بقراءة ثلاث ختمات قرآنا عربيا عند قبره أو في مسجد، وأوصى من ماله بعد موته بأن يؤجر عنه صيام شهرين زمانا عما لزمه من فساد صيام أشهر رمضان».

وأوصى من ماله بعد وفاته بإنفاذ كفارتين مرسلتين كل كفارة إطعام عشرة مساكين لما ألزمه من فساد صلاته المفروضة، كما أوصى بإنفاذ ثلاث كفارات عما ألزمه من حنث يمين لم يبر به، كما أوصى أن يوضع في فمه بعد تغسيله قطرات من عسل حفظه في مخزنه والذي هو في بيته كآخر رزق له من هذه الدنيا الفانية.

وقد أثبت «ولد العسال» جميع المكتوب عليها في هذه القرطاسة ثابتا كان أو غير ثابت فقد أثبته على نفسه على أن ينفذ وصيته السابقة الشيخ «محمد بن مهنا» وزوجته «ولد العسال».

في دار «ولد العسال» قلبتُ قرطاسة الوصية أمامي بعدما كنت قد استأذنتُ «صالح» بالحديث مع والدته في عدتها من وراء حجاب، فقرأتُ عليها ما جاء فيها فأجابتني:

-لم يورث «ولد العسال دكا ولا لكا، ولم يورث إلا قارورة عسل عتيقة وصغيرة في مخزن داره.

ثم سكتت برهة فهممتُ بمغادرة بيت «ولد العسال» وكنت أحسب أن حديثها قد انتهى ولكنها أضافت:

- وليس لدي مال احتكم عليه لتنفيذ وصيته.

عدتُ لأجلس على الكرسي الوحيد في دكاني وأمسكتُ بالدواة ثم كتبت في ظهر تلك القرطاسة «لعدم توافر المال، لم ينفذ من تلك من الوصية إلا وضع قطرات من العسل في فم «ولد العسال» أما الدفن في خارج المقبرة فقد أبطله الشيوخ الأطهار وعدوه خروجا عن العرف والعادات الحميدة».

ثم قمتُ إلى الصكوك المرتبة في دكاني ووضعتُ وصية «ولد العسال» قريبا من صك بيع بيته والصكوك الخاصة بـ«سعادة» والتي لمستها بأطراف أناملي وكأني أعود فألمس خدها الناعم كما فعلتُ قبل سنوات عدة.

- أصاب «ولد العسل» عطب بعد عاد دون ابنه الأصغر يشبه ذلك العطب الذي أصابني يوم حملت «سعادة» ابنتها وغادرت.

3-أرض الباطنة...مرة أخرى

قبل أعوام...

عندما رأيتُ «ولد العسال» كانت آثار السفر ما تزال بادية عليه..

كانت طبقة خفيفة من الغبار ما تزال تغطي قدميه وحروق الشمس ظاهرة على وجهه ومع ذلك كرر طرح سؤاله للمرة الثالثة علي وقد ظهرت الخشونة على نبرة صوته وهيئة جسده فشعرت بذلك الجسد يكبر أمامي ويزداد طولا، فيما بقيت عينه الصحيحة معلقة في وجهي كمن يسبر أغوار الكلمات التي تصدر مني.

عندها استجبت لإلحاحه فغيرت من جلستي وقلدتُ معلمنا «ولد زامط» فاتخذت أمامه هيئة الشيوخ المعروفة. عدلت من وضع العمامة البيضاء على رأسي وضممت ساقي إلى بعضهما البعض ووضعت يدي على فخذي وسكت هنيهة وأنا أتمعن في المدى الواسع أمامي وكأني أقرأ منه ما طالعته في الكتب في سنوات عمري السابقة. وأربطها بحركة السوق النشطة أمامي في ذلك الوقت من اليوم. أو كأني أعود بـ «ولد العسال» لتلك السنوات في شبابنا لأنسف صورتي السابقة أمامه ونحن في مجلس شيخنا «ولد زامط» فيتكلم هو بطلاقة من يقرأ كتابا كتبه بيده وأتلعثم أنا بين العبارة وأختها.

لذا اجتهدت اليوم بأن تكون نبرات صوتي واضحة وكلماتي في موضعها المناسب.

فاستعذت أولا من وسوسة الشيطان التي أصبحت كثيرة في وقتها.

أبعدت صورة وجه «سعادة» المستدير الجميل التي تراود مخيلتي.

وأثنيت على رب العالمين.

ثم أعقبتها بالصلاة على المصطفى.

ولخص لـ «ولد العسال» الفتوى الأولى فقلت له:

(إن أرض الباطنة حكمها من الغوائب التي لا تحل إلا للفقير وقد اتخذها الناس أملاكا وعمروها وتوارثها وتبايعوا أموالها ولم نعلم أحدا من المسلمين أنكر ذلك أو عابه واشترط بعضهم أن تفسل بالعُشر للفقير.

وزدتُ على الكلام السابق فأخبرته أن الشيوخ الأطهار قالوا في ذيل فتواهم مبررين كلامهم السابق (لأن يؤكل منه خير من أن يكون خرابا) لأن كل مال لا يعرف ربه فهو راجع إلى الفقراء ويجوز للغني أن يداين الفقير على حبه ويشتريه منه ويأكل منه لأن الفقير استحقه لفقره والله أعلم.

كما ذكرتُ له أن بعض الفتاوي ذهبت إلى أن الأرض الموات حكمها لمن أحياها فجائز لمن أحياها أن يتملكها ويبيعها ويتصرف فيما بما شاء وأراد. وهو إلحاقا بحكم الماء المتعارف عليه (أن حكم الماء لمن أخرجه).

وبينت له أن أرض الباطنة لم تعمر كلها مدة أعوام كثيرة، واختلفت الآراء فيها حتى ظهرت تلك الفتاوي التي أخبرته بها وتم ذلك الجواز، وقد قيل في سبب ذلك الجواز أن أحدا من العلماء جاء الباطنة قبل الفسل فلم يجد بها نخلة إلا ما شاء الله فكان مروره سببا للترخيص في عمارتها فما أبرك ذلك القدوم. وما أعدل تلك الفتيا.)

ولن تكن تلك الفتوى الأولى التي تكون بيني وبينه في تلك السنوات.

4- خلية نحل صغيرة

قبل أن يبدأ «ولد العسال» رحلته الأخيرة إلى الباطنة:

كنت قد رفعت نظري إليه وقد ظل معلقا على قمة النخلة حيث ترك «الصوع» يهب عن وسطه ليسقط أسفل الجذع فيما تشبث بسعف النخلة ويديه تكتشف خليه النخل الصغيرة الذي اتخذ من تلك النخلة سكنا لها، أحاط به النحل من كل جانب دون أن يلسعه، ناديت عليه، فلم يجب ولكنه نزل إلي بخفة فتى في ريعان شبابه وفي يده عذق من تمر لم يتم مراحل نضجه وهو يمص أصبعه الإبهام في تلذذ كبير وقال لي:

-يحتاج له شهر ونقص النفتة، والحساب بيننا النصف بالنصف. والخلية بعدها تصبح ملكي.

رفعت يدي التي كانت تخلل شعر لحيتي الغزيز ورفعتها في علامة الموافقة، فكنت في مزاج لا يسمح لي بالمجادلة وخاصة معه هو «ولد العسال»، أما فقد رفع العرجون أمامي وأكمل حديثه:

- هذا التمر عافته أمه النخلة لن ينضج ولا يصلح إلا للأغنام.

وسرت عنه ذارعا الطريق الفتوح إلى السوق تاركا المزارع خلفي وكأنني أفر من صدى الفتوى التي ذكرتها سابقا له.

كنت أكاد أن أجزم أن خطواته لن توازي خطواتي بعد كل ذلك العمر.

وأن سيكون متأخرا عني بمقدار خطوتين أو أكثر.

ولكن في بداية الأعوام القليلة المنصرمة داخلني ريب كبير منه.

هل عاد كما كنت أخشى منه ونحن في شرخ الشباب؟

هل خلع عنه ثوب «العسال» وكتب كتابه مستندا إلى حدة ذكائه ونسخة الدفتر الذي عطاه «ولد زامط» بينما لا تزال نسخة دفتري مهملة في صندوق صغيرا تحت سريري؟

فقد زارني منذ يومين في دكاني، وألقى نظرة على الدكان الملاصق لدكاني والذي جاورني فيه مدة من الزمن، كنت أحدق طويلا في وجهه. عندها شاهدت خيلاء الجبال فيه ورأيت أن سيماء الصلابة ما تزال مخطوطة عليه رغم ابتعاده عنها في هذه الفترة، وقفت بعد أن كنت جالسا وأوليته ظهري وأنا أتمعن في القرطاس وأدوات الكتابة المصفوفة وفق ترتيب معين في دكاني فيما يداي معقودتين وراء ظهري، تناسيت وجوده هنيه وعندما سمعته يتنحنح، التفت إليه وعدت لأجلس أمامه. وأخبرته عن حاجتي له في معاينة نفتة العسل تلك على إحدى النخلات في مزرعتي. هز رأسه بالموافقة وأخبرني عن حاجته في معرفة فتاوي بعض المسائل التي شغلت باله في هذه الأيام بعد أن ينتهي من عمله على نفتة العسل.

5-يال العسال

أمسك الدفتر المتوسط الحجم وكتب:

(سأكون أنا «محمد ولد مهنا» الشاهد الوحيد الذي وقف على حياة «ولد العسال» وعرف كل الاختلاجات التي كانت تسكن داخله وتعذبه في بعض الأحيان، كما سأكون أنا المفتي القريب والبعيد منه في ذات الوقت الذي يجيب عن الأسئلة التي تؤرق تفكيره، وقد أدونها في كتيب صغير أسوة بمشايخ الدين الذين قرأت لهم.

سيربى معي، وسنكبر معا كفسيلتي نخيل نبتتا في ذات وقت من أصل نخلة متعالية منذ دهر لا نعرفه سيعايرني بجسدي الضخم الذي نضج قبل أوانه في مجلس شيخنا «ولد زامط»، وسأتهمه كاذبا بخفة العقل والتي أثرت في نمو جسده فكنت أراه قصيرا وضئيل الجسد والتناقض بيننا بين وواضح.

ومع أن بيتهم لا يبعد عن بيتنا مسافة طويلة ومع ذلك لن أناديه إلا بـ»ولد العسال» كما يناديه كل الناس هنا كما يكرر والدي علي كلما أراد أن يحط من قدره ويؤنبني لأني أصاحب فتى لا يعمل والده إلا في جمع العسل ومطاردة النحل ولا يعرف من العلم والقراءة شيئا قال لي:

- رافق أصحاب العقول النيرة ومن يملكون المال ليرتفع شأنك بين الناس.

بينما سينادي هو دائما:

- يا شيخ «محمد».

حتى ونحن نركض في سباق مع بقية الصبية بين الأشجار في بطن الجبل أو نرتقي نخلة طويلة وأقف أنا حائرا ومرتجفا في منتصف جذعها.

سنسير معا في الطرق المعبدة والوعرة في الأطم الثلاثة التي شكلت مدينتا ونعرج على المزارع ونحاول تسلق الأشجار أو قطف الثمار التي لم تكمل نضجها بعد.

وعندما كبرنا وشتتنا الحياة في طرق مختلفة كنت أقول:

لعنة الله على يال «العسال» جميعا وبالأخص «ابن العسال» الذي أعرفه إلى يوم الدين فكلما تعلق على قمة جبل أو نزل إلى منحدر سحيق، أو جاب سهلا ممتدا، عاد فطرق بابي وجلس في مجلسي وأثر الخدوش فيه يده ظاهرة ولفحة الشمس تكاد أن تغير لون وجه وخط أسود عريض بان على جبهته من أثر العمامة التي يلبسها بشكل دائم وصلابة الجبال منحوتة في يديه وقدميه بطبقة جلد خشنة وتشققات غائرة وقد لاحظت مؤخرا أن تلك القساوة بدأت بالامتداد إلى قلبه أيضا.

عند باب مجلسي نزع عنه الحذاء المعروف والمصنوع من سعف النخيل المجدول بثلاث طبقات صلبة من حبال ليف النخيل والذي لا تغطي إلا نصف قاع القدم لتساعد العسالين أمثاله على تثبيت أقدامهم على الحجارة الصلدة وصعود الجبال في يسر وتمنع انزلاقهم، ثم رماه بإهمال كمن يتخلص من نصب الأيام السابقة.

جلس مستندا إلى إحدى الوسائد، ثم مد إلي بيده التي فقدت نصف اصبعها السبابة إناء صغير من العسل أو نفتة من خلية النحل كانت ضمن حصاده الثمين في رحلته تلك فكنت أشعر به كمن يدفع رشوة مقابل إجابة سؤاله المطروح والذي كنت اعتقد أنه للاختبار ولإشباع رغبة مكبوتة قديمة في داخله أكثر من كونه للاستفهام والتزود من العلم.

نظر إلي مباشرة فشاهدت تلك العين الصحيحة واسعة وغارقة في سواد عميق أما العين الأخرى النائمة في سباتها الدائم تناضل من أجل أن ترفع رمشا غطاها منذ زمن الشباب الأول لنا، التهى عني وهو يوضع اصبعه في أذنه وكأنه ينظفها من شيء علق فيها:

-ما يزال طنين النحل في أذني وكأنه يسكن داخلي.

تجاهلته ولم أرد.

في صباح اليوم التالي لحضور «ولد العسال» إلى دكاني بعد رحلة الباطنة كنت قد سرتُ بلا هدى في سوق الولاية النشط في هذا اليوم مفكرا بالسؤال المطروح وفي الفتوى التي أخبرته بها فكدتُ أن أصطدم بامرأة تحمل قفير رمان ثبتته على رأسها بيدها اليمنى بينما تقبض يدها اليسرى قفيرا من العنب اشترتهما من الرجل الذي نزل بهما من الجبل الأخضر في مثل هذا الموسم.

وقفت المرأة فجأة وحركت يدها أمام وجهي فانتبهت لسرحان نفسي وجمال وجهها في ذات اللحظة فيما غضت هي النظر وسارت في طريقها. دون أن تبالي بي.

سابقا ركزت فكرة الولاة الذين تعاقبوا علينا بأن تكون دكاكين السوق مسقوفة بجريد النخيل مع وجود فتحات للتهوية وخاصة في مواسم القيظ وزيادة درجات الحرارة والمحلات في السوق كانت منظمة في تقسيمها فمحلات الملابس والثياب داخل السوق، تليها محلات الصاغة والمشغولات الفضية والذهبية ودكانين الحلوى فيما بنيت محلات الغذاء خارج السوق، وبقيت الساحة في وسط السوق للمزايدة والمناداة على السلع المختلفة.

كان السوق يتميز بأرضه الواسعة المفروشة بحجارة الوادي والممتدة طولا من شرق الأطم الثلاثة التي تنقسم إليها الولاية إلى بدايات وسطها ، وكانت تلك الأطم قد قسمت الولاية إلى ثلاث حارات محصنة بالأسوار يتصل بعضها البعض في العمران ولا يفصل بين كل قسمين إلا درج من الصخر منحدر من أعلى القرية إلى المزارع والأطم الأولى تسمى الحارة القديمة والثانية الحارة الوسطى والثالثة هي الحارة الجديدة وتقع الحارات الثلاث شمال السهل وتمتد من شرق السهل إلى غربه وتقع المزارع في جنوبه ، وكانت جميع الخدمات من الفلج والمدارس والمجالس والسوق توجد بين البيوت والمزارع .

وترتبط نلك الأطم الثلاث بشريان عريض من طريق شق في فج عميق من امتداد جبلي عظيم من جبال الحجر العظيمة، ينبسط تحته سهل رحب من الطين الأحمر، ووفروا طينا حتى يبيعوه كمادة خامة لصانعي الفخار في الولايات الأخرى والتي وجدوا فيه مادة مناسبة جدا لحرق الصلصال وتشكيله بطريقة سهلة وسلسلة.

فكانت الجبال بذلك تطوق الولاية من ثلاث جهات وتترك الجهة الرابعة لتكون فرجة للانتقال والسفر بين بقية الولايات. أما وسط السهل فيميز بانخفاض درجة حرارته فينتقل إليه بعض أهالي الحلة في الصيف اتقاء للحرارة وتزرع فيه الأشجار التي لا تتحمل الحرارة وتكثر الأبراج لمراقبة من يقطف الثمار ويفسد تعبهم طوال الموسم فيعاقبونه بالحبس حتى أنه في بداية موسم الأمبا ينادي منادي بين الناس ويحذرون من الاعتداء على هذه ثمار الأشجار. وقد تعاون الناس في هذا العام على إصلاح ساقية الفلج التي كانت تفيض بالماء على الأشجار تفسد الثمار وتقتل الأشجار لشدة اندفاعه ووفرته وقننوا الماء الذي يستخدمونه في الري.

وهنالك اتخذت دكانا صغيرا أكتب فيه الصكوك من بيع وشراء ورهن ووصايا وعتق الرقاب وغيرها وجاورني بعد فترة فيه «ابن العسال» فافتتح دكانا لبيع العسل ومشتقاته. ثم أصبح يلتقي فيه بالعسالين الناشئين الذي يأتون إليه لسؤاله عن أماكن البحث عن العسل ويطلب منهم أحيانا أن يعرضوا غنيمتهم من العسل عليه، فكانوا يساومونه على الأسعار ويحسبون الربح والخسارة، بل ويستمعون إليه وهو يتكلم عن ملكات النحل وطرق تربيتها وبيعها لإنشاء خليه جديدة بإصغاء تام وغالبا ما كان الدكان يغلق في كل رحلة يقوم «ولد العسال» للبحث عن العسل ويستمر ذلك أحيانا شهرا أو أكثر.