(1)
أعكف على إعداد الأعمال الكاملة لأحد أكبر أساتذة الأدب واللغة والتراث العربي (وبخاصة تراث الأندلس والمغرب) هو المرحوم الدكتور محمود علي مكي (1929-2013)، وهو من هو في قيمته ومسيرته وإنجازه يكفي فقط أن أشير إلى ريادته وتصدره حقل الدراسات الأندلسية والمغربية أدبا ولغة وتراثا وثقافة طوال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن.
من بين التراث الزاخر القيم المهم الذي تركه المرحوم الدكتور محمود مكي مقدماته المذهلة لكثير من كتب التحقيقات أو كتب التراث العربي المحققة، وقد توفر هو بذاته على نوادر وكنوز من تراثنا العربي والإسلامي المجهول فعكف على تحقيقها ونشرها والتقديم بين يديها لعل من أهم وأقيم ما تركه لنا في هذا المضمار تحقيقه غير المسبوق لديوان متنبي الأندلس «ديوان ابن دراج القسطلي»، وتحقيقه المذهل أيضا للكتاب النادر «المقتبس من أنباء أهل الأندلس» للمؤرخ الأندلسي الكبير ابن حيان القرطبي.
ومن بين هذا الركام الهائل من التحقيقات والدراسات والتقديمات، وقع تحت يدي تقديمه الوافي والشامل والكاشف لواحد من أندر كتب التراث العربي والإسلامي؛ وأكثرها فرادة وخصوصية وغزارة مادة وأقصد كتاب العلامة البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» ذلك الكتاب الذي يعد واحدا من الإثنوغرافيا العربية النادرة بل شديدة الندرة وفيه مادة لم تتوفر في غيره من كتب الرحلة والمشاهدات والوصف العيني في التراث العربي والإسلامي.
(2)
ستكون هذه المقدمة المستوعبة الدقيقة بمثابة خريطة معرفية وثقافية لاستجلاء الحضور الهندي في الثقافة العربية، وعمق أثرها وامتدادها وتداخلها مع عديد العناصر الثقافية الأجنبية التي تمازجت واختلطت مع غيرها من العناصر لتشكل في النهاية ذلك الركام المعرفي والثقافي والحضاري المسمى (الحضارة الإسلامية العربية) المنفتحة على غيرها من الثقافات والحضارات في نموذج مدهش للتعايش السلمي والانفتاح الحضاري والتلاقح الثقافي المثمر عبر القرون والعصور.
وحضور الهند في الثقافة العربية قديم، موغل في القدم، لأسباب ووشائج عديدة ليس أقربها الاتصال الجغرافي والعلاقات التجارية، ومع ظهور الإسلام وانتشار حركة الفتوحات وصل المسلمون إلى بلاد ما وراء النهر، وفتح العرب المسلمون جزءًا كبيرًا من أراضي الهند الشاسعة، فزادت معرفتهم بحضارتها، ويصيبون منها المغانم، وذلك حينما وجه الحجاج محمد بن القاسم الثَّقفي إلى الهند في أيام الوليد بن عبد الملك ففتح جزءًا عظيمًا منها، وهو المسمى بالسند سنة 91 هـ، ففتح "ديبل" Daibul، و"نيرانكوت" المسماة الآن بـ«حيدر آباد»، وسار إلى "رارو" وأخيرا فتح "مُلْتَان". وكان محمد بن القاسم قائد الجيوش وفاتح هذه الفتوح فتى شابٍّا لم يتجاوز العشرين.
كان من آثار الفتوح والوصول إلى أقاصي الهند، أن زاد تعرف العرب على الهند وحضارتها وتداخلت الصلات والعلائق، حتى بات الحضور الهندي ثقافة وروحا وعناصر جزءًا أصيلًا وراسخًا من الروافد التي غذَّت الحضارة الإسلامية الناشئة، وتناثرت الوصايا والحكم والروح الهندية في كثير من نصوص التراث العربي، وفي كتابات كثيرين من رواد الكتابة كالجاحظ في القرن الثالث الهجري، ومن بعده أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الذي تزخر كتبه بكثير من منقولات ونصوص منسوبة إلى حكماء الهند وفلاسفتها؛ نجد ذلك في كتابه الشهير «الإمتاع والمؤانسة»، وفي كتابه «المقابسات»، وفي موسوعته الأدبية الضخمة «البصائر والذخائر».
وقد حظيت قصص «السندباد» بأهمية كبيرة في الأدب العربي، وهي هندية الأصل، وقد ذكرها المسعودي (ت 345هـ) في كتابه «مروج الذهب» باسم «الوزراء السبعة»، ناسباً إياها إلى الفيلسوف الهندي «سندباد»، وهي تدور حول الوزراء السبعة الذين استطاعوا من خلال قصصهم أن يحولوا دون إقدام الملك على التسرُّع في قتل ابنه بتحريض من زوجته. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن قصص «السندباد» ليست أسطورية، وتدور أحداثها خارج حدود الزمان والمكان، وإنما هي واقعية جرت في عصر الرشيد (ت 193هـ) ومسرحها، كما يقول صاحب كتاب «تاريخ الأدب الجغرافي»، الهند وأرخبيل الملايو.
(3)
وما نكاد نصل إلى مطالع القرن الخامس، حتى تكون "الهند" محط أنظار الرحالة والجغرافيين والعلماء المسلمين، ويبرز من بينهم العالم الكبير أبو الريحان البيروني (المتوفى سنة 440هـ/ 1048م)، ويصفه المرحوم الدكتور شوقي ضيف في كتابه «الرحلات» (فنون الأدب العربي) بأنه "أكبر رحالة فيلسوف عند العرب"، وهو فارسي أصله من خوارزم، ولكن أهل بلده كانوا يُسمونه "الغريب" لطول غربته وكثرة أسفاره.
وقد خصّ برحلته الهند، صحب السلطان محموداً الغزنوي في فتوحاته المشهورة بالهند، واستقر فيها أربعين عامًا كاملة، يدرس ويفحص، يدون ويسجل ويقارن، واستطاع أن يتعلم لغتها القديمة السنسكريتية. وقد دون مشاهداته بالهند، وتأملاته وحصيلة توثيقه ووصفه وتسجيله في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة. مقبولة في العقل أو مرذولة».
كان البيروني ذا عقل علمي جبار في الرياضيات والفلك، ارتحل إلى "الهند" بعد أن مهر فيما خلفه اليونان من رياضة وهندسة وعلم الهيئة، فأكبّ على ما عند أمة الهند من ذلك ووعاه ونقده، وقارن بين ما للهند وما لليونان، وأبان عيوب هؤلاء وهؤلاء، كما درس حالة الهند الاجتماعية، وألف في ذلك الكتب الكثيرة، فألف في الجواهر كتابًا اسمه «الجماهر في الجواهر»، وألف كتاب «تاريخ الهند»، وكتابه الأشهر «تحقيق ما للهند من مقولةٍ، مقبولة في العقل أو مرذولة»، وألف في الفلك كتاب «التفهيم في صناعة التنجيم».
ويكاد يكون كتابه الموسوعي «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» أوفى وأصدق كتاب عن الهند وعقائدها وجغرافيتها وأحوالها بالجملة، وقد وصف فيه أبو الريحان البيروني ديانات الهند التي رآها في القرن الخامس الهجري، وكان دقيقًا صادق الوصف، عالمًا باللغة السِّنْسِكْريتِيَّة (الهندية القديمة)، ذلك أنه عاش في الهند زمنًا طويلًا قرابة نصف القرن، وخبر أحوال أهله ودقائقهم وتفصيل معاشهم، إلخ.
يأخذ البيروني بأيدي قارئه لينفذ به إلى حضارة الهند متوغلا وموغلا في تفاصيل ومجاهل تلك الحضارة وفي شعاب ومسالك ثقافتها التي جمعت بين علوم عقلية يرتضيها العقل، ويقدرها حق قدرها، وبين أساطير تمتع من يتذوق الفن ويتعشق الجمال، هذا إلى تقديم مقارنات وافية ومفصلة بين حضارة هذه البلاد ما جاورها من حضارات الفرس واليونان، وعلاقاتها بالحضارة الإسلامية وما وقع بين الجانبين من تأثير وتأثر وأخذ وعطاء.
(4)
والكتاب ليس رحلة بالمعنى الشائع الذي نعرفه في كتب الرحلات، وإنما هو موسوعة شاملة لجغرافية الهند وتاريخها ومعارفها في العلوم وخاصة الرياضة والفلك. وهو يقف دائمًا للمقارنة بين المذاهب الفلسفية اليونانية والحكمة الهندية، وما يتصل بها من مذاهب التصوف عند القوم.
ومن طريف ما لاحظه البيروني في هذا الصدد أنه لم يتح للهند أمثال فلاسفة اليونان ممن هذبوا الأفكار والمعارف ووصفوها في قواعد وقوانين متسقة، ولذلك كانت كتبهم يختلط فيها الغث بالسمين والخزف بالصدف. ومعنى ذلك أنه لم يكن للهند منهج علمي، يخلِّص عقل مفكريها من الخرافات والأوهام.
وبالجملة؛ فقد وصف البيروني في كتابه الجامع هذا عقائد الهنود، وعلومهم وآدابهم، وأحوالهم الاجتماعية، وقد أبان البحث العلمي الحديث ما للبيروني من تحرٍ للحق، وإخلاص للعلم، وإصابة في كل ما وصف، إلا في القليل النادر الذي أوقعه فيه اعتماده على نفسه في فهم كلمة لغوية لم يكن فيها مصيبًا، وأحيانًا نقله عمن أخطأ في خبره. وقرب عهد البيروني من هذا العصر يجعلنا نعتقد أن حالة الهند في العصر العباسي الأول تشبه تمام الشبه ما وضعه البيروني معتمدًا على ما شاهد وسمع وقرأ في كثير من الكتب الهندية باللغة السنسكريتية، بحسب العلامة أحمد أمين في موسوعته «ضحى الإسلام» (ج2)..