شريفة بنت سالم الرحبية -

يخرجُ الشايبُ حمدٌ من بيته الضيّق مع أول خيوط الصباح. يُغلقُ بابَه الخشبيَّ، ويرفعُ (المِحلاقَ) إلى الأعلى، ويسندهُ بقطعةٍ خشبيّةٍ صغيرة.

لم يتخلَّ يومًا عن حارة العرين تلك الحارة التي تنبضُ في قلبه. كل صباح يتّجه نحو سوق الظلام، وكأنّ قدميه توجهانه للطريق ذاته بصورة معتادة.

تهبّ عليه رائحةُ القهوة العربيّة بالهيل والزعفران، وتتلقّاه رائحةُ البحرِ وضجيجُه الذي لا يهدأ، وكأنّه يوقظه من نومه، ويهمس له: الوقت قد حان.

يشقُّ طريقه عبر السوق بين الأزقّةِ الضيّقةِ المُظلمة التي تعبقُ منها روائحُ البخورِ وبعضِ التوابل، وتختلطُ فيها الأصوات.

عند زاويةٍ مألوفة يجلسُ البانيانُ على كرسيّه، وبين يديه طاولتُه. يفتحُ دفترَه الأزرق، المليءَ بالصفقات. يقتربُ منه الشايبُ حمد. يسحبُ سلّتَه التي امتلأت بالجرائد، وفاحت منها الأخبارُ المنوّعة كأنّها تحملُ أنفاسَ المدنِ البعيدة وأنينها.

يسلّمُ البانيانَ الجريدة. يفتحها بسرعة، ويتجاوزُ الصفحاتِ سريعًا ليصل إلى الخبرِ الاقتصادي حيث العلاقةِ بين عُمان والهند وباكستان عبر ميناءِ مطرح.

يطالعهُ الشايبُ، ويأخذُ المائةَ بيسة. يُخرجُ الكيسَ البلاستيكيَّ الأزرقَ من دِشداشتهِ الشفّافة التي تكادُ تصلُ إلى ركبتيه. يُخبّئُ النقودَ، ويَلفُّها بإحكامٍ مرّةً ثانية، وكأنّه يلفُّ بها أملًا صغيرًا لا يريد أن يضيع. وبعد أن يودّع البانيان بابتسامةٍ خفيفة يمرُّ خلف سور اللواتيا المرصوف بالحجر الأحمر. يسحبُ قدميه وهما لا تكادان تساعدانه على المشي من ثقلهما، لكنه يكابر كما يكابر قلب العاشق.

يمضي في توزيع الجرائد. يتوقفُ عند كلّ وجهٍ يعرفه، وكلّ محلٍ اعتاد أن يأخذ منه الجريدة كأنّه ينثر عطرًا فوّاحًا في الأزقة.

تصلُ خطواته إلى محطته الأخيرة، وقد أنهكه التعب. ينتظره كرسيه الخشبي المعتاد خلف الجدار الطيني الذي يلتحف بظلال شجرة البيذام، وأمامه البحر الذي لم يهدأ طيلة حياته.

يجلسُ محمدٌ على الحصيرِ الممزّق. يتناولُ فنجانَ القهوةِ مع الشايبِ حمد بعد أن أنهكهُ حملُ شوالات الهيل من الباخرة على كتفه. ولدُه راشدٌ يلعبُ بالرملِ بجانبهما.

تعلّقَ الشايبُ حمدٌ بالصغيرِ، وتَعوّدَ على كلمةِ «جدي» منه، تلك الكلمة التي تُرمّم شيئًا من الغياب. وبينما يراقبُ راشدًا وهو يشكِّل بالرمل يسمعُ صوتَ الباخرةِ القادمةِ من بعيد، فتتشوّقُ عيناهُ أن تحطَّ رحالَها على المرفأ.

فالشايبُ حمدٌ في انتظارِ ابنِه الذي اغتربَ بحثًا عن وطنٍ آخر. تمرُّ السنونُ عليه، وقد وارى زوجتَه الثرى في ترابِ مطرح، ولم يستطع مغادرةَ المكانِ إلى بلدٍ آخر بعدها.

رحلتْ، وكانت أيضًا تنتظرُ جوابًا من ولدِها عند مرسى البواخرِ. ينزلُ الجميعُ، ولا يُرى سوى تلك الظلالِ الممتدّة التي ما تلبثُ أن تختفي كذلك كما تختفي الأحلامُ.

يذكرُ الشايبُ حمدٌ آخرَ قبلةٍ طُبعتْ على جبينِه من ولدِه، وكانت الأخيرة. باعَ كلَّ ما يملكُ من أجلِ شهادةٍ علميّةٍ يرفعُ بها رأسَه بابنِه الوحيد، وكان قد وعدَه قبل أكثرَ من عشرِ سنواتٍ بالعودةِ إلى الوطنِ حاملًا شهادتَه.

تمرُّ الأيام والسنون، وتغيبُ الأخبار عدا أخبار الجريدة وتحايا قديمة ترسل مع أصدقائِه، ثم انقطعَ كلُّ شيء. مع هذا ما زال ينتظرُه عند سِلالِ الجرائد.

تغربُ شمسُ الستينِ عليه وهو يُترقّبُ ابنه. يفتحُ صندوقَهُ الصغير. يتلمّسُ الورقةَ وهو ما زال متمسّكًا بأملِ عودتِه. يفتحُها، ويشم رائحتها التي امتزجت بروائح مطرح. تدمعُ عيناهُ وهو يقرأُ الجملةَ الأخيرة:

«آسف يا أبي، سأبقى في مكاني لأبنيَ مستقبلي في وطنٍ آخر».