رغم الزخم العربي والإسلامي الذي شهدته العاصمة القطرية الدوحة للخروج بقرارات رادعة ضد العدوان الصهيوني الغاشم على دولة قطر إلا أن القرارات التي انتهت إليها القمة العربية الإسلامية وإن كانت ليست في مستوى الطموح لكن من الناحية الموضوعية هي إيجابية وفق المنظور الآتي: على الصعيد العسكري يصعب في الأوضاع العربية والإسلامية الراهنة استخدام الخيار العسكري لأسباب تتعلق بوجود خلافات في المنظومة العربية والإسلامية، ثانيا يصعب الحديث عن خيار عسكري ضد الكيان الصهيوني في ظل التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ثالثا المنظومة العسكرية الخليجية يصعب أن تستخدم الخيار العسكري لوحدها، ولكن إذا كان هناك جيش عربي وإسلامي موحد يمكن الحديث عن ذلك الخيار، وهذا الامر يصعب تحقيقه في ظل الظروف السياسية الراهنة، وأخيرا تبقى الولايات المتحدة الأمريكية حليفا لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وإن كان بدرجات متفاوتة.
الخيار الاقتصادي يمكن استخدامه ضد الكيان الصهيوني من خلال غلق الأجواء أمام الطيران المدني الإسرائيلي، وأيضا خنق التجارة الإسرائيلية عبر الممرات البحرية الاستراتيجية خاصة قناة السويس وباب المندب وخليج عدن ومضيق هرمز وهناك تجربة إيجابية استخدام ممر باب المندب ضد السفن التجارية الإسرائيلية من قبل جماعة أنصار الله الحوثيين وحققت نجاحا جيدا، كما أن المأمول من الرأي العام العربي هو سحب السفراء وإنهاء التطبيع مع الكيان الصهيوني ردا على الاعتداء الإسرائيلي على دولة عربية عضو في مجلس التعاون الخليجي وعضو في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة.
هل حدثت ضغوط أمريكية على القمة أو على الأقل التخفيف من القرارات التي صدرت من القمة العربية الإسلامية؟ من الصعب الجزم بذلك ولكن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي روبيو في إسرائيل جاءت صادمة وتنم عن استخفاف بالمصالح العربية، وفي تصوري أن قرارات القمة العربية الإسلامية هي من الناحية الموضوعية مقبولة إلى حد ما، لأن ظروف الدول العربية بشكل خاص هي في أدنى مستوياتها حيث الخلافات والصراعات والحروب في السودان وليبيا واليمن وعدم الاستقرار في سوريا ولبنان، علاوة على وجود خلافات عميقة حول موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعلى ضوء ذلك فإن العرب أمام مفترق طرق في تاريخهم الحديث ويصعب الحديث عن مستقبل واضح للتماسك العربي والحفاظ على الأمن القومي العربي خاصة وأن المتطرف نتنياهو يكرر تصريحاته التي تهدد الدول العربية، ولعل الاعتداء الغادر من قبل إسرائيل على سيادة دولة قطر هو رسالة واضحة للدول العربية، بل إن نتنياهو قال إن أعداء إسرائيل سوف يتم الهجوم عليهم في أي مكان.. يعني حركة حماس وكل حركات المقاومة.
وعلى صعيد الاجتماع المرتقب لمجلس الدفاع الخليجي المشترك حول إيجاد منظومة دفاعية متطورة لحماية دول المجلس فهذه خطوة إستراتيجية مهمة في ظل الأخطار المحدقة بأمن واستقرار المنطقة، ولعل الفرصة كانت مواتية قبل عقود وبعد الغزو العسكري العراقي لدولة الكويت من خلال إيجاد جيش خليجي حيث أشرف على تلك الدراسة المهمة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ وعقدت اللجنة عدة اجتماعات وخلصت إلى تلك النتائج الحيوية، ولكن للأسف الشديد تجمد المشروع بسبب رفض بعض دول مجلس التعاون، ويمكن تخيل وجود ذلك الجيش الخليجي بكل أدواته العسكرية والأمنية المتطورة مع شبكات الدفاع الجوي المتطورة وتطوره إلى جيش قوي تكون له اليد الطولى في الدفاع عن سيادة ومقدرات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وأيضا الاستعانة بالخبرات العسكرية والأمنية من بعض الدول العربية كمصر والأردن والعراق والجزائر.
الولايات المتحدة الأمريكية بعد الهجوم الإسرائيلي السافر على دولة قطر سقطت مصداقية إدارة ترامب، وأشرنا في أكثر من مقال إلى أن هذه الإدارة الأمريكية هي الأسوأ على صعيد المصداقية، رغم المصالح الأمريكية الكبيرة التي تربطها مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولعل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي روبيو في إسرائيل خلال المؤتمر الصحفي مع نتنياهو تعطي مؤشرا واضحا إلى أن الإدارة الأمريكية أصبحت متوافقة مع رأي نتنياهو وحكومته المتطرفة حتى على صعيد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن هنا فإن المراجعة الخليجية تحديدا حول العلاقات والمصالح مع إدارة ترامب يجب أن تكون واضحة من خلال النقاش الصريح وهناك خيارات الاتجاه شرقا حيث دول جنوب شرق آسيا،الصين واليابان وبقية النمور الآسيوية وهناك في آسيا الهند ذات المصالح المشتركة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهناك روسيا الاتحادية وحتى دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل مثلا، ومن هنا لا يمكن الركون من الناحية الموضوعية على حليف يفتقد الوضوح والمصداقية، فالهجوم الإسرائيلي الغاشم على دولة قطر جاء بموافقة من ترامب حيث لا يستطيع نتنياهو أن يقدم على هذه الخطوة الغادرة، وعلى ضوء ذلك فإن تقييم العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة الأمريكية هي جزء أصيل من مستقبل هذه المنطقة وأجيالها ومقدراتها وصون الأمن القومي العربي الذي يتعرض لنكسات خطيرة من خلال الاعتداء السافر على دولة خليجية عربية تقوم بالوساطة لإنهاء أبشع حرب إبادة جماعية تقوم بارتكابها عصابات نتنياهو. وكانت إدارة ترامب جزءا من الوساطة إضافة الى مصر.
إن المعايير الأخلاقية الأمريكية سقطت بفعل إدارة ترامب التي لم تستوعب تاريخا طويلا من العلاقات الراسخة والمصالح المشتركة بين الدول العربية عموما والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لعبت الطاقة دورا محوريا في نمو تلك العلاقات الدبلوماسية والتعليمية والثقافية والتجارية، حيث يصعب مساواة مصالح واشنطن المتشعبة مع الدول العربية مقارنة بالكيان الصهيوني الذي يعتمد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية وهي من أموال دافعي الضرائب من الشعب الأمريكي، وعلى ضوء تلك المحددات فإن المشهد السياسي العربي في غاية التعقيد في ظل إرهاصات ونتائج الاعتداء الخطير من قبل الكيان الإسرائيلي على دولة قطر، ولعل من الأمور الإيجابية هو الحشد العربي والإسلامي الذي احتضنته الدوحة عاصمة قطر وهو يشكل رمزية سياسية مهمة.
إن المتطرف نتنياهو يحلم بالتمدد الجغرافي للكيان الصهيوني ورغم أن حلمه سراب لكن ذلك يتطلب خططا إستراتيجية من الجانب العربي فالصهاينة يعملون على مشروع إسرائيل الكبرى والآخرون أي العرب لا يعملون وهناك تكون المعضلة الحقيقية للدول العربية.
قضية التحالف مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية أصبحت محل شك وهذا يتطلب مراجعة شاملة لمستقبل الدول العربية وخاصة منطقة الخليج العربي التي تعد من المناطق الاقتصادية الحيوية للعالم حيث الطاقة والتجارة ووجود الممرات البحرية والأسواق والاستثمارات، ومن هنا فإن الاجتماع المرتقب لمجلس الدفاع الخليجي واللجنة العليا ينبغي أن يناقش المنظومة بكافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في إطار من الشفافية والصراحة والوضوح، لأن الأمر أصبح في غاية الخطورة والأهمية. ورغم أن الكيان الصهيوني هو عدو للعرب منذ اندلاع الصراع ونكبة فلسطين عام ١٩٤٨ لكن لا بد من الاعتراف بأن هؤلاء القوم يعملون بجدية ولديهم مراكز أبحاث متطورة تقدم الخيارات لصناع القرار في حين أن الدول العربية عموما تفتقد مراكز بحثية على مستوى مهني متقدم وإن وجد بعضها فهي ليست على تواصل مع الحكومات بشكل مباشر وهذه معضلة كبيرة في ظل وجود خيار وحيد حتى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تعتمد بشكل كبير على الدراسات المتعمقة التي تقدم لها من الخبراء المتخصصين في تلك المراكز، ومن هنا فإن تعزيز وجود المراكز البحثية في المجالات المختلفة لم يعد ترفا ولكن ضرورة إستراتيجية ووطنية وقومية.
إن الحفاظ على الأوطان يحتاج إلى سياج من الفهم والسلوك الذي يقوم على العلم والتخطيط وانتهاج سياسات موضوعية وتقييم العلاقات والنظر إلى التطور الإقليمي والدولي بعيون فاحصة، فالذي حدث بعد الهجوم الإسرائيلي على دولة قطر ليس كقبله، الأوضاع تتغير بصورة دراماتيكية وقد يصعب في المرحلة القادمة معرفة الحليف من العدو، نحن نعيش في بيئية سياسية غامضة ومعقدة تحتاج إلى يقظة وعدم الارتكان إلى القواعد التقليدية التي تنظم العلاقات الدولية. وفي التحليل الأخير فإن حدث الاعتداء الغاشم على دولة قطر الشقيقة من قبل حكومة نتنياهو المتطرفة هو جرس إنذار أمني خطير يحتاج إلى مراجعة للمشهد الكلي بشكل عميق وموضوعي حتى لا يتكرر الاعتداء من جديد على أي دولة عربية أو إسلامية .
عوض بن سعيد باقوير صحفـي وكاتب سياسي وعضو مجلس الدولة