في مطلع سبتمبر الحاليّ، خرج داود ربيع، المسن السبعيني من دير أبو مشعل، يتفقد أرضه التي ورثها عن أبيه وأمه، أرض عاش عمره فيها يحرثها ويزرعها كأنها قطعة من روحه. كان يتوقع أن يجد ترابها بانتظاره، لكن بدلاً من ذلك وجد جرافات الاحتلال وقد حولتها إلى مسار ترابي طويل، يلتف كالأفعى في خاصرة القرية.
يقول بصوت مخنوق: «نتألم من الداخل. لا نعرف ماذا يحدث؟ حرثت هذه الأرض مؤخرًا، فهي ملكية خاصة ومعي الأوراق التي تثبت ذلك. لكن جيش الاحتلال لم يسمح لنا بالاقتراب منها، وليست هناك طريقة أخرى للوصول إليها».
يستعيد داود ذكرياته حين رفض والده، أحد وجهاء القرية المعروفين، كل الإغراءات المالية التي عرضها المستوطنون عليه في حياته لبيع الأرض، قائلا: إن الأرض أغلى من كل مال الدنيا. يوضح لـ«عُمان»: «أبي وأمي استُشهدا في الانتفاضة الأولى، وكان أبي من الرجال الذين يرفضون المساومة. لو وضعوا له مال الدنيا لن يفرّط في أرضه. واليوم، ونحن أبناؤه، نُمنع حتى من دخولها».
الأرض بالنسبة لداود ليست مجرد مساحة زراعية أو مصدر رزق، بل هي إرث وتاريخ وذاكرة، هي الحكاية التي يرويها لأولاده وأحفاده عن بقاء العائلة متجذرة في ترابها رغم كل محاولات الاقتلاع. لكن الاحتلال يعرف جيدًا أن قتل الذاكرة يبدأ من سرقة الأرض، وأن فصل الفلسطيني عن أرضه يعني حرمانه من حياته بأكملها.
في كل صباح، يقف داود على طرف الطريق الذي شُق بالقوة، ينظر إليه من بعيد وكأنه ينظر إلى بيت عزيز أُغلق في وجهه. يقول إن قلبه لم يعد يحتمل، وإنه يتألم في صمت، ككل فلسطيني رأى أرضه تتحول إلى طريق استيطاني لا يمر به إلا الغريب.
تقطيع أوصال الضفة
لم يعد مخطط «E1» الاستيطاني مجرد ورقة في أدراج الوزارات الإسرائيلية، بل صار حقيقة تُشق يوميًا على الأرض. ففي أغسطس الماضي، صادق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على المشروع الذي يضم أكثر من 3400 وحدة استيطانية، مع شبكة من الطرق الالتفافية التي تهدف إلى عزل القدس عن محيطها الفلسطيني، وفصل شمال الضفة عن جنوبها.
الطريق الذي يُعرف بـ«الطريق الدائري الشرقي»، حيث بُني بجدار إسمنتي يقسمه إلى مسارين؛ أحدهما للمستوطنين بمرور حر، وآخر للفلسطينيين محاط بالحواجز. هذا الطريق ليس استثناءً، بل واحد من عشرات الطرق التي تشقها سلطات الاحتلال لتقسيم الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى جزر متناثرة.
تقارير حقوقية، بينها تقرير صادر عن مؤسسة «كسر الصمت» الإسرائيلية، أكدت أن هذه الطرق تسلب آلاف الدونمات من المزارعين الفلسطينيين، وتُفقدهم قدرتهم على الوصول إلى أراضيهم أو تسويق منتجاتهم. في دير أبو مشعل وحدها، يستولي الطريق الجديد على نحو 500 دونم من أراضي القرية، بينما صدرت أوامر عسكرية في أغسطس الماضي بالاستيلاء على 45 دونمًا في سلفيت وطوباس ودير استيا، تحت ذريعة «أغراض عسكرية».
الهدف المعلن للاحتلال ظهر في مخطط «E1» الذي أقرته الحكومة الإسرائيلية، والهدف منه: ليس تسهيل حركة الفلسطينيين ولا تحسين البنية التحتية، بل ربط المستوطنات بعضها ببعض، وقطع أوصال الضفة الغربية، ليصبح حلم الدولة الفلسطينية المستقلة مجرد وهم على ورق.
جُرح في جسد "دير أبو مشعل"
وأدلى عبد الله عطا، رئيس مجلس قروي دير أبو مشعل، بشهادته حول سرقة 500 دونم من أرض القرية من قبل المستوطنين، قائلاً: «مطلع الشهر الحالي، فوجئنا بمستوطن يشق طريقًا في منطقة القاطوع الشامي». موضحًا: «لم نتلقَ أي إخطار رسمي، فقط استيقظنا فوجدنا الجرافات تعمل، والجنود يحرسون».
ويتابع، في تصريح لـ«عُمان»: «حين اقتربنا للاعتراض، قال المستوطن بكل وقاحة: هذا العمل يتم بحماية جيش الاحتلال، وممنوع الاقتراب. الجنود أنفسهم أكدوا ذلك. نحن لا نملك إلا أن نشاهد أرضنا تتحول إلى طريق يخدم غيرنا».
ويؤكد عطا خنق القرى والتجمعات البدوية الفلسطينية عبر شق الطرق الاستيطانية وإقامة البوابات الإلكترونية: «الأمر لا يتوقف عند حدود دير أبو مشعل، ففي المنطقة الواقعة بين دير أبو مشعل ودير نظام وقرية عابود، أقام مستوطن من الرعاة بوابات حديدية، منع الأهالي من المرور أو الرعي فيها. أصبحت أرضنا سجنًا مغلقًا بأبواب يتحكم بها المستوطن».
ويحذر عطا من أن ما يحدث أخطر من مجرد مصادرة أرض، إذ يعني عزل القرى عن بعضها، وإغلاق مسارات الرعي، وإضعاف الترابط الاجتماعي والاقتصادي. ويختم: «كل شجرة زيتون تُقطع، وكل طريق يُشق، هو جرح جديد في جسد القرية».
واد الجوايا.. طريق يخنق البدو
في الجنوب، وتحديدًا في واد الجوايا بمسافر يطا، تواصل جرافات الاحتلال عملها بلا توقف لشق طريق استيطاني. منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو أكدت في بيان صحفي أن الاحتلال يشق طريقًا استيطانيًا جديدًا لربط البؤر الاستيطانية وتوسيع السيطرة على الأراضي.
المنظمة أوضحت أن هذا الطريق ليس عابرًا، بل يستهدف محاصرة التجمعات الفلسطينية البدوية في مسافر يطا، ومنعها من الحركة الحرة بين مراعيها ومصادر رزقها.
وتشير البيدر إلى أن أهالي المنطقة مهددون بأن يصبحوا سجناء طرق استيطانية تحيط بهم من كل الجهات، ما يعني فقدان المراعي، وإغلاق المدارس، وتقييد وصولهم إلى الخدمات الأساسية. موضحة: «الطرق هنا تتحول من وسيلة تنقل إلى أداة اقتلاع وتهجير».
يصف خالد البداوي، أحد سكان التجمعات البدوية في مسافر يطا، واقعهم اليومي، بقوله: «كل صباح نستيقظ على صوت الجرافات. نشاهد الأرض تُشق أمام أعيننا. أحيانًا يمنعوننا من المرور إلى المراعي، فنضطر إلى الالتفاف ساعات طويلة للوصول».
ويضيف خالد، لـ«عُمان»: «أبسط حقوقنا تُسلب. حتى ذهاب الأطفال إلى مدارسهم أصبح مغامرة، عليهم أن يلتفوا حول الطرق الجديدة أو يواجهوا خطر اعتداء المستوطنين».
ويتابع: «الأرض ليست مجرد تراب، هي حياتنا كلها. حين يُقطع الطريق بيننا وبينها، نشعر أننا نُقطع عن أنفاسنا. الاحتلال لا يريدنا هنا، يريد أن يُنهكنا حتى نرحل».
ويختم شهادته بصوت يغلبه اليأس: «نحن نعيش حصارًا داخل حصار. كل طريق يُشق يعني أننا أقرب إلى الطرد من أرضنا. لكننا سنبقى ما استطعنا، حتى لو حاصرونا من كل الجهات».
طرق الفصل العنصري
الناشط صلاح الخواجا عضو هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، يقول: «الطرق الاستيطانية ليست مجرد مشروعات بنية تحتية. إنها جدران فصل عنصري غير مرئية. كالسكاكين تُقسّم الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة».
ويضيف، في تصريح لـ«عُمان»: «بمضي هذه المشاريع، ستتحول الضفة إلى جزر منفصلة، يمنع المزارع من أرضه، والطالب من مدرسته، والطبيب من مريضه. الاحتلال يخلق واقعًا جديدًا يفرغ الأرض من أهلها تدريجيًا».
ويتابع الخواجا: «الطريق في واد الجوايا، والطريق في دير أبو مشعل، كلها تُنفذ تحت حماية الجيش الإسرائيلي، وبتغطية سياسية من حكومة نتنياهو. إنها جزء لا يتجزأ من مخطط E1 الذي يهدف إلى القضاء على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة».
ويختم قائلاً: «المطلوب اليوم ليس فقط احتجاجات محلية، بل تحرك دولي عاجل. لأن هذه الطرق، إذا اكتملت، ستُحكم الإغلاق على الضفة وتحوّل الفلسطينيين إلى غرباء في أرضهم».