بيشوي قليني -
هل سبق أن أمسكت بهاتفك بهدف إنجاز مهمة سريعة كإرسال رسالة، فقط لتجد نفسك بعد نصف ساعة، أو ربما أكثر، ما زلت تائهًا في شلال لا ينتهي من التحديثات والصور والفيديوهات القصيرة؟ أو ربما بدأت يوم عملك بعزيمة صافية للتركيز على تقرير استراتيجي مهم، لتكتشف في نهايته أنه تمزق إلى أشلاء بسبب وابل مستمر من رسائل البريد الإلكتروني العاجلة، وتنبيهات برامج المحادثة الفورية، والمقاطعات المتتالية من الزملاء؟ هذه التجارب، التي أصبحت النسيج اليومي لحياة معظمنا، ليست حوادث معزولة أو مجرد مؤشر على ضعف الإرادة الفردية. إنها في الحقيقة الأعراض الظاهرة لتحول ثقافي واقتصادي عميق يشهده عصرنا، حيث لم يعد انتباهنا مجرد قدرة ذهنية نمتلكها، بل أصبح السلعة الأثمن في السوق العالمية، والمورد الأكثر استنزافًا في حياتنا اليومية.
منذ قرون، كان التحدي الأساسي أمام البشرية هو الوصول إلى المعرفة في عالم من الندرة المعلوماتية. أما اليوم، فنحن نغرق في محيط متلاطم من البيانات والمحتوى والآراء. هذه الوفرة المذهلة خلقت أزمة جديدة ومعاكسة، وهو ما لخصه بعبقرية مذهلة عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل هربرت سايمون، في عبارته النبوئية شديدة البساطة والعمق عام 1971، قبل عقود من ظهور الإنترنت التجاري: «وفرة المعلومات تخلق فقرًا في الانتباه». كانت هذه الجملة بمثابة إعلان عن انقلاب كامل في بنية القوة الاقتصادية. فبينما كانت الثروة في الماضي تُقاس بالأصول المادية كالأراضي والمصانع، أصبح الانتباه البشري، بطبيعته المحدودة والهشة، هو المورد الأكثر ندرة والأعلى طلبًا.
هذه الفكرة لم تعد حكرًا على منصات التواصل الاجتماعي، بل أصبحت المنطق التشغيلي الخفي لنمط الحياة المعاصرة بأكمله. شركات التكنولوجيا، وخدمات البث التي تصمم نماذج «المشاهدة المتواصلة»، وسائل الإعلام الإخبارية التي تعتمد على دورات الغضب على مدار 24 ساعة، وحتى ثقافة العمل الحديثة التي تمجد «الوجود الدائم»، كلها أطراف في حرب شرسة غير معلنة للاستحواذ على كل فتات من وعينا المحدود. فكل ثانية إضافية من وقتك تتحول إلى نقاط بيانات أو قيمة إعلانية أو مؤشر إنتاجية. لقد تحولنا من مجرد «مستهلكين» إلى «منتجات» في اقتصاد شامل، وهو ما أطلقت عليه شوشانا زوبوف أستاذة جامعة هارفارد، اسم «رأسمالية المراقبة» (Surveillance Capitalism). هذا النموذج لا يكتفي ببيع انتباهنا للمعلنين، بل يستخدم البيانات المستخرجة من سلوكنا لتوقع وتعديل سلوكنا المستقبلي، مما يجعله نظامًا أكثر تعقيدًا وخطورة.
هندسة التشتيت: من تصميم التطبيقات إلى تصميم الحياة
إن «هندسة الانتباه» لم تعد ممارسة محصورة في وادي السيليكون، بل امتد منطقها ليُعيد تشكيل بيئات العمل والحياة. صحيح أن التطبيقات والمنصات الرقمية هي المثال الأوضح، حيث تُصمم بعناية فائقة لاستغلال بيولوجيتنا العصبية. تُستخدم في ذلك آليات مثل «الاستجابة التوجيهية» (Orienting Response) للإشعارات التي تستغل ميل دماغنا الفطري للانتباه لكل ما هو جديد، واندفاع الدوبامين الناتج عن «التعزيز المتقطع» (Intermittent Reinforcement) للمكافآت المتغيرة، الذي يجعلنا نعود للتطبيق بشكل قهري، وإزالة «إشارات التوقف» الطبيعية عبر «التمرير اللانهائي» (Infinite Scroll).
لكن هذا المنطق الإدماني تسرب إلى حياتنا المهنية وأصبح جزءًا من نسيجها. فبيئة العمل الحديثة، خاصة في المكاتب المفتوحة التي صُممت ظاهريًا لتعزيز التعاون، هي في حقيقتها مصانع للتشتيت. أصبحت برامج مثل Slack وMicrosoft Teams بمثابة منصات تواصل اجتماعي للعمل، مع إشعاراتها المستمرة التي تخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا للاستجابة الفورية، خوفًا من أن يُنظر إلينا كغير متعاونين أو غير منتجين. ثقافة «البريد الإلكتروني الصفري» (Inbox Zero) والوجود الدائم على الإنترنت حولت الموظف من عامل معرفي يُنتج قيمة من خلال التفكير العميق، إلى موزع بشري للمعلومات، يقضي معظم وقته في الرد والتفاعل بدلًا من الخلق والإبداع.
لقد أصبحت القدرة على تعدد المهام (Multitasking) - والتي أثبت علم الأعصاب مرارًا أنها خرافة، وأن ما نقوم به حقًا هو تبديل سريع ومُرهِق للمهام بين السياقات المختلفة - وسام شرف يُحتفى به، بينما هي في الحقيقة وصفة للإرهاق المعرفي وتفتيت التركيز.
عقول مُجزأة وذاكرة مثقوبة: الثمن المعرفي
على المستوى العصبي، يقودنا هذا الانغماس الدائم في بيئة التحفيز المفرط إلى ثمن باهظ. فأدمغتنا، التي تتميز بخاصية «المرونة العصبية» (Neuroplasticity)، تتكيف مع ما نكرره. يمكن تشبيه ذلك بصنع طريق في غابة: كلما سلكت طريقًا معينًا، أصبح أوسع وأسهل للمرور، بينما تهمل الطرق الأخرى وتنمو فيها الأعشاب. وعندما ندرب أدمغتنا يوميًا على القفز السريع بين التنبيهات والمهام - سواء كانت إشعارًا من فيسبوك أو رسالة عاجلة من المدير - فإننا نقوي جسديًا المسارات العصبية المسؤولة عن الانتباه السطحي السريع، وذلك على حساب إضعاف وضمور الدوائر العصبية اللازمة للتركيز العميق والمستدام.
هذا التأثير، الذي يُعرف بـ«تكلفة تبديل السياق» (Context Switching Cost)، كارثي على الأداء المعرفي. فأبحاث غلوريا مارك، أستاذة المعلوماتية في جامعة كاليفورنيا، والتي امتدت لعقدين، أظهرت أن الموظف العادي يُقاطع أو يقاطع نفسه كل ثلاث دقائق تقريبًا، ويستغرق أكثر من 23 دقيقة للعودة إلى نفس مستوى التركيز العميق بعد كل مقاطعة. نحن لا ننتقل بين المهام بسلاسة، بل يتبقى ما تسميه الباحثة صوفي لوروا بـ«بقايا الانتباه» (Attention Residue) من المهمة السابقة، والتي تلوث قدرتنا على التركيز الكامل في المهمة الجديدة، مما يقلل من جودة عملنا ويزيد من شعورنا بالإجهاد.
الأخطر من ذلك هو التأثير طويل الأمد، والذي دفع باحثين مثل الطبيب النفسي الألماني مانفريد سبيتزر إلى صياغة مصطلح «الخرف الرقمي» (Digital Dementia). فالتركيز المستمر يقوي الروابط في قشرة الفص الجبهي (Prefrontal Cortex)، وهي بمثابة المدير التنفيذي للدماغ، المسؤولة عن التخطيط والتحكم في الانفعالات واتخاذ القرارات المعقدة. بيئة المقاطعات المستمرة تضعف هذه «العضلة» العقلية. في الوقت ذاته، فإن الحُصين (Hippocampus)، المسؤول عن عملية ترسيخ الذكريات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى طويلة الأمد، يحتاج إلى فترات تركيز خالية من المقاطعات ليعمل بفعالية. التشتيت المستمر يقطع هذه العملية الحيوية، مما يجعل معرفتنا سطحية ومجزأة، ويشجع على «التفريغ المعرفي» (Cognitive Offloading) بالاعتماد الكلي على محركات البحث بدلًا من بناء هياكل معرفية داخلية متماسكة.
جسد تحت الحصار: فسيولوجيا
القلق والإرهاق
إن تداعيات هذا النمط من الحياة لا تتوقف عند حدود دماغنا المعرفي، بل تمتد لتضرب بجذورها في صحتنا الجسدية والنفسية. كل إشعار يهتز به هاتفنا، وكل رسالة بريد إلكتروني تحمل علامة «عاجل»، تعمل كمُطلق صغير لاستجابة الكر والفر (Fight-or-Flight) في جهازنا العصبي. هذه الاستجابة، التي تطورت لحمايتنا من الأخطار المادية الوشيكة، أصبحت اليوم في حالة تفعيل شبه دائمة ومنخفضة المستوى. النتيجة هي إفراز مستمر لهرمونات التوتر، وعلى رأسها الكورتيزول والأدرينالين. على المدى القصير، يجعلنا هذا أكثر يقظة، ولكنه على المدى الطويل يصبح مدمرًا، حيث يرتبط ارتفاع الكورتيزول المزمن بمجموعة من الأمراض، من ارتفاع ضغط الدم وضعف جهاز المناعة إلى زيادة خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني.
نفسيًا، تخلق هذه الحالة من «اليقظة المفرطة» أرضًا خصبة لاضطرابات القلق. نحن نعيش في حالة ترقب دائم للمقاطعة التالية، مما يمنع جهازنا العصبي من العودة إلى حالته الطبيعية من الراحة والاسترخاء (استجابة الجهاز العصبي السمبتاوي). هذا هو السبب في أن الكثيرين يشعرون بإرهاق دائم رغم عدم قيامهم بمجهود بدني كبير؛ إنهم يعانون مما يُعرف بـ«الإرهاق المعرفي» (Cognitive Burnout)، وهو حالة من الاستنزاف العقلي والعاطفي تجعل من الصعب التركيز، وتفضي إلى الشعور باللامبالاة والانفصال عن العمل والحياة. وبهذا، لا يكون اقتصاد الانتباه مجرد سارق لتركيزنا، بل هو نظام يستنزف طاقتنا الحيوية على المستوى الخلوي.
اغتيال الإبداع: ثقافة «الإنتاجية» التي تقتل الأفكار
أحد أكبر ضحايا نمط الحياة المحفز باستمرار هو الإبداع الإنساني. لكي يزدهر، يحتاج العقل إلى شرطين أساسيين يتعرضان اليوم لهجوم مباشر ومنظم: «حالة التدفق» (Flow)، والملل. حالة التدفق، كما يصفها عالم النفس ميهالي تشيكسينتميهالي، هي تلك اللحظة السحرية من الانغماس المطلق في مهمة ما، حيث يختفي الإحساس بالزمن ويكون الأداء في ذروته. هذه الحالة تتطلب فترات طويلة نسبيًا (15-20 دقيقة على الأقل) من التركيز غير المتقطع للدخول فيها، وهو ما أصبح ترفًا نادرًا في جداول أعمالنا الممزقة بالمقاطعات.
لكن العدو الأكثر خبثًا للإبداع هو حربنا الثقافية المعلنة على الملل. لقد أصبحت ثقافتنا مهووسة بـ«الاستغلال الأمثل» لكل لحظة. نحن نستمع إلى البودكاست التعليمي أثناء قيادة السيارة، ونتابع الأخبار العاجلة أثناء الوقوف في الطابور، ونجيب على رسائل العمل أثناء تناول الغداء. قد يبدو الملل شعورًا سلبيًا وفراغًا يجب القضاء عليه، لكنه من منظور علم الأعصاب هو تلك المساحة الذهنية الثمينة التي تنشط فيها «شبكة الوضع الافتراضي» (Default Mode Network) في الدماغ. هذه الشبكة، التي لا تعمل إلا عندما يكون العقل هائمًا بلا مهمة محددة، هي المسؤولة عن أحلام اليقظة، والتفكير في المستقبل، ودمج الذكريات، والأهم من ذلك، ربط الأفكار المتباعدة التي لا تبدو مرتبطة ببعضها، مما يولد الإلهامات الجديدة و«لحظات التجلي». عندما نقضي على كل لحظة فراغ، فإننا عمليًا نغلق المصنع الذي تولد فيه أفضل وأكثر أفكارنا أصالة.
تآكل العقل العام: كيف يقوض التشتيت الديمقراطية؟
تمتد عواقب اقتصاد الانتباه إلى ما هو أبعد من صحتنا وإبداعنا الفردي، لتصل إلى صميم صحة مجتمعاتنا. إن الديمقراطية السليمة لا تعتمد فقط على الحق في التصويت أو حرية التعبير، بل تعتمد بشكل أساسي على وجود مواطنين قادرين على الانخراط في تفكير نقدي عميق، وتقييم الحجج المعقدة، والتمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة، والمشاركة في حوار عام بنّاء. كل هذه القدرات تتطلب انتباهًا مستدامًا، وهو بالضبط ما يقوضه النظام الحالي.
عندما تُعاد برمجة أدمغتنا لتفضيل الإشباع الفوري والمحتوى السريع والمثير عاطفيًا، نصبح أكثر عرضة للتلاعب. الخوارزميات، المصممة لتعظيم التفاعل، تكتشف رياضيًا أن الغضب والخوف والاستقطاب هي أقوى أدوات جذب الانتباه. والنتيجة هي «التضخيم الخوارزمي» للمعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
مما يخلق «فقاعات ترشيح» (Filter Bubbles) وغرف صدى تعزلنا عن الآراء المختلفة وتعمق الانقسامات المجتمعية. يصبح من الأسهل استثارة ردود فعل عاطفية قصيرة المدى بدلًا من إقناع الناس من خلال النقاش العقلاني الطويل. وهكذا، فإن مجتمعًا مشتت الانتباه هو مجتمع يسهل حكمه والتأثير عليه، وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًا للعملية الديمقراطية التي تتطلب مواطنين منتبهين ومشاركين بوعي.
استعادة السيادة على الوعي:
ما وراء الحلول الفردية
في مواجهة هذا النظام الجارف، غالبًا ما تُطرح حلول فردية مثل تبني فلسفة «الحد الأدنى الرقمي» (Digital Minimalism) التي يدعو إليها كال نيوبورت. وهي مهمة وبلا شك نقطة انطلاق ضرورية: إغلاق الإشعارات، وتحديد أوقات خالية من الشاشات، وحماية أوقات التركيز، كلها خطوات فعالة لاستعادة جزء من السيطرة.
لكن إلقاء عبء المقاومة على الفرد وحده يتجاهل أن المشكلة بنيوية ومنهجية. إنه أشبه بإلقاء اللوم على الأفراد لعدم قدرتهم على تناول طعام صحي بينما يعيشون في بيئة لا تبيع سوى الوجبات السريعة. يجب أن تتكامل هذه الجهود الفردية مع تحرك جماعي وثقافي أوسع. يستلزم ذلك المطالبة بـتصميم أخلاقي للتكنولوجيا يضع رفاهية الإنسان كأولوية بدلًا من تعظيم وقت الاستخدام. وعلى مستوى العمل، يتطلب الأمر إعادة التفكير جذريًا في ثقافة «الوجود الدائم»، وتبني ممارسات مثل «العمل العميق» (Deep Work)، وتخصيص فترات زمنية محددة ومحمية من المقاطعات، وتشجيع التواصل غير المتزامن الذي لا يتوقع ردًا فوريًا. كما يجب علينا كمجتمع أن نعيد الاعتبار لقيمة الفراغ والملل، وأن ندرك أن الوقت الذي نقضيه في عدم «فعل أي شيء» قد يكون أكثر الأوقات إنتاجية على الإطلاق من منظور الإبداع وحل المشكلات.
في النهاية، اقتصاد الانتباه ليس مجرد ظاهرة تقنية؛ بل هو منطق ثقافي شامل يُعيد صياغة علاقتنا بالزمن، وبالعمل، وبأنفسنا. السؤال الجوهري الذي يواجهنا هو: هل سنظل نسمح لوعينا بأن يُستنزف ويُجزّأ ويُباع، أم سنجد طرقًا فردية وجماعية لإعادة امتلاك انتباهنا؛ وبالتالي امتلاك قدرتنا على التفكير العميق، والإبداع الأصيل؛ وفي نهاية المطاف، عيش حياة ذات معنى؟ الإجابة على هذا السؤال لن تحدد مستقبل التكنولوجيا فحسب؛ بل ستحدد طبيعة التجربة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
بيشوي قليني كاتب ومهندس بيانات