سعدية مفرح -

غزةُ، مدينةٌ من صبرٍ نادر،

تتدلى من أهدابها بقايا حلمٍ قديم،

غُرِسَ في تربةٍ عطشى،

وسُقيَ بالدمعِ حين خانت السماءُ المطر.

هنا الشوارعُ تعرفُ أسماءَ الغائبين،

كلّ ركنٍ يحفظُ صوتَ وداعٍ أخير،

البيوتُ مائلةٌ تُعاتبُ الريح،

والنوافذُ عيونٌ فارغةٌ تترقبُ عودةَ النور.

في غزة،

الزمنُ لا يمضي كما يمضي في أماكنَ أخرى،

الساعاتُ ثقيلةٌ كأنّها تحملُ أوجاعَ القرون،

والأيامُ تمرُّ مريرةً كجرحٍ لا يلتئم.

الأمهاتُ يحكنَ ما تبقى من الأكفانَ

في صمت،

يبتسمنَ لمن بقي من الصغار،

وفي أعينهنّ ألف سؤالٍ غارقٍ في الضياع.

الأطفالُ يكبرون قبل أوانهم،

يلعبونَ على حافةِ الخطر،

كأنّهم تعلّموا أن الحياةَ مجردُ هدنةٍ قصيرة

بين قصفٍ وقصف.

غزة،

يا نشيدَ الحزنِ الذي لا ينتهي،

كيف تحملينَ كل هذا الخراب

ولا تنكسرين؟

كيف تبتسمُ حجارتكِ رغم الشقوق،

وكأنّ في قلبها سرًّا

لا يعرفه سوى الشهداء؟

في الليل،

حين يهدأ كل شيء،

يُسمعُ أنينُ البحر،

يشاركُ المدينةَ وجعها،

يرسلُ أمواجه لتربّتَ على أكتافِ الشاطئ

وتهمس: «ما زلتِ هنا... ما زلتِ صامدة».

غزة،

قد تنامُ العيونُ المتعبةُ يومًا،

لكنّكِ لن تعرفي الغياب.

في رأس كلِّ طفلٍ منكِ

يولدُ غدٌ جديد،

وفي كلِّ ركامٍ من الأشلاء

ترتفعُ قصيدةٌ لا تموت.

هنا..

الحجر شهادة،

وكلُّ شقٍّ في الجدارِ تاريخ،

وكلُّ دمعةٍ على خدٍّ صغيرٍ

تصيرُ بحرًا آخر،

يُضيفُ إلى المتوسطِ ملوحةَ الفقد

وقوّةَ البقاء.

غزة،

كأنّكِ كتابٌ مفتوحٌ على الدم،

تقرأه الدنيا ولا تفهمُه،

إلّا الذين ارتقوا بين سطورك

ورحلوا وهم يبتسمون.

أيتها المدينةُ التي نحتت وجهَها من البرق،

وتوشّحتْ بالبارود،

ما زلتِ تتدلّينَ من الغيم كقصيدةٍ لا تكتمل،

كُتبتْ بدمِ الأطفال،

وارتفعتْ مع أرواحهم

لتقول:

إنَّ الحياةَ هنا لا تُقاسُ بالزمن،

بل بقدرةِ القلب على النجاة.

غزة،

يا عصفورةً محبوسةً في قفصٍ من نار،

كلما حاولوا خنقَ صوتكِ

ارتفع نشيدكِ أعلى،

كأنّه يُولدُ من بين الحطام

أشدّ نقاءً،

وأكثر قدرةً على البقاء.

سعدية مفرح شاعرة كويتية