صدر عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء ودار الآن ناشرون وموزعون عام 2022م كتاب (حكاية على حكاية) لمجموعة من الكُتاب الذين اشتغلوا على فكرة كتابة الحكاية السردية، لكنها حكاية قامت في بنائها السردي على حكاية سابقة أو فكرة أو مَثَل نطق به الأولون واستفاد منه الكاتب في صنع حكاية أخرى مماثلة في المضمون، انطلق من فكرتها في بناء الأحداث وتكوين الشخصيات إضافة إلى الحدث المتشكّل والمتحرك داخل الحكاية.

هكذا تتوالد الحكايات داخل هذا الكتاب، وهكذا عمل الحكاؤون/ الكُتّاب على توسيع فكرتهم ومدّ أحداثها. لقد تشكّل الكتاب من إحدى وعشرين حكاية مختلفة في مضمونها وفي كُتابها أيضا؛ إذ لم تقتصر الحكايات على كُتاب من عمان فقد خرجت الفكرة إلى خارج عُمان بحضور كتّاب لهم اهتمام في هذا الجانب. تقول سالمة المرهوبية «محرّرة الكتاب» عن فكرة كتابة الكتاب: «...فجاءت مصادر الحكاية متنوعة وزاخرة، بما أتاح للحكايات المجال للتوسع والتمدد والبقاء محفوظة إما مروية شفاهة وإما مكتوبة، وهذا ما أسهم في توليد فكرة إعادة إنتاج بعض من هذه الحكايات ونسجها وصياغتها في حلة لغوية جديدة تحفظ من خلالها الفكرة والقيمة التي نقلتها تلك الحكايات لنا، متسقة مع لغة العصر الذي تُروى فيه.

وتواصلا مع فكرة الكتب الجمعية التي يتابعها الأستاذ خميس قلم ويدعمها فرع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالبريمي؛ تولدت فكرة هذا الكتاب (حكاية على حكاية)، إذ يضم بين دفتيه مزيجا من نصوص مستمدة من حكايات منقولة شفهيا، أو مكتوبة، سواء عربية مرجعها القرآن أو الأمثال أو الروايات والسير، أو الحكايات العالمية ذات الأمثولات الإنسانية، فجاء الكتاب ملونا بالحكايات والخيال والقدرة على الإبداع.

إن إنتاج مثل هذا الكتاب المشترك هو مواصلة لما بدأته الجمعية العمانية للكتاب والأدباء من دعم لفئة الكتاب الشباب وإظهار إبداعهم وتشجيعهم والأخذ بيدهم مواصلة عملها الذي بدأ بكتاب «بشجريات» وليس ختامه الكتاب الذي بين يديك حكاية على حكاية».

إن مثل هذا الاهتمام في إنتاج الحكاية السردية يقدّم للقارئ والمهتم أمرين مهمين: أولهما حفظ المضمون السردي للتراث المكتوب والشفهي، لا سيما وأن الحكايات الواردة قد انطلقت فكرتها إما من الموروث الشعبي العماني وجاءت في سبع حكايات، أو من التراث العربي والديني وجاءت في عشر حكايات، أو من الحكايات والقصص الغربية وجاءت في أربع حكايات، الأمر الذي أعطى تنوعا في شكل الحكاية ومضمونها وأساليب التعبير عنها وهو الذي ساعد على تمدّد الحكاية الأولى واتساعها باتساع الحكاية الجديدة وهو ما ساعد على حفظ الموروث وبقائه في صورة كتابة سردية موثقة.

الأمر الثاني الذي يقدّمه الاهتمام بإنتاج مثل هذه الحكاية وتوالدها هو الاهتمام بصقل وتأهيل الكُتّاب الشباب وإبراز موهبتهم السردية في الكتابة من خلال الورش المختلفة، لا سيما وأن الكتاب قد ضمَّ أسماء شابة في عالم الكتابة السردية يمكن الاستفادة من مواهبهم المختلفة بإقامة مجموعة من الورش لإعادة تأهيلهم بقصد إيجاد كُتاب سردٍ للمستقبل.

تقوم مرجعيات البناء والتشكيل في هذا الكتاب على الاستفادة من المصدر الرئيس الذي تنطلق منه الحكاية الحالية وبناء فكرة جديدة إما متصلة بالفكرة السابقة أو مستفادة فكرتها من الأولى وتطعيم الحالية بالعودة إلى الفكرة الرئيسة. ويتنوع السرد الحكائي بين المتخيّل والأسطوري والعجائبي والواقعي واللاوقعي؛ إذ يتشكّل هذا التنوع من خلال الأحداث المبنية من الحكاية الرئيسة نفسها، ففي حكاية (المسمار) مثلا غوصٌ في أعماق التراث العربي باستعادة حكاية مسمار جحا، وإعادة تشكيلها بناءً على النهاية التي تقتضيها الحكاية من زاوية رؤية الكاتب نفسه. غير أننا نجد حكايات التراث حاضرة بقوة في الكتاب مثل حكايات (ابن مقرب، وعلاء الدين والمصباح السحري، وشهرزاد، ومسمار جحا، وكليلة ودمنة) إضافة إلى الأمثال العربية الحاضرة في ثنايا السرد، الأمر الذي يعطي انطباعا عن انفتاح الثقافة القرائية على التراث القديم واستدعائه إلى الواقع المعاصر في محاولة إلى ربط الماضي بالحاضر، وتثبيت فكرةٍ ما في طيات كتابة معاصرة.

تستلهم هدى النجار في حكايتها (أمنيات بريئة) فكرتها من حكاية علاء الدين والمصباح السحري «ص:21»، ويأخذ المصباح بُعدا أسطوريا متقاطعا مع مصباح علاء الدين السحري، كما يتقاطع نور الدين في اسمه مع علاء الدين، فتقودنا الحكاية إلى تخيلات الطفولة وقصص الأطفال التي كانت تستدرجنا إلى عالم الخيال والأساطير، وهنا تحاول الحكاية الجديدة بناء مرجعيتها على ذلك: «...فجأة ينتفض من فراشه، متجها نحو كنزه المخبأ في كهف صغير قرب خيمته، ويعود أدراجه مرتعد الأوصال من هذا الزمهرير، ويسرح بذكرياته لأجمل لحظات عمره، فقد أهداه والده هذا المصباح عندما كانا يتجولان في سوق الحميدية، يومها وقف نور الدين يتأمل المصباح الذي يشبه مصباح علاء الدين في القصة التي لا يكلّ ولا يملّ سماعها من والده كل ليلة قبل النوم.

عاد من ذكرياته، واحتضن مصباحه وراح يمسح عليه بلطف، والابتسامة تعلو محياه وكله رجاء أن يخرج المارد منه كما حصل مع علاء الدين، وكم دهش لهول ما رآه، تحقق حلمه، وأطل عليه المارد من مصباحه العجيب، لكن المارد كان أشد دهشة من نور الدين لإيقاظه من نومه العميق بعد هذه السنوات الطوال».

يأخذك السرد بلغة شائقة إلى التخيّل والعجائبي، خروج ماردٍ من مصباح، وجود طفل يمسح على الفانوس، إنها استعادة للحكاية ومماثلة لها، لكننا نجد السرد يمتزج بشيء من الواقعية التي تُخرج الحكاية من عجائبيتها إلى صدم القارئ وتحويل بصره إلى التشرّد والحرب التي دمّرت بيت الطفل واستشهد معها والده فضاعت معه آماله وأحلامه، وخسر والده وسريره الدافئ، يقول الطفل معبّرا بذلك للمارد: «وأنا أجبرت على الرحيل من بيتي المهدم ولم يعد لي معيل في هذه الدنيا سوى أمي المسكينة، وها أنا في خيمة من خيام اللاجئين، أعاني الويل والجوع والتشرد». ينتقل السرد من التخيل إلى تأمل الواقع، الأمر الذي ينتقل معه المارد في السرد إلى أن يرق لحال الطفل ويستجيب لمطالبه.

حكاية أخرى هي (ليلى والثعبان) لسعيد الزعابي تقوم على الحكاية المتخيلة مرجعيتها من التراث الشعبي العماني، تعتمد على صراع الشخصيات فيما بينها، فزوجة الأب تقوم بدور الأم الشريرة في قصص الأطفال بتفضيل ابنتها على ابنة زوجها، ويرتفع نسق الحكاية بوجود ليلى ابنة الزوج في الغابة وتأخرها في حمل الحطب، حتى يظهر لها الثعبان فيقوم بمساعدتها وطلب الزواج منها. شخصية الثعبان هي الشخصية التي وقعت عليها عقوبة الساحرة، فقامت بتحويل الأمير إلى أفعى ولن يعود الأمير إلى حالته الأولى إلا أن يقوم بعمل نبيل ثم يتزوج من فتاة جميلة.

هذه الحكاية تُعيدنا إلى حكايات الطفولة التي كنا نتسمر معها أمام شاشات التلفاز لنعيش حالة التأمل والتخيل وطرح الأسئلة. استطاعت الحكاية أن تظهر لنا شخصية ليلى في صورة الطفلة البريئة التي وقع عليها الظلم والأذى مثل كوزيت في رواية البؤساء، أو سندريلا في القصة المشهورة التي تصل بنا إلى نهايتها منتصرة.

يمكن للقارئ أن يقف على نماذج حكائية يمتزج فيها السردي بالمتخيل، والسردي بالواقعي، والسردي بالتراث، ويمكن معها أن يلحظ الجهد الذي بذله كُتاب هذه الحكايات لتحديد مسار القراءة الواعية التي تُشكّل مسارا جديدا في خلق النصوص السردية ولعل من ثمرات هذا الاشتغال هو إيجاد نصوص سردية تمزج بين الواقع والمتخيل، وبين الحزن والفرح، وبين الأمل والألم، نصوص سردية عبّرت عن رؤية كُتاب اشتغلوا على الحكاية لإنتاج تجربة جديدة يمكن من خلالها توثيق الحكايات، إنه مشروع له قيمته الكتابية بلا شك.

خالد المعمري كاتب عُماني