"الإعلام العربي اليوم أمام امتحان حقيقي".. فهذا الامتحان لا يتعلق فقط بالتقنيات الحديثة، بل بجوهر المهنة نفسها: كيف يمكن الحفاظ على الهوية، وضمان المهنية، وفي الوقت نفسه الاستفادة من أدوات العصر؟
بدأت ضيفتنا حديثها مع جريدة (((عمان)))) بهذا التساؤل، وأضافت أن الإجابة ليست سهلة، لكنها ترى أن المستقبل سيكون للإعلام القادر على الجمع بين الخبرة الإنسانية والتكنولوجيا، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
في هذا الحوار تحدثنا الدكتورة سهير عثمان أكاديمية وإعلامية مصرية عن الحرية التي سمحت بتعدد المصادر وبالتفاعل المباشر مع الجمهور، مبينة أن الإعلام التقليدي لم يفقد أهميته، فهو الذي وثق الذاكرة الثقافية وحافظ على الهوية لسنوات طويلة، لكن مشكلته اليوم تكمن في ضعف البنية الداخلية وفقدان الثقة من الجمهور..
هل العلاقة بين الإعلام التقليدي ووسائل التواصل شراكة أم تنافس؟
في علاقة معقدة، تعكس منافسة قوية على الجمهور، قد تتحول إلى شراكة مثمرة إذا استخدمت المنصات لنشر محتوى بطريقة أكثر جاذبية، خاصة مع التحول الكبير الذي يعيشه الإعلام العربي. فالتحولات التي فرضها الإعلام الرقمي، منحت منصات التواصل الاجتماعي حرية واسعة، وأصبح من السهل لأي فرد أن يقدم نفسه كصحفي عبر حسابه. وفي المقابل نجد أننا أمام مرحلة جديدة لم تعد الوسائل التقليدية قادرة وحدها على التعامل معها. فالصحف الورقية والقنوات الرسمية فقدت كثيرا من جمهورها، لأن أنماط التلقي تغيرت، وأصبح المتابع يبحث عن السرعة والتفاعل أكثر من العمق.
هناك من يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مؤثرة أكثر من الصحافة التقليدية. هل تظنين أن هذه الوسائل يجب أن تدار من قبل صحفيين متخصصين؟
ليست بالضرورة. هناك صفحات يديرها أشخاص عاديون، وهذا أمر مقبول، لكن الخطورة تكمن في نشر أخبار بلا تدقيق. أما المنصات التابعة للصحف أو المؤسسات الإعلامية فهي رسمية وتخضع لضوابط مهنية.
ما البديل أمام الصحفي؟
يمكن التوجه نحو الإعلام الجديد، مع الاستمرار في العمل بالإعلام التقليدي. العلاقة بينهما علاقة تكاملية، وليست تنافسية.
كيف يكون هذا التكامل؟
تاريخيا، كل وسيلة إعلامية جديدة لم تلغ ما قبلها. الصحف ما زالت موجودة رغم ظهور التلفزيون، والتلفزيون مستمر رغم وجود الإنترنت. لكن المهم أن تتكامل الوسائل: فالقنوات والصحف الرسمية تملك مواقع إلكترونية وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها تدرك أن الجيل الجديد يتابع الأخبار عبر "إنستجرام" و"سناب شات" أكثر من القنوات الفضائية.
ما الفرق بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد في المحتوى؟
الإعلام التقليدي يعتمد على خطة تحريرية وفريق عمل، بينما منصات التواصل الاجتماعي قد يديرها شخص واحد بلا تدريب صحفي، فينشر أي معلومة أو إشاعة فتتحول إلى "ترند". لذلك تنتشر الأخبار التافهة والفضائح أسرع من الأخبار المهمة.
والموازنة بينهما تتطلب التمسك بأساسيات الصحافة التقليدية من تحقيق ودقة وموضوعية، وفي الوقت نفسه إتقان أدوات الإعلام الجديد: الذكاء الاصطناعي، والتفاعل عبر المنصات، وإعادة صياغة الأخبار لتناسب جمهور الشبكات الاجتماعية، الذي يختلف تماما عن جمهور الجريدة الورقية.
ما شروط جودة البودكاست الصحفي أو الثقافي؟
أهم شروط الجودة هي: ثبات الصوت، ومقدم جذاب وذو قدرات عالية في الحوار، وإعداد جيد قبل الحلقة، مع تحقيق التوازن بين المحاور والضيف.
كيف ترين مستقبل الصحافة مع بالذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي يمثل أهم تحول يعيشه الإعلام في الوقت الحالي، فالتقنيات توفر للصحفي أدوات تساعده كالتدقيق السريع، والتلخيص، وتحليل كم هائل من البيانات في وقت قصير. إلا أنها لا يمكن أن تحل محل الخبرة الإنسانية. فالصحفي ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل إن دوره يرتبط بالتحليل والربط بين السياقات، وهي أمور لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقوم بها بالعمق ذاته.
هل هناك صحافة استقصائية حقيقية في الوطن العربي؟
نعم موجودة، وهناك مؤسسات تدعم ذلك، مثل مؤسسة "أريج" التي توفر أدوات وإرشادات للصحفيين العرب لإجراء التحقيقات الاستقصائية. لكن يجب أن يكون هناك هامش من الحرية ودعم من وسيلة الإعلام نفسها، بالإضافة إلى أن هذه التحقيقات تحتاج وقتا طويلا وغالبا تحمل مخاطر على الصحفي.
كيف يستخدم الإعلام كسلاح في الحروب؟
الإعلام يستخدم كسلاح غير تقليدي في الحروب، وهو جزء من "الحروب النفسية". الدول تجند قنوات لخدمة أهدافها، وهذا أمر طبيعي لأن كل حكومة تستخدم أدواتها للتأثير في الرأي العام، وكذلك يفعل الخصوم. إسرائيل مثلا تستخدم إعلامها بكل أشكاله، ولها متحدثون يتقنون العربية ويخاطبون الجمهور العربي مباشرة.
والإعلام يكشف حقائق مزعجة. خذي مثال حرب العراق عام 2003؛ كانت قناة CNN هي الوحيدة المخولة بالتغطية، لكن ظهرت المدونات وقتها كمضاد، حيث بدأ مواطنون يكتبون وينشرون ما يرونه على الإنترنت. ومن هنا برز مفهوم "إعلام المواطن".
كيف نواجه الإعلام الموجه ونحذر منه؟
المواجهة لا تقع على عاتق الدولة وحدها. هناك عناصر عديدة يجب أن تشارك في نشر الوعي منهم: قادة الرأي، والمؤسسات الإعلامية، والجامعات، والمدارس، ورجال الدين. كل هؤلاء عليهم دور في توعية الشباب بخطر المعلومات الزائفة وتعدد مصادرها.
ما الدور الذي يلعبه الإعلام العربي في معالجة قضايا الهوية الوطنية، والمرأة، والشباب؟
هذه قضايا بالغة الأهمية، لأنها تحدد مستقبل الأجيال. الإعلام يمتاز بقدرته على الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور، ومن هنا تبرز أهميته في تعزيز الانتماء والهوية. قدمت في التلفزيون المصري حلقة حول ضرورة تعريف الشباب بتاريخ بلادهم وإنجازاتها، مثل انتصارات حرب أكتوبر، لأن جيلا من الشباب لا يعرف حتى سبب الإجازة الرسمية في السادس من أكتوبر. وغرس الوعي بالإنجازات يخلق انتماء حقيقيا، ويحصن الشباب من الانسياق وراء أفكار غريبة أو مستوردة.
كيف يمكن معالجة قضية تراجع الهوية وانتشار الأفكار الغريبة في منصات مثل "نتفليكس" وغيرها؟
السبب الرئيسي هو تراجع دور الدين في حياة الناس. الدين عنصر أساسي في بناء الهوية والقيم. وهنا يأتي دور الأسرة أولا، ثم الإعلام الذي يجب أن يستضيف رجال دين ذوي قبول لدى الجماهير، ممن يجمعون بين العمق والطرح العصري. لدينا في مصر مثلا شخصيات مثل مصطفى حسني، وهو قريب من الشباب بأسلوبه، ويستطيع أن يربط الدين بالهوية والانتماء بشكل إيجابي.
تنتشر الآن ظاهرة المؤثرين.. ولها تأثير كبير على جيل الشباب..
إن بروز هذه الفئة أحد أبرز مظاهر الإعلام الجديد. وكثير منهم يقدم محتوى سريعا يهدف إلى الشهرة والربح أكثر مما يهدف إلى التثقيف أو النقاش الجاد. كما أن بعضهم يعتمد على السخرية لجذب الانتباه، وهذا يضعف قيمة الموضوعات المطروحة ويجعلها أقرب للترفيه منها للنقاش الحقيقي.
هل للأسرة دور أكبر من الإعلام في مواجهة مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي؟
نعم، دور الأسرة أساسي. الأسرة هي التي تضع ضوابط وقتية للمشاهدة أو استخدام الشاشات، وهي التي تزرع قيم الحوار والتفكير النقدي. الدراسات أثبتت أن الإفراط في استخدام مواقع التواصل قد يغير حتى تركيب الدماغ، كما ظهر في أبحاث صينية. لذلك الحوار داخل الأسرة ضرورة، وهو أصعب لكنه أكثر فاعلية من أي إجراء آخر.
ماذا عن الشائعات التي تنتشر بكثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ كيف يمكن التصدي لها؟
الشائعة غالبا ما تنطلق من جزء صحيح، ثم يبنى عليه سردية خاطئة. لذلك حين تتأخر وسائل الإعلام الرسمية في نشر الحقيقة الكاملة، تفسح المجال للشائعات. ودور الحكومة أساسي في سرعة الرد والتصحيح. أما الإعلام فعليه أن يثقف الجمهور بطرق التحقق من الأخبار قبل نشرها أو مشاركتها، ليصبح المواطن نفسه خط دفاع ضد الشائعة.
ما آليات التحقق والمصداقية التي تنصح بها لمعدي المحتوى على الشبكات الاجتماعية؟
هناك أدوات كثيرة للتحقق من صحة المعلومات، سواء كانت يدوية أو إلكترونية، مثل مواقع Fact-Checking Tools. هذه الأدوات تساعد على التأكد من المصادر ومصداقية المحتوى قبل النشر، ويجب اعتمادها كأسلوب روتيني لمعدي المحتوى على الإنترنت.
في قانون الإعلام العماني الي صدر مؤخرا اتجه إلى تنظيم المنصات الإعلامية، خصوصا الصفحات الإخبارية العامة على وسائل التواصل الاجتماعي؟
أي منصة إخبارية عامة تحتاج إلى ترخيص، ولا يجوز أن تدار بلا ضوابط. القانون جاء لينظم هذا المجال، لأن كثيرا من الصحفيين يرفعون شعار الحرية المطلقة، بينما هناك معايير مهنية وقانونية يجب الالتزام بها.
بعض الصحفيين يرون أن القوانين تقيد عملهم.. ما رأيك؟
القوانين بطبيعتها قابلة للنقد، لكن لا بد من النظر إليها كجزء من تنظيم المشهد الإعلامي. صحيح أن هناك قيودا، لكن الصحفي لا يمكنه أن يقول في مقابلة مثلا: "هذا الشخص فاشل"، لأن مثل هذه الأحكام الشخصية لا تعتبر ممارسة مهنية. الحرية يجب أن تكون مرتبطة بالمسؤولية.
كيف توازنين بين حرية الصحافة والمسؤولية الاجتماعية؟
حرية الإعلام لا يمكن أن تكون مطلقة، بل يجب أن تمارس في إطار المسؤولية الاجتماعية. فالصحفي أو المذيع أو مقدم البرامج مسؤول عن جمهوره، وعن التأثير الذي تتركه كلماته. في مجتمعات تمر بأزمات سياسية أو اقتصادية – كما حدث في مصر بعد 2013 مثلا – لو ترك المجال مفتوحا للإعلام ليغذي الأزمات، لانهارت الدولة. الحرية هنا يجب أن تكون منضبطة، وإلا تحولت إلى أداة هدم.
كيف يمكن تطوير مهارات الصحفيين في سلطنة عمان؟
يجب تدريبهم على كل أنواع الصحافة كالتقارير، والتحقيقات الاستقصائية، و"الفيتشرز". بالإضافة إلى ضرورة فهم أدوات القياس، وتحليل أثر المحتوى الإعلامي، مثل الاستطلاعات البسيطة للرأي العام، واللجان المحايدة من الأكاديميين والخبراء لتقييم المحتوى وفق معايير المصادر وطريقة الكتابة والصور المستخدمة.
هل هناك مجالات تخصصية يمكن للإعلام العماني التركيز عليها؟
الإعلام يمكن أن يتخصص في قضايا تهم العالم كله، مثل المناخ والبيئة، لأنها تلامس حياة القارئ مباشرة، وتتيح مساحة واسعة للإعلام الوطني والعالمي على حد سواء.

**media[3133125]**