ترجمة: قاسم مكي -
أمير حسين ناروي طفل إيراني كان مصابا بمرض الثلاسيميا (أنيميا البحر الأبيض المتوسط)، وهو اضطراب وراثي في خلايا الدم يمكن علاجه بنقل الدم، والعقاقير التي تخفض التركُّزات السامة للحديد. هذه الأدوية تنتجها «نوفارتس» وهي شركة سويسرية- أمريكية أوقفت صادراتها الدوائية إلى إيران بعدما أعاد دونالد ترامب فرض العقوبات الأمريكية عليها خلال فترة رئاسة الأولى في مايو 2018. بعد أربعة أعوام لاحقا مات ناروي في سن العاشرة؛ نتيجة لمضاعفات كان سببها انعدام العلاج.
ناروي واحد من بين 150 مريضا بالثلاسيميا تقريبا كانوا يموتون سنويا في إيران التي يسود فيها المرض لعوامل وراثية وذلك مقارنة بأقل من 40 وفاة في العام قبل إعادة فرض العقوبات.
الأمثلة الشبيهة بذلك وفيرة؛ فوكالات العون الإنساني في فنزويلا أغلقت حساباتها المصرفية في البنوك الأمريكية بعد وقت قصير من فرض الولايات المتحدة حظرا على صادرات النفط الفنزويلية في عام 2019 ما أعاق جهود تقديم المساعدات الغذائية للأشخاص المحتاجين. وتعثرت جهود مساعدة ضحايا الزلزال في سوريا عام 2023 عندما رفضت البنوك إجراء المعاملات المصرفية الخاصة بالتبرعات والهبات؛ خوفا من اتهامها بانتهاك العقوبات الأمريكية.
وجدت دراسة ممولة بواسطة منظمة الصحة العالمية في عام 2023 آثارا ضارة باستمرار للعقوبات على الصحة والأنظمة الصحية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
أنصار العقوبات كثيرا ما يقللون من قيمة هذه النتائج، ويعتبرونها غير قاطعة. ويجادلون بأن ارتباط حدثين لا يعني وجود علاقة سببية بينهما. وكثيرا ما يُعزى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي أساسا إلى سوء الإدارة، وفساد الحكومات الخاضعة للعقوبات. ويزعم مسؤولو الحكومة الأمريكية بشكل روتيني أن العقوبات تتضمن استثناءات تتعلق بالجوانب الإنسانية. وهم عادة يعتبرون أية أضرار تترتب عن سياسة العقوبات على حياة الناس «غير مقصودة»، وناتجة عن «الإفراط في الالتزام» بالعقوبات من جانب المؤسسات المالية والجهات الاقتصادية الأخرى.
في مقال نشر في شهر أغسطس بواسطة المجلة الطبية «لانست جلوبال هيلث» الطبي ناقشنا أنا وزميلاي الباحثان سيلفيو ريندون، ومارك فايسبروت هذه المزاعم بتحليل «الأثر السببي» للعقوبات الدولية على معدلات الوفاة في فئات عمرية معينة؛ وذلك بناء على بيانات في 152 بلدا خضع للعقوبات في الفترة من 1971 الى 2021. استخدمنا في دراستنا التحليلية مجموعة من طرق القياس الاقتصادي المصممة خصيصا؛ للتعرف على الآثار السببية من البيانات المجمعة بواسطة الرصد والمراقبة.
عثرنا على أدلة متينة بوجود ارتباط سببي قوي بين العقوبات وازدياد الوفيات عبر معظم الفئات العمرية مع آثار واضحة خصوصا على المواليد والأطفال الصغار. فالتعرض للعقوبات مثلا يقود إلى زيادة بنسبة 8% في معدل وفيات الأطفال تحت سن الخامسة في البلدان المتأثرة.
استخدمنا هذا الإطار المنهجي لتحديد عدد الوفيات التي يمكن أن تُعزى إلى العقوبات في البلدان المستهدفة. وتقديرنا هو أن العقوبات خلال العقد الماضي ارتبطت بما يقارب 564 ألف حالة وفاة إضافية سنويا. هذا العدد من الوفيات الإضافية (الزائدة عن الوفيات المعتادة) يمكن مقارنته بالتقديرات الحالية للوفيات وسط المدنيين والعسكريين في الحروب خلال تلك السنوات.
العقوبات الأشد فتكا هي تلك التي تُفرض خارج إطار الأمم المتحدة متعدد الأطراف وخصوصا العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية. أحد التفسيرات الممكنة لذلك أن العقوبات الأمريكية كثيرا ما تسعى بشكل واضح إلى إحداث تدهور في مستويات المعيشة بالبلدان المستهدفة على أساس أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سيقود إلى تغيير النظام السياسي.
استخدام ما يسمى «العقوبات الذكية» التي تستهدف «مذنبين» محددين بدلا عن كل السكان كثيرا ما تكرر آثار العقوبات الشاملة بالتركيز على البنوك المركزية والشركات المملوكة للدولة والتي تلعب أدوارا حيوية في أداء الاقتصاد. هذه العقوبات الذكية يمكن أن تكون لها آثار (بما ذلك الوفيات الإضافية وسط المدنيين) تقارب في ضررها ما تسببه العقوبات الشاملة.
خلال العقود القليلة الماضية حدث توسُّع في استخدام العقوبات الاقتصادية بشكل مثير. وزادت حصة الاقتصاد العالمي الخاضعة للعقوبات الأحادية من 5% في الستينيات إلى 25% في الفترة بين عامي 2010 و2022.
وتشير النتائج التي توصلنا إليها في دراستنا إلى أن هذه الإجراءات العقابية تسبب ضررا مباشرا، والعديد من الوفيات الإضافية. بل في الواقع من الصعب تصور أية أداة سياسات أخرى لها مثل هذه الآثار السلبية القاسية على حياة البشر، وتستخدم بهذه الكثرة.
وودرو ويلسون (رئيس الولايات المتحدة في الفترة 1913-1921) وصف مرة العقوبات بقوله: إنها «أشد هولا من الحرب». وقال عنها أيضا: «إنها علاج مميت وصامت»، وليس بمقدور أي بلد تحمّله. وهو يعتقد أن قدرتها التدميرية الكبيرة ستقود إلى استخدامها باعتدال.
بعد قرن لاحقا حدث العكس؛ فقد أصبحت العقوبات سلاحا تلقائيا يوظَّف بشكل روتيني في دبلوماسية (الإكراه).
لكن سياسة العقوبات التي تقتل مئات الآلاف من المدنيين ليست سلمية، ولا يمكن الدفاع عنها. إنها سلاح «دمار شامل» اقتصادي يُستخدم بواسطة نفس القوى التي تزعم أنها تحافظ على المعايير والقيم العالمية.
فرانسيسكو رودريجيز زميل أول باحث بمركز أبحاث الاقتصاد والسياسات وأستاذ بجامعة دنفر
عن الفاينانشال تايمز