مع تفاقم الصراعات في المنطقة العربية منذ عقود طويلة، وتزايدها وتعقدها أكثر فأكثر تحضر مفاهيم فكرية وأكاديمية من المهم التركيز عليها لفهم أعمق للمشكلات التي تعيشها المنطقة وتتأثر بها، ومن ضمنها مفهوم الأمن؛ فعلى الرغم من أهمية الأمن في المنطقة العربية، وتمزقه تقريبًا من كل النواحي، إلا أن الخطابات الرسمية ما تزال تركز على الأمن التقليدي مع تجاهل للجوانب الأخرى منه، مثل الأمن الأنطولوجي الذي يشكل ركيزة أساسية ومهمة في فهم السياقات العربية المعاصرة. ومن هنا يحضر سؤال مهم إلى الذهن: إلى أي مدى يشكل إعادة تعريف الأمن الأنطولوجي في العالم العربي أهمية للوصول إلى حالة الاستقرار الداخلي؟
ظهر مصطلح الأمن الأنطولوجي أول مرة عند غيدنز، ثم تطور إلى أن دخل في دراسات العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، وهو يتعلق بشعور الأفراد أو الدول بالهوية المتماسكة والمستقرة مع وجود عالم يمكن توقعه. كما ينظر غيدنز إلى دور الفرد في بناء هويته الشخصية/الذاتية. ثم تبنت المدارس النقدية المفهوم وضمته في أعمالها كما في أعمال باري بوزان وأولي ويفر من مدرسة كوبنهاغن، والنسوية النقدية، والبنائية النقدية، ومدرسة ما بعد الاستعمار. وقد ركزت هذه المدارس على تجاوز الأمن التقليدي المتعلق بالموارد المادية أو القوة الصلبة، إلى التركيز على التهديد المتعلق بالأفراد، ودور الخطاب والسرديات في تشكيل الشعور بالاستقرار/التزعزع، ودور الهويات في تشكيل الصورة الأكبر للأمن داخل الدولة، أو في الساحة العالمية.
في الوطن العربي تتعدد الصراعات، وواحدة منها الصراعات الطائفية التي كان لها دور بارز في تمزيق المجتمعات العربية والهوية الوطنية إلى هويات فرعية، وتتفرع أكثر فأكثر ما يزيد من الأخطار المحدقة بكل هوية فضلا عن الانقسامات السياسية بين أجيال تريد بناء دولة مدنية مبنية على المواطنة، وأجيال أخرى تفضّل الوضع القائم ولا تريد تغييره. وقد اتضح مثل هذا في أحداث الربيع العربي بشكل عام على سبيل المثال. وهناك أمثلة أكثر خصوصية، منها مثلا مظاهرات تشرين 2019 في العراق، والاحتجاجات السودانية 2018-2019، وغيرها. هذا من جانب، والجانب الآخر متعلق بالتهديدات الخارجية سواء العسكرية كما يحدث في التهديدات الإسرائيلية على المنطقة، أو «التهديدات» المتعلقة بالهوية التي تختلف الآراء حولها بين من يعتقد أنها ليست تهديدات، وإنما يجب تقبلها كما هي؛ بحيث إن كل فرد في المجتمع يحدد تعريفه عن نفسه كما يحب، وبين من يعتقد أنها تهديدات حقيقة على الهوية يجب محاربتها، أو التقليل من آثارها؛ لحماية الهوية الداخلية للدولة. في ضوء هذا كله تتولد مسائل أخرى منها أزمات الشرعية بين الدولة والمجتمع التي تتخلخل في كل حدث مشابه؛ حيث إن التوافق في الرأي بين المجتمع والدولة يقل، والثورات أو المظاهرات التي ذُكرت في الأعلى دليل على تناقص أو انعدام هذه الشرعية بين الطرفين.
من هنا تتولد حاجة إلى إعادة تعريف الأمن الأنطولوجي عربيا؛ بحيث تعاد صياغة هوية سياسية جامعة تقوم على المواطنة والحقوق والواجبات المدنية، لا على الانقسامات الطائفية أو السياسية؛ حيث إن هذا يُمكن أن يشكل حجر أساس في بناء الاستقرار الداخلي، وتعزيز الشرعية بين الدولة والمجتمع، كما تتولد الحاجة إلى تجاوز مقاربات الأمن التقليدية التي تسعى لها أكثر الدول العربية من خلال تعزيز قدراتها، وتحالفاتها العسكرية، وتبنّي مقاربة أكثر شمولية تتعلق بالتعليم، وحرية الحراك الثقافي، والعدالة الاجتماعية وغيرها؛ بحيث يتعزز من خلال ذلك بناء الهوية الشاملة التي تسمح للجميع العيش في ظلها دون أي شعور بالإقصاء أو الإلغاء، أو الخوف من تقلص هويته التي يعرف بها نفسه أو جماعته. وفي سبيل تحقيق ذلك يؤدي الخطاب السياسي والإعلامي دورًا بارزًا؛ إذ الخطابات التي تحمل نفسًا طائفيًا أو إلغائيًا لا يولّد إلا صدامات أكبر وأكثر تعقيدًا، بينما الخطاب الوازن الذي ينظر إلى المجتمع باعتباره مجتمع مواطنة لا مجتمع طوائف أو إثنيات مختلفة قادرا في التأثير على المتلقي، وإعادة تشكيل الواقع لتجاوز النزعات الضيقة إلى مساحاتٍ أكثر رحابةً واتِّساعًا.
إن إعادة تعريف الأمن الأنطولوجي بتجاوز مقاربات الأمن التقليدي لبناء سرديات أمنية أكثر شمولًا وقدرةً على ضم المجتمع بأكمله دون التفريق في أيٍّ من مكوناته، ليس ترفًا نظريًا أو أكاديميًا، بل حاجة وجودية يمثّل الالتفات إليها التفاتًا إلى الاستقرار الداخلي بما يضمن التنمية المستدامة للمجتمعات العربية؛ ولذلك فإنه لا بد من الدراسة المكثفة والواعية لهذه المقاربة، ومدى أهمية بناء التحالف المتين بين المجتمع والدولة قبل التحالفات الخارجية مع عدم غض الطرف عنها بالطبع. فالتأكيد الذي لا يُمكن تجاوزه هو أن الاستقرار المادي رهين الاستقرار الداخلي، والاستقرار الداخلي رهين شعور الأفراد -قبل المجتمعات- بالاطمئنان، وعدم الخوف من أي تهديد خارج ذواتهم.
جاسم بني عرابة من كتاب الرأي في جريدة عمان