د. إسحاق بن يحيى الشعيلي -
حينما يبدأ الباحث في الموروث العماني بشكل عام في كتابة بحثه أو في سبر خبايا الإرث المعرفي لدى العمانيين يعتقد في بداية الأمر أن العمل سيكون مجرد بحث في كتابات قديمة أو في مزاولات لمعارف استخدمت أدواتها في مراحل متفرقة من الزمن، لكنه لا يدرك أن بداية إبحاره في هذا المجال سيقوده إلى المزيد والمزيد من البحث، فكل شبرفي هذا الوطن يعكس حضارة إنسان أسّس حياته بأدق تفاصيلها على المعرفة والعلم، لم يترك للطبيعة أو للصدفة أي مجال بل إن تكامل المعرفة هي من قادت الإنسان العماني لبناء حضارته وساهمت في تجذرها واستمرارها لمئات بل لآلاف السنوات كما تشير الدراسات التاريخية إلى ذلك.
وربما يكون الموروث الفلكي العماني والذي نحاول إبراز جوانبه المختلفة في سلسلة مقالاتنا خير مثال على ذلك فمن يظن أن دراسة هذا الجانب سهل وميسر فقد جانب الصواب ومن يحسب دراسته من باب الترف المعرفي فهو مخطئ أيما خطأ، فمن هذا العلم قامت حسابات البر والبحر ومنه عرف الجدب والخصب وفتح وغلق مسارات البحر، كما أنهم عرفوا مواسم الترحال بطلوع النجم وغروبه لا تطيرًا به ولا استئناسًا برؤيته، لكن منهجهم في ذلك (وعلامات وبالنجم هم يهتدون).
ومن يتبحر في هذا العلم يرى التنوع في التقاويم والحسابات والمعارف الفلكية بين البر والبحر وبين الجبال والصحاري وبين المحافظات المختلفة في سلطنة عمان حسب البيئة والحاجة لهذا العلم، وهناك جوانب لم تكشف بعد من هذه المعارف نحاول أن نكشف عنها في مقالنا هذا والذي نركز من خلاله على التقاويم الفلكية في محافظة ظفار ومدى الاستفادة من هذه التقاويم في الجوانب المختلفة من الحياة اليومية للإنسان العماني، ومما يميز هذا الجانب من الموروث الفلكي في محافظة ظفار هو ما تم حفظه إلى يومنا هذا من الموروث الفلكي بلغة «الهوبيوت» وهي لغة محصورة ضمن نطاق جغرافي محدود تشمل أجزاء من محافظة ظفار وبعض أجزاء من الجمهورية اليمنية لكنها تتميز بإرث معرفي ضارب في القدم وهو ما يكشف عن مدى تعمق الإنسان في العلوم التطبيقية في كل شبر من هذا الوطن من شماله إلى جنوبه.
التقويم الفلكي الزراعي بلغة الهوبيوت
تعد لغة الهوبيوت من اللغات المستخدمة في نطاق جغرافي محدود يمتد بين محافظة ظفار وأجزاء من الجمهورية اليمنية وتصنف على أنها من اللغات المهددة بالانقراض حسب دراسة قام بها مركز الدراسات العمانية بجامعة السلطان قابوس، وفي ورقته البحثية «تصنيف الهوبيوت (The Classification of Hobyot)» يشير آرون جي روبين إلى أن لغة الهوبيوت هي إحدى لغات جنوب شبه الجزيرة العربية الحديثة (MASL) وهي مجموعة فرعية من الفرع الغربي من عائلة اللغات السامية التي تضم أيضا المهرية والجبالية والحرسوسية والبطحرية والسقطرية، وهذا أيضا ما يذكره أكيو ناكانو (Aki’o Nakano) وسيميون-سينيل (Simeone-Senelle) في أوراقهم البحثية المنشورة عن هذه اللغة والمقارنة بينها وبين لغات جنوب الجزيرة العربية، غير أن دراسة الهوبيوت ربما تكون متأخرة بشكل كبير عن اللغات الأخرى كالجبالية والمهرية، فلم يذكر في المصادر أي دراسات تختص بهذه اللغة إلا في أوقات متأخرة من القرن الماضي وربما ذلك يعود إلى أن عدد المتحدثين بهذه اللغة قليل جدا مقارنة ببقية اللغات أو أن البعض يدرسها ضمن نطاق واحد ضمن لسان ظفار الحميري وهذا ما نجده في الدراسة المعجمية للدكتور محمد بن سالم المعشني وهو عمل رائع ومصدر مهم لفهم الجانب اللغوي للغات الحميرية، ورغم محدودية البقعة الجغرافية إلا أن لغة الهوبيوت تتميز بمكانة علمية واسعة، فمن خلال اطلاعنا على الموروث الفلكي المستخدم عند الناطقين بهذه اللغة نرى أنه تأخرت دراسته والتعمق فيه وإظهاره ضمن الموروث الفلكي العماني ، ويعتمد التقويم الفلكي المستخدم عند الناطقين بهذه اللغة بشكل كبير على تقويم باكريت نسبة لبيت كريت الذين كان لهم الفضل الكبير في هذا التقويم وهنا يجب أن نذكر أن بعض التقاويم المستخدمة في محافظة ظفار يكون مصدرها من اليمن، ويذكر الباحث المختص في هذا المجال الأستاذ علي بن سيف هبيس في ورقته العلمية ( الموروث الفلكي الزراعي بلغة الهوبيوت) أن هناك حسابين يعتمد عليهم السكان المحليون هما حساب برطمع، وحساب برعثمون وحسب إفادة الرواة فإن الفارق في الحساب بينهم ثلاثة أيام حيث يتقدم برعثمون في إدخال فصل الخريف فيحسب دخوله بتاريخ 18 يونيو أما برطمع فيتأخر ثلاثة أيام أي الى 21 من شهر يونيو ويعتمد سكان قرية صرفيت الواقعة في ولاية ضلكوت التقويم الأول أي تقويم برطمع الذي يتطابق مع التقويم النجمي في محافظه ظفار في دخول فصل الخريف إلا إن الرواة من بيت باكريت يؤكدون أن هناك فارق نجم بين حسابهم والتقويم النجمي في محافظة ظفار. وهنا يمكن القول: إن الفارق المقصود هنا يمكن إرجاعه إلى اختلاف المنطقة الجغرافية وإن لم تكن بذلك البعد الجغرافي إلا أنه قد يكون تأثيره ملحوظًا عند مراقبة النجوم.
وكما هو في التقويم الفلكي لفصول السنة والنجوم في محافظة ظفار فإن السنة تقسم إلى أربعة فصول هي كالتالي:
- فصل الصيف: ويبدأ من شهر مارس ويستمر حتى منتصف شهر يونيو ويتوافق عدد النجوم ومسمياتها بين المتحدثين بلغة الهوبيوت بما هو موجود في عموم محافظة ظفار غير أن فصل الصيف يطلق عليه عند البعض موسم القيظ لارتفاع درجة الحرارة فيه، ونجوم هذا الفصل تشمل:
العوى، أسماك (السماك)، والغفر، والزبان، والكليل (الإكليل)، والقلب، والشول (الشولة). (نستخدم مصطلح النجوم هنا كما هو متداول محليا وليس من جانبه الفلكي البحت).
- فصل الخريف: يأتي بعد فصل الصيف ويبدأ مع دخول النعائم والمعروفة محليا باسم دفعات والبلدة والسعد وبعل مفتيقح وبلع وخبا وفرع. ويتم احتساب السنة الجديدة مع دخول هذا الفصل أو في منتصفه وهو موسم أمطار غزيرة وفيه يغلق بحر العرب أمام المسافرين منه إلى شواطئ الهند وشرق آسيا والصين.
- فصل الصرب: ويشار إليه في بعض التقاويم الفلكية الخاصة بمحافظة ظفار بفصل الربيع ويمتد من أواخر شهر سبتمبر إلى منتصف شهر ديسمبر، ونجومه حسب تقويم باكريت فهي:
(الدلو والحوت والنطح والبطين والثريا والبركان والهقعة). ونجم البركان هنا هو نجم الدبران وقد وصفه البعض ممن كتب في هذا الجانب بأنه (من نجوم كوكبة الثور وهو نجم أحمر اللون ينتهي مع طلوعه نشاط بحر العرب ويتقاصر النهار فيه ويطول الليل) وربما سمي بالبركان بسبب لونه المائل إلى الحمرة كما كان يراه الأقدمون ممن وثقوا قديما طلوع هذا النجم وجعلوه من النجوم المدرجة في فصل الصرب. يقول المثل: «نجم البركان كأنما كان» دليل على أنه لا فائدة من الزرع في هذا التوقيت من العام.
- فصل الشتاء: ونلاحظ هنا تأخر حسبة دخول الشتاء عما هو متعارف عليه في بعض التقاويم الفلكية لمحافظة ظفار، فعلى سبيل المثال نجد أن محمد بن سالم الحارثي
يشير في موسوعة الموروث الفلكي العماني القديم إلى أن فصل الشتاء يبدأ في 27 ديسمبر حسب التقاويم المحلية في حين نجد بدايته في تقويم باكريت تبدأ في 7 ديسمبر كما يورد ذلك الباحث الأستاذ علي بن سيف هبيس في ورقته البحثية حول الموروث الزراعي بلغة الهوبيوت (المشار لها سابقا)، وبالتالي فإن مواعيد النجوم أيضا تكون مختلفة فالهنعة وهي من نجوم الشتاء في التقويمين يكون دخولها في المصدر الأول (موسوعة الموروث العماني القديم) يوم 27 ديسمبر بينما نجد أنها في المصدر الثاني (ورقة الباحث الأستاذ علي هبيس) تكون يوم 7 ديسمبر غير أن النجوم لا تختلف بين التقاويم وهي على الترتيب:
الهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة.
ويمكن للبعض ملاحظة الفارق بين المأثور من التقاويم وحساباتها وبين ما هو واقع فعلا من حسابات فلكية يعرفها المختصون في هذا المجال، وهذا ما يوجد بعض الملاحظات على هذه التقاويم في وقتنا الحالي والتي يمكن إجمالها في نقاط رئيسية أشار إليها الدكتور محمد بن سالم الحارثي في الموسوعة المشار إليها سابقا:
- عدم التجديد في الجداول الأصلية والتي وضعت قبل عهود قديمة من الآن والاستمرار في نسخ هذه التقاويم رغم الاختلاف في الحسابات مع اختلاف الأزمنة.
- الأخذ بالتقاويم ونسخها دون تجديد خلق فارق زمني يصل إلى أكثر من 10 أيام في الحسابات وبتالي يتم الإشارة إلى بعض النجوم أنها من بين الفصل الفلاني والفصل الفلاني (كالصيف والخريف مثلا).
ورغم الدقة في الحسابات والتي تأخذ في الحسبان السنة الكبيسة فيتم فيها نظام الكبس كل أربع سنوات إلا أنه لابد من عمل مراجعات شاملة للتقاويم الفلكية من قبل المختصين وأهل المعرفة في هذا الجانب يتم من خلاله إعادة الدقة إلى هذه التقاويم بحيث تتناسب والحسابات الفلكية مما يزيد من القيمة العلمية لهذه التقاويم وهذا لا يشكك إطلاقا من مكانة التقاويم فهي قائمة على حسابات دقيقة وفهم عميق لكن يجب مع ذلك الأخذ بحركة النجوم والمطالع ومدى اختلاف ذلك مع تقادم السنوات.
وهنا يجب أن نشير إلى الأهمية العلمية لهذه التقاويم فهي المصدر الأول للعديد من الأنشطة التجارية والزراعية والبحرية والدينية للإنسان العماني، فنجد على سبيل المثال معرفة مواقيت الزراعة والحصاد تعتمد على دخول الفصول ومعرفة المنازل ومثلها أيضا الرحلات التجارية في البحر وخاصة في فصل الخريف إذ يغلق بحر العرب لمدة تسعين يوما لا تستطيع السفن العبور منه إلى الهند وأيضا لا يمكنها العودة من الهند إلا بعد انتهاء رياح الكوس مع بداية شهر سبتمبر، هنا يكون لهذه التقاويم الأهمية الكبيرة لتحديد هذه المواسم، كما أن مواقيت الصلاة والشعائر تؤخذ من التقاويم التي توارثت الأجيال نسخها وتوزيعها على المساجد وقد تكفلت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بذلك فيما بعد.
الأمر الملاحظ هنا أيضا هو ترتيب الفصول واختلافها بين ما هو معمول به في تقاويم محافظة ظفار (ربيع، شتاء، صيف، خريف) وبين ما هو مستخدم في المحافظات الشمالية من سلطنة عمان ويؤخذ بالترتيب هنا نظرا لأن ذلك يتناسب مع الموقع الجغرافي وطبيعة المناخ في المحافظة. إن لغة الهوبيوت بما تحمله من خصوصية وإرث يختزن بين أبجدياتها قد مكنت الإنسان من نقل موروث فلكي عكس التناغم بين العلم والمعرفة وحياة الإنسان اليومية مما يجعل من تكثيف الدراسة في الجوانب المعرفية المختلفة ضرورة ملحة لحفظ الموروث الفلكي العماني وحمايته من الاندثار، كما أن هذا الإرث مع امتداده بين محافظة ظفار والجمهورية اليمنية يعطي رسالة واضحة بأن المعرفة يجب أن تدرس في نطاقها الجغرافي الواسع حتى يتاح للباحثين معرفة كامل تفاصيلها دون إهمال لجانب دون آخر والذي قد يقود إلى فهم ناقص لهذا العلم، فالمعروف أن العديد من التقاويم في محافظة ظفار تكون متوافقة بشكل كبير مع التقاويم في حضرموت وغيرها من المحافظات اليمنية وهذا يتطلب الأخذ بالبدايات والمصادر الرئيسية لهذه التقاويم. وخلاصة المقال، إن الموروث الفلكي في سلطنة عمان ضارب في القدم ومتنوع بتنوع البقعة الجغرافية لهذا الوطن العزيز الذي أوجد الإنسان واقعا يكون العلم ركيزته الأساسية بالتجربة والتمحيص وليس بالصدفة والجهل.
د. إسحاق بن يحيى الشعيلي رئيس الجمعية العُمانية للفك والفضاء