نافي بيلاي 

ترجمة: أحمد شافعي

في عام 1995 طلب مني رئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا أن أتولى منصب قاضية في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وقد أدانت الهيئة القضائية التي ترأستها ثلاثة من المواطنين الروانديين بالإبادة الجماعية. لذلك فإنني أفهم كلمة "الإبادة الجماعية" ولا أستعملها باستخفاف. وأفهم أنها المحاولة العمدية لتدمير شعب، إما كليا أو جزئيا. وأفهم أنها تمثل أشد الانتهاكات جسامة لإنسانيتنا المشتركة وتمثل أشد خرق للقانون الدولي.
واليوم تنشر لجنة الأمم المتحدة التي أرأسها تحليلها القانوني لسلوك إسرائيل في قطاع غزة. وما انتهينا إليه قاطع: وهو أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في حق الفلسطينيين في غزة. وتقوم هذه النتيجة على تحقيقات وأدلة مستفيضة من الفترة الممتدة من 7 أكتوبر 2023 إلى 31 يوليو 2025. وقد تأيدت هذه النتيجة من خلال العديد من المصادر وتم تقييمها عبر الإطار القانوني الصارم لاتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية في عام 1948 التي تعد إسرائيل طرفا فيها.
لقد قام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2023 بتأسيس منظمتي وهي (لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة)، ويشرف عليها خبراء معينون بدعم من أمانة الأمم المتحدة. وترفع اللجنة تقارير نتائجها إلى مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة.
إن حجم الدمار رهيب. إذ لقي أكثر من أربعة وستين ألف فلسطيني مصرعهم، ومن بينهم ما يزيد على ثمانية عشر ألف طفل وقرابة عشرة آلاف امرأة، وفقا لمسئولي الصحة في غزة. ويقدَّر أن العمر المتوقع في غزة قد تهاوي من خمسة وسبعين عاما إلى ما لا يزيد إلا قليلا عن أربعين عاما خلال سنة واحدة، وذلك من أسرع الانهيارات المسجلة. تعرضت مستشفيات ومدارس وكنائس ومساجد وأحياء كاملة للتدمير. وانتهى تحليلنا إلى أن التجويع قد استعمل سلاحا حربيا وأنه تم تدمير النظام الصحي تدميرا عمديا. وتقوض نظام الرعاية الصحية الأمومية بدرجة كبيرة. وتعرض الأطفال للتجويع، وضرب النار، والدفن تحت الأنقاض. ووفقا لليونيسيف، يموت طفل في الساعة داخل غزة. وليست هذه أعمال حرب. إنما هي أعمال محسوية لتحقيق دمار شعب.
والحكم بالإبادة الجماعية لا يستوجب الأفعال وحدها وإنما النية أيضا. وها هنا أيضا الدليل واضح. فقد عمد مسئولون إسرائيليون كبار منهم الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم . فقد قال يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي إبان السابع من أكتوبر: "إننا نقاتل حيوانات بشرية" بينما أعلن الرئيس إسحاق هرتسوج أن الشعب الفلسطيني بأكمله مسئول. وصدقت الأفعال أقوالهم هذه: من قصف عشوائي أحال غزة إلى منطقة غير صالحة للسكنى ومنع للمساعدات الإنسانية، وعنف جنسي وقائم على أساس جندري وحصار خلصنا إلى أن القصد منه هو تجويع الشعب حتى الموت. وكل هذه الأفعال تشكل معا نمطا يبين نية الإبادة الجماعية.
كما أنه تبين للجنة أن فلسطينيين لقوا مصرعهم وهم يسعون إلى الحصول على الطعام من مراكز التوزيع التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية ـ وهي كيان مدعوم من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وقد حل إلى حد كبير محل شبكة المساعدة القائمة. ولقد تعرض مئات، من بينهم أطفال، لإطلاق الرصاص وهم يحاولون الحصول على المساعدة.
يذهب البعض إلى أن مصطح "الإبادة الجماعية" أشد خطرا من أن يتم تطبيقه بينما حرب إسرائيل لا تزال مستمرة. لكن القانون صريح في هذا الصدد إذ يقول إن: الالتزام بمنع الإبادة الجماعية ينشأ في اللحظة التي يتضح فيها وجود خطر إبادة جماعية جسيم. وقد تم تجاوز هذا الحد منذ أمد بعيد في هذه الحرب. ففي يناير من عام 2024، أشعرت محكمة العدل الدولية جميع الدول بوجود خطر ارتكاب إبادة جماعية جسيم في غزة. ومنذ ذلك الحين، ازدادت الأدلة عمقا، وتضاعفت أعمال القتل.
ما الذي يعنيه ذلك إذن بالنسبة للمجتمع الدولي؟ يعني أن التزاماته ليست اختيارية. فكل دولة ملزمة بمنع الإبادة الجماعية أينما تقع. وهذا الالتزام يستوجب العمل: أي الامتناع عن نقل الأسلحة والدعم العسكري المستعملين في أعمال الإبادة الجماعية، وضمان الدعم الإنساني غير المقطوع، وإيقاف النزوح الجماعي والتدمير، واستعمال كل السبل الدبلوماسية والقانونية المتاحة لإيقاف القتل. وليس التقاعس عن العمل حيادا، ولكنه تواطؤ.
ولست أكتب هذه الكلمات بوصفي خصما لإسرائيل. فأنا أعترف بمعاناة الإسرائيليين الذين فقدوا أحبابا لهم من جراء هجمات حماس المريعة في السابع من أكتوبر إذ قتلت منهم قرابة ألف ومئتي شخص، وأعترف بألم عائلات قرابة خمسين رهينة لا تزال في الأسر، ويعتقد أن عشرين منهم لا يزالون على قيد الحياة. وقد استنكرت لجنتي جرائم حماس. لكن ما من جريمة، مهما بلغت جسامتها، تبرر الإبادة الجماعية. والاستجابة للوحشية بوحشية تعني التخلي عن القيمة التي تأسس القانون الدولي من أجل حمايتها.
سوف يحكم التاريخ على كيفية استجابة العالم. ففي رواندا، لم يمنع المجتمع الدولي الإبادة الجماعية، ولا تدخل لإيقاف القتل فور أن بدأت الإبادة الجماعية. واليوم يعجز المجتمع الدولي تارة أخرى عن العمل، وهذه المرة في غزة. والحقائق ترد إلينا كل يوم. والتحذيرات لا لبس فيها. والقانون واضح. وما على المحك هو بقاء شعب كامل، فأي شيء أخطر من هذا؟
ولا يقتصر الالتزام بمنع الإبادة الجماعية على الدول وحدها وإنما يمتد إلى النظام الدولي ككل. فلا يجب أن يكون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مقبرة للضمير. والمنظمات الإقليمية، والبرلمانات الوطنية، والمجتمع المدني، والمواطنون العاديون جميعا لهم دور يقومون به في الضغط على الحكومات من أجل التحرك. لقد ولدت اتفاقية الإبادة الجماعية من رفات الهولوكوست بعهد جليل: "ألا يتكرر الأمر أبدا". وذلك العهد يفقد معناه إن كان تطبيقه على البعض دون البعض.
وإنني أحث كل حكومة، وكل زعيم، وكل مواطن على أن يتساءل: ما الذي سنقوله لأبنائنا وأحفادنا حينما يسألوننا عما فعلناه لغزة وهي تحرق حتى تسوى بالأرض؟ إن كل إبادة جماعية اختبار للإنسانية التي تربط بيننا جميعا.
وليس منع الإبادة الجماعية مسألة تقديرية للدول، إنما هو التزام قانوني وأخلاقي لا يقبل التأخير. والقانون يستوجب العمل. وإنسانيتنا تدعونا إليه.
•نافي بيلاي رئيسة لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وإسرائيل، وهي مفوضة سامية سابقة لحقوق الإنسان

**media[3132734]**