د. معمر بن علي التوبي -
يبدو في الوهلة الأولى أن مصطلح «الاستعمار الرقمي» ذو صبغةٍ سياسة، ولكننا في سطور مقالنا الحالي نرى لمعنى الاستعمار الرقمي مقاصدَ أخرى تتجاوز السياق السياسي أو العسكري؛ فنلمح به «مجازا» إلى الهيمنة الرقمية التي فُرِضت على الإنسان المعاصر نتيجةً لقانون التطوّر العلمي المتسارع الذي أسفر عن اندفاع تقني متقدّم اقتحم معظم مفاصل حياة المجتمعات البشرية؛ فكان في أساسه مشروعا يهدف إلى النمو الصناعي والاقتصادي؛ فانشطر من ذلك نشاطات عرفناها بالممارسات الرقمية وتفاعلاتها؛ لتجعل من حياة الإنسان أكثر يسرا وسرعة، ولكن رغم هذه السرعة، برز الاندماج المفرط بين الإنسان والتقنية؛ فبات وقت الإنسان سريعا وممتلئا بالمهام ومرتبطا بعوالم افتراضية أفقدته عنصر التواصل التقليدي مع الآخر وأفقدته لحظاته مع الطبيعة وأفقدته توازنه النفسي وعمقه المعرفي؛ فسُرقت منه لحظات زمنية كانت تحت مظلة لحظات الملل بمضمونها الإيجابي السائق إلى صناعة الإبداع -كما يلمح إليها الفيلسوف البريطاني «برتراند رسل» في كتابه «انتصار السعادة»-، وبمضمون عام، يمكن القول: إن الاستعمال المفرط غير المتزن للتقنية أركس الوعي البشري بجميع أنواعه وأهمها الوجودية والنفسية والمعرفية والاجتماعية. في مقالنا الحالي، ننطلق من المشاهدات الواقعية في مناقشة الوعي البشري بفطريته الأولى وتعريفه، ونكتشف بعضا من التحديات التي تصاحب حياتنا مع التقنيات وأدواتها، ونحتاج أن نكشف عن بعض المشاهدات المرصودة للممارسات التقنية غير الصحية، وسنعرج إلى شيء من التداخلات العلمية التي تشرح علاقة الإنسان بالتقنية وتراجع مستويات وعيه، ولا يمكن أن نتجاوز التجارب الشخصية لكاتب هذه السطور التي حاول ممارستها لصون الوعي في ظل الاستعمار الرقمي الكاسح.
ماذا نقصد بالوعي؟
من حيثُ المبدأ البدهّي؛ فإننا يمكن أن نعرّف الوعي بأنه القدرة البشرية على ممارسة الإدراك المحكم التحليلي الذي يربط الأزمان الثلاثة (الماضي، الحاضر، والمستقبل) بعضها بعضا؛ فتتشكّل القدرة الإدراكية التحليلية للأحداث أو أثناء محاولة توليد الأفكار عبر عملية مقارنة للزمن الماضي وتجاربه سواء المعرفية المتأتية بالأنماط العقلية أو المكتسبة بشكل شخصي فردي، وهذا ما يجعل الإنسان في حالة وعي بوجود العمليات التحليلية (الحسابية والمقارنة). كذلك نفطن إلى أن الوعي بعمومه يمكن أن يتفرّع إلى مجموعات من الوعي من حيثُ التصنيف؛ فيتكشّفَ لنا الوعي الوجودي الذي يعكس إدراك الإنسان بماهيته وبيئته الخارجية وحتميات مستقبله وفرضياتها، ونرى الوعي المعرفي الذي يتمثّل في ملكَة الإنسان في اكتساب المعرفة ووعيها، ويظهر الوعي النفسي حيثُ يملك الإنسان قدرةً على إدراك مشاعره وتجاذباتها وتمييز أصنافها. في فضاء علمي وفلسفي واسع، تتباين تعريفات العلماء والفلاسفة للوعي؛ فيصفه بعضهم بأنه «المشكلة الصعبة» التي خاض علم النفس وعلم الأعصاب محاولات جادة في تأويله وتحديد آلية عمله، وخاض الفلاسفة المحاولة ذاتها مع الوعي وفهمه؛ فوجدوا أن لتجاربنا بما تشمله من إدراك وتوصيف خاص بنا يكون جزءا من ما أُطلقَ عليه بـ«التجارب الواعية الذاتية» -يُنظر كتاب «الوعي: مقدمة قصيرة جدا» من تأليف: «سوزان بلاكمور» وترجمة: مصطفى محمد فؤاد عن مؤسسة هنداوي لعام 2015.
وهذا ما فاقم من مشكلة الوعي وتعقيد فهمنا لها عبر وجود التقاطع بين الجزء الذاتي والجزء الموضوعي من حيثُ الاتصال والتفاعل وليس في تشابه المخرجات؛ فإدراكنا الذاتي الذي يقع عاتقه علينا مرتبط في أصله بجزء موضوعي يتمثّل في النظام الدماغي ذات الحيّز البيولوجي الذي يشترك في تفاصيله معظم البشر؛ فيكون التساؤل عن منبع الوعي الذاتي الذي لا يُضمن تقاطعه مع التجارب الواعية الذاتية الأخرى؛ فيكون شعور إنسان عند رؤية منظر ما مختلف عن شعور إنسان آخر وقس على ما يضارع هذا المثال. لست في معرض الإطالة والتفصيل في قضية الوعي؛ فحديثا الرئيس متعلق بقضية تأثيرات الاستعمار الرقمي على منطقة وعيينا، وأحيل القارئ إلى كتابي «بين العلم والإيمان»؛ للاستفاضة فيما يخص الوعي وتأويلاته العلمية والفلسفية.
كيف أمكن للتقنية وأدواتها أن تضعف الوعي البشري؟
قبل أن نحدد التحديات المصاحبة للتقنيات وتأثيرها على الوعي البشري؛ فإننا نحتاج إلى تحديد أدق لهذه التقنيات المقصودة، ونراها بأنها كل ما يصل بالأنظمة التقنية التي يهدف الإنسان بواسطتها تقليل الجهد والوقت المبذول في إنجاز مهامه في الحياة بما فيها اكتساب المعرفة؛ فيشمل الحاسب الآلي ومتعلقاته الاتصالية -مثل «الإنترنت» ما يحويه من عوالم افتراضية- الذي أعان الإنسان على العمليات الحسابية والتحليلية والكتابية والبحثية، وكذلك الهاتف -خصوصا المحمول الذكي- الذي أضحى حاسوبا صغيرا متنقلا تجاوز حدود مهمة التواصل مع الآخرين إلى ربط الإنسان بالعالم الافتراضي بشكل عميق ومتأصل؛ فيكون بأشكاله الكثيرة منها منصات وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية التي كانت محصورة في الحواسيب الكبيرة. ألقت كل هذه الأنظمة حملها بكل ثقل وبصورة سلبية على الإنسان؛ فسرقت كثيرا من وقته الذي يمكن أن يقضيه مع نفسه ومع الطبيعة ومع أسرته ومجتمعه، وقلصت قدراته التقليدية التي يعتمد فيها على جهده الدماغي وأخلّت بوظائفه وقدراته التخزينية؛ فصارت عمليات التحليل والتفكير مركونة إلى الآلة الرقمية.
لفت انتباهي ما قرأته في صفحاتٍ لكتاب «فلسفة التجرّد الرقمي» من تأليف: كال نيوبورت عن دراسات علمية أثبتت وجود منطقة في الدماغ أطلق عليها الباحثون بـ«الشبكة الافتراضية» تنشط عندما يكون الإنسان بلا مهام تشغل باله، وأقرب ما يمكننا أن نصف هذه الحالة بأنها لحظة الملل الذي يكون فيها الإنسان ودماغه في حالة سكون؛ فكشفت الدراسات أن الإنسان مع حالة توقّد النشاط في «الشبكة الافتراضية» يكون ذا إدراك اجتماعي أعلى، وهذا ما يؤكد حالة التأمل وارتباطه مع ارتفاع الوعي بأنواعه بما فيه الوجودي والاجتماعي، ولهذا أظهرت دراسات أخرى جاء ذكرها في الكتاب نفسه بأن التفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي من الممكن أن يؤثر على الصحة النفسية -مثل الشعور بالوحدة- والصحة البدنية.
من السهل أن نستجلب مزيدا من الاستشهادات من الدراسات والكتب التي تكشف العلاقة العكسية بين الانخراط المفرط مع التقنية وتدنّي معدلات الإبداع البشري ووعيه النفسي والوجودي والاجتماعي، ولكننا نستأثر أن نظهر جانبا من المشاهدات الواقعية في حياتنا اليومية؛ لنظهر حجم الأزمة التي اجتاحت الكائن البشري نتيجة الاستعمار الرقمي، ومن هذه المشاهدات التراجع المرصود في معدلات القراءة في العالم أجمع، وتواصل إغلاق المكتبات التي لا تجد العدد الجيد من مرتاديها وقرّاء الكتب كما عُهد منذ زمن؛ فالهاتف وما يحويه من تطبيقات ومنصات وصوارف كثيرة متنوعة أبعدت الإنسان عن عادة القراءة، وفاقمت وسائل البحث ومحركاتها السريعة من معضلة تسطيح المعرفة عبر آلية النقر السريع وجلب المعلومة دون بذل جهد دماغي، وأذكر مثالا على ذلك -استطلعته بنفسي- في دولة غربية زرتها قبل ما يقرب من ثلاثة عشر عاما؛ فأذهلني -رغم بدء موجة الاستعمار الرقمي- ظاهرة القراءة عبر الكتب الورقية في الأماكن العامة والقطارات، وبعد ما يقرب من عشر سنوات من هذا المشهد، بدأت ألحظ التغيّر في الدولة نفسها؛ فكان يغلب على المشهد الجديد وجود الهاتف وإدمان الناس عليه وتراجع ملحوظ في عدد قرّاء الكتب. ولّد هذا المشهد وما يضارعه من مظاهر الاستعمار الرقمي هاجسا مخيفا في داخلي؛ فنحن أمام مظاهر تحوليّة مثل تراجع الكتب الورقية وكذلك الإلكترونية أمام الاستعمار الرقمي الذي يفرض معرفة سريعة تلبي الطلب اللحظي وتسلية جذابة تسرق كل لحظات الملل التي كان يمكن للإنسان أن يكسب فيها عشرات الأفكار الإبداعية.
في مشهد آخر، شعرت بفجوة نفسية غير متزنة ترتبط -بشكل ملحوظ- بزيادة معدلات الارتباط الرقمي؛ فتضطرب الأفكار وتتمازج مع أفكار ظاهرة وخفية منبعها أدوات التقنية والمنصات الرقمية، وليست مبالغة أن نقول إن الوعي النفسي المعني بإدراك النفس ومقاصدها يخفت ويذبل مع كل افتراق بين الإنسان وذاته الواعية وبينه والطبيعة التي تجمع الدراسات بأنها مقصدٌ فطري للنفس الإنسانية تحتاج إليه، ولكن الاستعمار الرقمي ومبالغة العيش في تفاصيله كفيلٌ أن يسرق كثيرا من لحظاتنا الخاصة بنا.
كيف نعيد الوعي إلى منطقة توازنه؟
لست داعيا إلى فك الارتباط بالتقنيات وأنظمتها المتطورة؛ فنحن في عالم يتطلب منا أن نكون في حالة توافق مع العلم ومخرجاته، وثمّة كثيرٌ من الجزئيات في حياتنا اليومية لا يمكن أن تتفرد دون التفاعل التقني والرقمي مثل أنظمة المال والبنوك التي تحتاج إلى ضبط دقيق وحماية متناهية، ومنظومتنا الصحية المتعلقة بتشخيص الأمراض وتحليلها السريع والدقيق، وأنظمة مواصلاتنا وما تتطلبه من تنظيم وسلامة، وباتت حياتنا الاجتماعية والمجتمعية أسهل وأسرع بوجود التقنيات. لكننا نحتاج إلى مراقبة مستمرة لوعينا الذي أشرنا إليه بتفرعاته المهمة: الوجودية، والمعرفية، والنفسية، والاجتماعية، ولهذا عبر مراقبة -قمت بها- لمستوى الوعي ومقارنة حالات الوعي بوضعية الاندماج الطويل والواسع مع التقنيات وأدواتها وبوضعية الابتعاد -المؤقت- أو التقليل من التفاعل الرقمي خصوصا غير الضروري مثل الهاتف أو وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الأخرى؛ فشدّ انتباهي أن الارتباط المقنن والمنضبط مع التقنيات وفقَ الضرورات يسهم في رفع مستويات الوعي بدءا من حيثُ توفّر لحظات خاصة -غير ممتلئة بتفاعلات رقمية مستهلكة للوقت- تمنح الذات فرصةً لتنمية الوعي الوجودي الذي يُعنى بإدراك الذات وفهم فلسفتها في الحياة ومآلاتها القادمة، وكذلك بالنسبة للوعي المعرفي؛ فإنه يرتقي ويتعزز، وهذا ما يحدث مع الوعي النفسي الذي لا يمكن أن ينفصل عن الوعيين الوجودي والمعرفي. من الممارسات التي بدأتها -بشكل كامل لبعضها ومؤقت لبعضها الآخر- الصوم الرقمي -شبه الدائم والمتقطّع- الذي أبتعد فيها لفترات زمنية محددة عن استعمال الهاتف والحاسوب -إلا في المحيط الخاص والضروري-، والابتعاد عن التفاعل في منصات وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة ما يدور فيها؛ فلا أجد أن متابعتي أو تفاعلي مع هذه المنصات ذو ضرورة ملحة؛ فوجدت في مطالعة الصحف المحلية والعالمية المجلات والدراسات المنشورة ملاذا كافيا لإدراك مستجدات الحياة بكل أنواعها، واكتشفت بعد ممارسة الصوم الرقمي ارتقاءً في درجات الوعي عبر الشعور بالواجب والضروري وعبر تقليص السماح للسلبيات بالولوج إلى منطقة الوعي الخاصة بي.
كذلك اتجهت إلى الإقلال من قراءة الكتب الإلكترونية التي كنت -عادة- أعتمد منصات وتطبيقات مثل «كندل» خصوصا للكتب الأجنبية غير المتوفرة ورقيا؛ فسعيتُ أن أحصل على الكتب الورقية باللغة العربية أو الإنجليزية عبر منافذ متعددة منها المحلية -المكتبات ومعرض الكتاب السنوي- وخارجيا -عبر الطلب والشحن أو فترة السفر-؛ فأعدت للمعرفة وعيها وهيبتها وسطوتها التي أعادتني إلى الشعور بمتعة المعرفة والتنقيب في حقولها الكثيرة، وهذا ما أحاوله -رغم أن السطوة التقنية ما زالت مهيمنة- في الكتابة عن طريق استدعاء القلم والأوراق؛ فارتفعت مستويات الوعي المعرفي التي وجدت طريقا أفضل إلى الصعود عبر المطالعة والقراءة التقليدية؛ فتحفّزت الذاكرةُ وتفاعل الذهنُ بشكل أفضل.
أمكن لي أن أقيس مدى نجاح هذه الممارسات والشعور بتفوقها وما أحدثته من رفع في سلم الوعي والطاقة إبان موسم الحج الأخير الذي تكيّفت في مدة تقترب من عشرة أيام في ممارسة الصوم الرقمي بمعظم أنواعه، فاكتشفت كثيرا من اللحظات الماتعة التي كانت تهدر بواسطة الاستعمار الرقمي؛ فتقلبتُ في هذه اللحظات بين ازدحام جدولي في العبادات وتأدية مناسك الحج والتأمل والقراءة الورقية وتدوين الأفكار والخطط بالقلم والورقة، وكانت هذه الفترة من الصوم الرقمي كفيلة برفع الوعي بعمومه الذي انعكس في توليد مشاعر نفسية مرتفعة والشعور بالوجود الذاتي والانفتاح المعرفي الإبداعي. لعلّ تجربة الحج من أطول الفترات التي اقتربت فيها من نفسي ومن فطرتها البعيدة عن الأسر الرقمي واستعماره، وقبلها كنت أتحيّن الفرص -في فترات متباعدة- للخلو مع الطبيعة -جبال وصحراء- لمدة يوم أو يومين والتخفف من الالتصاقات التقنية. أجدد القول إنني لست زاهدا في التقنية ومخرجاتها الضرورية ومنصرفا عنها، ولكنني داعيا إلى مراقبة الوعي والحفاظ عليه من أيّ استعمار رقمي ضار عن طريق الزهد المؤقت والمتقطّع في التقنيات وأدواتها.
د. معمر بن علي التوبي، أكاديمي وباحث عُماني